الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمّا إذا قلت: نكح فلان ابنة فلان، فالمراد: العقد، بمعنى عقد عليها، إذا لم تكن زوجة له؛ فقرينة الحال هي التي دلتنا على المعنى المراد من لفظ النّكاح.
قال المؤلف رحمه الله: (يُشْرَعُ لمِنَ اسْتَطاعَ الباءَةَ)
تطلق كلمة (يُشْرَعُ) ويراد بها: الواجب، أوالمستحب، وربما دخل فيه المباح بالشرع.
حكم النكاح:
أفادنا المؤلف من حكم النكاح المشروعية، أي الجواز لمن استطاع الباءة.
والباءة: أصلها الموضع الذي يأوي إليه الإنسان.
والمراد هنا: النّكاح، فمن عنده قوة بدنية وقدرة مالية على الزواج، يُشرع له النّكاح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«يامَعْشَرَ الشبابِ من استطاع منكم الباءَةَ فليتزوج؛ فإنه أَغَضُّ للبَصَرِ وأحصنُ للفرجِ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنّه له وِجَاءٌ (1)» (2).
أي يقطع عليه الشهوة أو يخفف من حدتها.
مسألة:
المشروعية التي استفدناها قد يراد بها الواجب أو المستحب أو المباح؛ فهل النكاح واجب أم مستحب أم مباح؟
بناء على قواعد أصول الفقه؛ فإن ظاهر الحديث يدلّ على الوجوب لمن استطاع الباءة، وقد عرفنا أنّ الحديث أو الآية - أي الدليل - إذا كان ظاهره الوجوب؛ فلا يجوز صرفه عن الوجوب إلّا بقرينة.
وعندنا هنا قرينة دلّت على أن الأمر ليس للوجوب بل للاستحباب؛ وهي التخيير في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ
(1). قال ابن الأثير في «النهاية في غريب الحديث والأثر» (5/ 152):
«الوجاء: أن ترض أنثيا الفحل رضاً شديداً يُذهب شهوة الجماع، ويتنزل في قطعه منزلة الخصي. وقد وجِئ وجاء فهو مَوجُوء.
وقيل: هو أن توجأ العروق، والخصيتان بحالهما. أراد أن الصوم يقطع النكاح كما يقطعه الوجاء».
(2)
أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فقد خيره تبارك وتعالى بين النكاح والتَّسرِّي - أي الاستمتاع بالأمة -، فلو كان النّكاح واجباً لما خيره بين واجب وغير واجب، فالتخيير ينافي الوجوب؛ فكونه صار جائزاً له أن يتركه وأن يكتفي بالتسري دل على أنّه ليس بواجب؛ لأنه لو فعل غير الواجب وهو التَّسَرِّي صار تاركاً للواجب، والواجب لا يجوز تركه، هذا مقرر في أصول الفقه؛ وهو أنّه لا يصحّ التخيير بين واجب وغيره؛ لأنّه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأنّ تاركه لا يكون آثماً.
هذا المذهب - وهو أن النكاح على من استطاع الباءة ليس واجباً بل مستحباً - هو مذهب جمهور العلماء.
أما إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية؛ فواجب كما قال المؤلف.
قال رحمه الله: (وَيَجِبُ عَلى مَنْ خَشِيَ الوُقُوُعَ في المَعْصِيَةِ)
يفهم من كلامه هذا أنّه لا يريد بقوله الأول (يُشرع لمن استطاع الباءة)؛ الوجوب.
فيبقى عندنا إمّا الاستحباب أوالإباحة؛ وقد قدّمنا أنه مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب فيه، وقد جاء هذا الترغيب في أحاديث كثيرة؛ منها:«من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (1).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» (2) في هذا ترغيب في الإكثار من الولد، والاكثار من الولد لا يكون إلّا بالنّكاح.
أوجب المؤلف هنا النكاح عند الاستطاعة على النّكاح والخوف من الوقوع في المعصية؛ وكلامه رحمه الله حق؛ لأنّ النّكاح في هذه الحالة يحفظ عليه دينه بإعانته على ترك الحرام.
تأتينا هنا القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب، فترك الحرام واجب، ولا يتم هذا الواجب إلّا بالنّكاح؛ فالنّكاح واجب.
وتفصيل هذه القاعدة في أصول الفقه في مبحث الواجب من الأحكام التكليفية.
قال ابن قدامة: وأجمع المسلمون على أن النكاح مشروع، واختلف أصحابنا في وجوبه؛
(1) تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي (3227) عن معقل بن يسار رضي الله عنه، وسيأتي إن شاء الله.
فالمشهور في المذهب أنه ليس بواجب، إلا أن يخاف أحد على نفسه الوقوع في محظور بتركه، فيلزمه إعفاف نفسه، وهذا قول عامة الفقهاء.
وقال: فصل: والناس في النكاح على ثلاثة أضرب:
منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه، وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح.
الثاني: من يستحب له، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور، فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة.
القسم الثالث: من لا شهوة له، إما لأنه لم يُخلق له شهوة كالعِنِّين، أو كانت له شهوة فذهبت بكبر أو مرض ونحوه.
ففيه وجهان؛ أحدهما: يستحب له النكاح؛ لعموم ما ذكرنا. والثاني: التخلي له أفضل؛ لأنه لا يُحصل مصالح النكاح، ويمنع زوجته من التحصين بغيره، ويضر بها، ويحبسها على نفسه، ويعرض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يتمكن من القيام بها، ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة فيه. انتهى باختصار.
قال المؤلف رحمه الله (والتَّبَتُّلُ غَيْرُ جَائِزٍ)
التَّبَتُّلُ: القطع، ومنه مريم البتول؛ لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً وديناً.
وفي الشرع: الانقطاع عن النساء، وترك النّكاح انقطاعاً إلى عبادة الله.
وهو محرم في الإسلام، مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:«ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا» (1).
أي: منعه منه ولم يقره عليه، ولو أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون بالتبتل لقطعوا الخُصى - جمع خُصية - وأزالوها أو رَضّوا الخُصى بحيث تنقطع الشهوة أو تضعف، فيقطعون بذلك أنفسهم عن النساء ويتفرّغون لعبادة الله؛ لكن هذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرده.
(1) أخرجه البخاري (5073)، ومسلم (1402).
ومعنى تقالّوها: أي رأوها قليلة.
فهذا يدلّ على أنّ ترك الزواج للمبالغة في التعبُّدِ محرم شرعاً.
قال المؤلف رحمه الله: (إلّا لِعَجْزٍ عَنِ القِيامِ بِما لابُدَّ مِنْهُ)
فالتبتل غير جائز إلّا لعجز عن القيام بما لابد منه في النكاح؛ فله أن ينقطع عن النكاح.
كأن يكون الرجل غير قادر على جماع النساء، أو غير قادر على تحمل مسؤولية البيت وما يحتاج إليه من نفقة ورعاية وغير ذلك؛ لما ثبت للمرأة والأولاد من حقوق في الإسلام واجبة لهم على الزوج، فمن لم يكن قادراً على إعطائهم حقوقهم والقيام بواجبهم فلا يتزوج.
هذا الصنف من الناس اليوم كثير وكثير جداً؛ فإنهم يتزوجون وهم ليسوا أهلاً للزواج، بل ويُطالب الرجل زوجته بحقوقه، ولا يريد أن يعطيها ولا يعطي أولاده حقوقهم، مثل هذا عدم زواجه خير له من أن يُراكم على نفسه الآثام والذنوب والحقوق الكثيرة.
قال المؤلف رحمه الله: (وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ المَرْأَةُ وَدُوْدَاً وَلُوُدَاً بِكْرَاً ذَاتَ جَمَالٍ وحَسَبٍ وَدِيِنٍ ومالٍ)
هذه الصفات التي ذكرها المؤلف هي التي تُرغِّبُ في المرأة:
(الودود): المُتحبِّبة إلى زوجها بالكلام الطيب الجميل وبالخدمة والعشرة الحسنة.
(الولود): كثيرة الولادة.
(البكر): غير المدخول بها.
(ذات الجمال): الجميلة.
(1) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
(ذات الحسب): صاحبة الشَّرف، بالآباء والأقارب.
(ذات الدين): مسلمة طائعة لله.
والمال معروف لا يجهله أحد.
فإذا ظَفِر الرجلُ بامرأة جمعت هذه الأوصاف كلَّها فخيرعلى خير؛ لأنه سيحصل من ورائها على خيري الدنيا والآخرة، وإلّا فليأخذ ذات الدين ويقدمها على غيرها؛ لأنها هي التي ستعينه على أمر الدنيا والآخرة؛ لقوله: صلى الله عليه وسلم «تُنكَحُ المرأةُ لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فَاظفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَت يداكَ» (1)
(اظفر) أي فز بصاحبة الدين؛ لأنّها هي التي تعينك على دينك ودنيك، وهي التي تتقي الله فيك وتعطيك حقوقك.
(تَرِبَتْ يداكَ): أي التصقت يداك بالتراب من الفقر، هذه دعوة بالخسران كانت تستعمل عند العرب، ثم خرجت عن معناها بعد ذلك فصارت تُستعمل للحث على الفعل والترغيب به، والتعجب والتنبيه؛ وما شابه.
وأمّا الودود والولود؛ فورد فيهما قوله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الوَدُودَ الولودَ فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة» (2).
في هذا ترغيب في المرأة المتحببة لزوجها، كثيرة الولد.
وربما يقول قائل: كيف تُعرف البكر بأنّها تنجب كثيراً أم لا؟
قال أهل العلم: تقاس بقريباتها من النساء، يعني ينظر إلى أمّها، وأخواتها، وخالاتها، وعماتها، ففي الغالب تكون المرأة كقريباتها.
قال رحمه الله: (وتُخْطَبُ الكَبِيرَةُ إلى نَفْسِها، والمُعْتَبَرُ حُصُولُ الرِّضا مِنْها لِمَن كان كُفْأً)
الكُفْء هو: النظير والمساوي، أي يكون مثلها مساوياً لها في الدين.
الكبيرة هي التي بلغت؛ إذ يكون لها عقل تدرك به ما يناسبها وما لا يناسبها.
(1) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود (2050)، والنسائي (3227) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وأخرجه أحمد (20/ 63)، وغيره من حديث أنس رضي الله عنه.
وأمّا الصغيرة فلا معنى لإذنها؛ فلا تدرك ما يناسبها ومالا يناسبها، وما فيه مصلحة وما ليس فيه مصلحة لها، فلا اعتبار لرضاها ولا لسخطها، بل المعتبر حصول الرضا من الكبيرة، بأن ترضى بالشخص الذي يكون كُفءً لها.
والكفاءة المعتبرة في الشرع - على الصحيح من أقوال أهل العلم-: المساواة في الدين فقط لا غير، وهو مذهب مالك وجماعة من الصحابة، ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فاظفر بذات الدين تربت يداك» حَثّه على ذات الدّين فقط.
وثبت عن الصحابة أنّهم كانوا يُزوِّجون الموالي، فلم يعتبروا المساواة في النَّسب.
قال ابن عبد البر: جملة مذهب مالك وأصحابه أن الكفاءة عندهم في الدين، وقال ابن القاسم عن مالك: إذا أبى والد الثيِّب أن يزوجها رجلاً دونه في النسب والشرف إلا أنه كفء في الدين؛ فإن السلطان يزوجها، ولا ينظر إلى قول الأب والوَلِي مَن كان، إذا رضيت به وكان كُفءً في دينه، ولم أسمع منه في قِلة المال شيئاً.
قال مالك: تزويج المولى العربية حلال في كتاب الله عز وجل، قوله:{إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .. } الآية وقوله: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} . انتهى
قال المؤلف (والصَّغِيِرَةُ إلى وَلِيِّها)
أي وتُخطب الصغيرة إلى وليها؛ لأنّه لا يُعتبر رضاها، لصغرها وعدم إدراكها ما يناسبها.
قال: (وَرِضَا البِكْرِ صُمَاتُها)
تُستأذن البكر؛ فيُقال لها مثلاً: خطبك فلان ابن فلان، فإذا سكتت أو ضحكت دلّ ذلك على رضاها.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُنكحُ الأَيِّمُ حتى تُستَأمَرَ، ولا تُنكحُ البِكرُ حتى تُستأذنَ» قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنُهَا؟ قال:«أن تَسكُتَ» (1).
(1) أخرجه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البِكرُ تُستَأذن» قلت: إن البكر تستحيي؟ قال: «إِذنُها صُمَاتُهَا» (1) متفق عليه.
أي قالت له عائشة: تستحي المرأة البكر أن تقول أنا موافقة أو أريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى:«فذلك إذنُها إذا هي سكتت» (2).
وفي رواية عند مسلم: «الثَّيبُ أحق بنفسها مِن وَلِيها، والبِكرُ يَستأذنُها أبوها في نفسها، وإذنُها صُماتُها» (3).
أمّا الثيب؛ فليس المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «الثيب أحق بنفسها من وليها» أن تعقد العقد بنفسها فتزوج نفسها من غير موافقة وليها؛ لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا نكاح إلّا بولي» (4) هذا يشمل البكر والثيب فلا يصح نكاحهما إلا بولي، وإنما يدلُّ قوله «أحق» - وهي أفعل تفضيل - أنّها أعظم حقّاً من وليها، لا على أنّها متفرِّدة بالحق، فلا يزوجها وليها إلا برضاها، فهي أحق منه في الرضا لا في العقد.
فإذا اختلفت مع وليها في كُفءٍ، فهي أولى من وليها؛ فيقدم قولها على قوله؛ فترفع أمرها إلى القاضي ويزوجها القاضي، فهي أحق في مثل هذا.
فتبين مما تقدم أنّ البنت إذا كانت كبيرة بحيث تكون بالغة فلابد من رضاها سواء كانت بكراً أم ثيّباً وسواء كان الولي الأب أم غيره من عصبتها على الصحيح. والله أعلم.
قال المؤلف: (وتَحْرُمُ الخِطْبَةُ في العِدَّةِ)
(الخِطبة) بكسر الخاء: طلب المرأة للزواج.
أمّا بالضم (الخُطبة)؛ فهي الكلام الذي يُلقى على المنابر وما شابه.
و(العِدَّةُ): تربص المرأة مُدة محددةً شرعاً بسبب فُرقة نكاح أو وفاة.
(1) أخرجه البخاري (6971)، ومسلم (1420) واللفظ للبخاري.
(2)
تقدم تخريج في الحديث الذي قبله، واللفظ لمسلم.
(3)
أخرجه مسلم (1421) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أحمد (32/ 280)، وأبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
فإن المرأة إذا طُلِّقَت دخلت في العِدّة - وهي مدة زمنية حددها الشارع- فتبقى فيها إلى أن تنتهي، ثم بعد ذلك يَحِلّ لها الزواج، وأما قبل انتهاء العدة؛ فلا يحل لها الزواج؛ فتسمى هذه المدة الزمنية عدّة، وكذلك المرأة التي يُتوفَى عنها زوجها، تتربص بنفسها مدة زمنية إلى أن تنتهي، أي تراقب نفسها وتنتظر انتهاء المدة، ثم بعد ذلك يجوز لها أن تتزوج.
فالمراد بالعدّة في كلام المؤلف: عدة الطلاق أو الموت.
والذي يَحرُم فيها هو التصريح بالخِطبة لجميع المعتدات.
وأمّا التعريض فهو أن يذكر لها إشارة أنّه يرغب بيها ولا يُصرّح لها؛ كقوله: «أريدك للزواج» هذا تصريح؛ بل يشير إشارةً فقط؛ كأن يقول لها مثلاً: «أريد الزواج» ، أو «وَدِدت أن يُيسر الله لي امرأة صالحة» ، فتكون هذه إشارة يشير بها أنّه يريد أن يتزوجها، فهذا يسمى تعريضاً.
والتعريض جائزٌ لبعض المعتدات لا كلهن؛ كالمُتوفَى عنها زوجها مادامت في العدة.
أمّا المعتدة عدة طلاق رجعي؛ فلا يُعرِّض ولا يُصرِّح لها؛ لأنّها لا تزال زوجةً لرجل، ولزوجها فيها حقٌ.
الطلاق الرجعي يكون في الطلقة الأولى أو الثانية، لزوجها أن يرجعها ما دامت المرأة لم تُنه العدة، يرجعها من غير عقد جديد ولا مهر جديد.
وأما المُطلقة طلاقاً بائناً - يعني لا رجعة فيه ويكون في الطلقة الثالثة- فمُختلف في جواز التعريض لها، قال الحافظ ابن حجر:«والحاصل أن التصريح بالخِطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للأولى، حرام في الأخيرة، مختلف فيه في البائن» (1). انتهى
الأولى هي المُتوفَى عنها زوجها، والأخيرة: هي المعتدة من طلاق رجعي، والبائن: أي المطلقة طلاقاً بائناً لا رجعة فيه.
ودليل ما ذكره المؤلف من تحريم الخِطبة في العدّة مفهوم قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة، 235]، فمفهوم هذه الآية: أن ما صرحتم به فعليكم جناح.
(1)«فتح الباري» (9/ 179).
وتحريم التصريح والتعريض للمطلقة طلاقاً رجعياً؛ لأنّها زوجة لزوجها، ولم تنته الزوجية بعد، فحق زوجها لايزال قائماً فيها.
وأمّا تحريم التصريح لغيرها خشية أن تكذب المرأة في العدّة استعجالاً للزواج ممن طلبها صراحة، لذلك مُنِع الرجل من طلبها صراحة مادامت في عدّتها.
قال المؤلف رحمه الله: (أو على الخِطْبَةِ)
أي وتحرُم الخِطبة على الخِطبة، ومراده أن خِطبة المرأة مُحرَّمة إذا خطبها مسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«ولا يَخطُب على خِطبة أخيه حتى ينكح أو يترك» (1)، وفي رواية:«إلّا أن يأذن له» (2) متفق عليه.
وتحريم ذلك ليس بمجرد أن يطلب المسلم المرأة يحرم عليك طلبها، بل بأن يصرح له بالقبول، ولم يأذن لأحد بخطبتها ولا ترك هو ذلك.
وهذا النهي فيما لو كان الخاطب رجلاً مسلماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يخِطب على خِطبة أخيه» (3) فليس داخلاً في النهي الكافر؛ اليهودي والنصراني إذا طلبا امرأة يهودية أو نصرانية وأراد المسلم أن يتزوجها، فلا يقال له لا تخطب على خطبة اليهودي أو النصراني؛ لأنّه ليس أخاً له.
والنهي عن خطبة الرجل على خطبة أخيه المسلم لئلا تحدث العداوة والبغضاء في قلوب المسلمين بعضهم على بعض، وهذا المعنى غير وارد في اليهودي والنصراني فيختص بالمسلم وليس في ذلك حق لغير المسلم حتى يُحترم.
وأمّا قولنا بأنّه ليس بمجرد أن يطلب الرجل المرأة يَحرُم على الآخر أن يطلبها؛ فقلنا هذا جمعاً بين حديثين: الأول: «ولا يخطِب على خِطبة أخيه حتى ينكح أو يترك» .
والثاني: ما جاء في «صحيح مسلم» : أن فاطمة بنت قيس بعدما طلّقها زوجها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حللت فآذنيني» ، فجاءته وأخبرته أنّ معاوية وأبا جهم خطباها، ومع علمه بذلك، بعد أن أعلمته أنّ معاوية وأبا جهم خطباها، قال لها صلى الله عليه وسلم: «أما معاوية فصعلوكٌ لا
(1) أخرجه البخاري (5143) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجها البخاري (5142)، ومسلم (1412) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(3)
تقدم تخريجه.
مال له، وأمّا أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه -يعني: يكثر من ضرب للنساء- انكحي أسامة بن زيد» (1)
فحصلت الخِطبة من النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد.
فجمعنا بين الحديثين بأن قلنا: إن النهي عن الخِطبة على خطبة المسلم إنما يكون في حال أن المرأة خُطِبَت للأول وركنت إليه وقبلت به، أما إذا خُطِبت - مجرد طلب - بدون أن تركن إلى الرجل الذي طلبها وتقبل به، فيجوز للآخر أن يخطبها.
قال النووي رحمه الله: هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه، وأجمعوا على تحريمها إذا كان قد صُرِّح للخاطب بالإجابة ولم يأذن ولم يترك.
فلو خطب على خطبته وتزوج والحالة هذه عصى وصح النكاح ولم يفسخ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال داود: يفسخ النكاح، وعن مالك روايتان كالمذهبين، وقال جماعة من أصحاب مالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده.
أما إذا عُرِّض له بالإجابة ولم يُصرح ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي، أصحهما لا يحرم، وقال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضوا بالزوج ويسمى المهر.
واستدلوا لما ذكرناه من أن التحريم إنما هو إذا حصلت الإجابة بحديث فاطمة بنت قيس، فإنها قالت: خطبني أبو جهم ومعاوية.
فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض، بل خطبها لأسامة، وقد يُعترض على هذا الدليل فيقال: لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بأسامة لا أنه خطب له.
واتفقوا على أنه إذا ترك الخطبة رغبة عنها وأذن فيها جازت الخطبة على خطبته وقد صرح بذلك في هذه الأحاديث. انتهى كلامه.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُسْتَحَبُّ النَّظَرُ إلى المَخْطُوبَةِ)
بيّن رحمه الله بقوله: «يستحب» أن النّظر إلى المخطوبة مُستحب؛ لحث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، كما جاء في خبر الرجل الذي أخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنّه تزوج امرأة من الأنصار، أي طلبها
(1) أخرجه مسلم (1480) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
للزواج، فقال له صلى الله عليه وسلم:«أنظرت إليها؟ » قال: لا، قال:«فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً» (1).
وأخرج أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم المرأة فإذا استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» ، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى إذا رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها؛ تزوجتها (2).
دلَّ هذا على أنّ رؤية المرأة ممن أراد أن يخطبها جائزة؛ سواء كانت تعلم أنّه سيراها أو لا تعلم ذلك لا فرق.
واختلف العلماء فيما يجوز له رؤيته منها على مذاهب؛ فالبعض قال: الجائز من ذلك الوجه والكفان فقط، والبعض قال: يرى ما يظهر غالباً كالرقبة والساقين والشعر ونحو هذه الأشياء، والبعض قال: النّظر إليها كلّها عورة وغير عورة، ينظر إلى كل شيء، واستبعد بعض أهل العلم هذا المذهب الأخير، والراجح عندي الثاني، والأول أحوط للدين. والله أعلم.
قال ابن قدامة في المغني: لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها.
وقال: ولا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة، ولا لريبة، قال أحمد في رواية صالح: ينظر إلى الوجه ولا يكون عن طريق لذة، وله أن يردد النظر إليها، ويتأمل محاسنها؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك.
وقال: فصل: ولا خلاف بين أهل العلم في إباحة النظر إلى وجهها، وذلك لأنه ليس بعورة، وهو مجمع المحاسن، وموضع النظر.
ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة، وحُكي عن الأوزاعي أنه ينظر إلى مواضع اللحم. وعن داود أنه ينظر إلى جميعها؛ لظاهر قوله عليه السلام:«انظر إليها» .
وقال: فأما ما يظهر غالباً سوى الوجه، كالكفين والقدمين ونحو ذلك، مما تظهره المرأة في منزلها؛ ففيه روايتان؛ إحداهما: لا يباح النظر إليه؛ لأنه عورة فلم يبح النظر إليه، كالذي لا
(1) أخرجه مسلم (1424) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (22/ 140)، وأبو داود (2082) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
يظهر، فإن عبد الله روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المرأة عورة» حديث حسن، ولأن الحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه، فبقي ما عداه على التحريم.
والثانية: له النظر إلى ذلك، قال أحمد في رواية حنبل: لا بأس أن ينظر إليها، وإلى ما يدعوه إلى نكاحها، من يد أو جسم ونحو ذلك.
قال أبو بكر: لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة، وقال الشافعي: ينظر إلى الوجه والكفين.
ووجه جواز النظر إلى ما يظهر غالباً، أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا أذن في النظر إليها من غير علمها، عُلم أنه أذن في النظر إلى جميع ما يظهر عادة؛ إذ لا يمكن إفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور؛ ولأنه يظهر غالباً، فأبيح النظر إليه كالوجه.
ولأنها امرأة أبيح له النظر إليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إلى ذلك، كذوات المحارم. انتهى باختصار.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا نِكاحَ إلّا بِوَليٍّ وشاهِدَيْن)
أي لا يصحّ النّكاح إلّا بوليٍّ وشاهدين، قال صلى الله عليه وسلم:«لا نكاح إلّا بوليٍّ» (1) فدل هذا الحديث على أنّ النّكاح لا يصح إلّا بوليٍّ؛ لأنّ الأصل في النفي الحقيقة، فإذا قلت: لا خالق إلّا الله، فلا وجود لخالق إلّا الله سبحانه وتعالى، فالنفي هنا على أصله عائدٌ إلى نفي حقيقة الشيء أي وجوده، يعني لا يوجد أحدٌ يخلق إلّا الله سبحانه وتعالى.
لكن إذا تعذر هذا الأصل انتقلنا إلى نفي الصّحة؛ لأنّها أقرب شيء إلى الحقيقة، فلو قلنا مثلاً هنا: لا نكاح إلّا بوليٍّ، هل نفيت الحقيقة هنا؟
لا؛ لأن من الممكن أن تُزوج المرأة نفسها.
لكن هذا من الناحية الشرعية باطل غير صحيح، فعاد النفي إلى الحقيقة الشرعية، وهي نفي الصّحة؛ فنقول: لا نكاح صحيح إلّا بوليٍّ.
(1) أخرجه أحمد (19518)، وأبو داود (2085)، والترمذي (1011)، وابن ماجه (1881)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
فإذا تعذر الحمل على الصّحة ننتقل إلى ثالث وهو الكمال، ولكن لا ننتقل إلى الكمال ونترك الصّحة إلّا إذا وُجدت قرينة تبين ذلك.
مثال على ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (1) هذا فيه نفي للإيمان عن الزاني،
أهو نفي للصّحة؟ لا؛ الصحة موجودة، أي صحة الإيمان، لأننا لو قلنا إنّه نفي للصّحة تعارض هذا الحديث مع حديث أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله، قال:«وإن زنى وإن سرق» ، حتى قال:«وإن زنى وإن سرق وإن رغم أنف أبي ذر» (2)، فدلّ ذلك على أنّ الزاني يدخل الجنة في نهاية أمره.
إذن نفي الإيمان عنه نفي لكمال الإيمان الواجب.
يقول ابن تيمية رحمه الله: «إنّ النفي لا يأتي على نفي الكمال المستحب البتة» ، لا ينفي الله تبارك وتعالى العمل ويكون المعنى المراد من ذلك نفي الكمال المستحب البتة، إذا نفى العمل فإمّا أن ينفي صحته أو أن ينفي كماله الواجب.
إذن فالنفي المراد بقوله: «لا نكاح إلّا بوليٍّ» هونفي الصحة، أي لا نكاح صحيح إلّا بوليٍّ، فيدلّ ذلك على أنّ الوليَّ شرطٌ من شروط صحة عقد النّكاح.
وهناك أدلة أخرى استدل بها العلماء على شرطية الوليِّ في النّكاح منها: قول الله تبارك وتعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
…
} [البقرة الآية 232].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «هي أصرح آية في اعتبار الوليِّ وإلّا لما كان لعضله معنى» (3)، والعضل هو: منع وليِّ المرأةِ المرأةَ التزويج.
(1) أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (5827)، ومسلم (94) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(3)
انظر «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري» (8/ 49) للقسطلاني
ومعنى ما ذكر عن الشافعي في «الأم» له (5/ 13).
فلماذا ينهاه الله سبحانه وتعالى عن عضل المرأة - أي منعها من التزويج - إذا كان الزواج يصحّ من غيرأمره، فلا ينهاه عن ذلك إلّا ويكون له أمر وأنّ الزواج لا يصحّ إلّا بموافقته.
وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان وليُّ من لا وليَّ له» (1).
هذه الأدلة كلّها تدلّ على شرطية الوليِّ في النّكاح، وأنّ النكاح من غير ولي لا يصحّ، هذا مذهب جمهور العلماء.
من هو الولي المراد في قول المؤلف: «لا نكاح إلّا بولي» .
الوليّ: هو من يتولى تزويج المرأة، والأحقّ في ذلك أبوها ثم وصيُّه بالنّكاح، أي من أوصاه أبوها أن يُنكحها، ثم جدها لأب - والد الأب -، ثم ابنها، ثم أخوها، ثم عمها، ثم أقرب العصبة نسباً ثم الحاكم.
شروط الولي:
- ويشترط في الوليِّ أن يكون ذكراً، فلا يصحُّ أن تكون الأنثى ولياً؛ لأنّها لا يصحّ أن تزوج نفسها، فغيرها من باب أولى.
- وأن يكون بالغاً
- عاقلاً
- مسلماً؛ فلا ولاية لكافرٍ، وقد نقل ابن المنذر رحمه الله الاتفاق على أنّ الكافر لا يكون ولياً لابنته المسلمة (2).
- أن يكون أميناً على من يتولّاها، وسيأتي من كلام المؤلف قوله (ولا يُشترط أن يكون عدلاً في دينه)؛ فيكفي أن يكون أميناً على من يتولى أمرها؛ فالعدالة ليست شرطاً على الصحيح من أقوال أهل العلم.
(1) أخرجه أحمد (40/ 243)، وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
«الإجماع» (ص 78) لابن المنذر.
قوله (وشاهدين) انتقلنا إلى مسألة الشهادة.
هل وجود شاهدين في النّكاح شرط لصحة النكاح أم لا؟
بناءً على قول المؤلف: نعم، لأنّه قال:(لا نكاح إلّا بوليٍّ وشاهدين)، وهذه الزيادة - وشاهدين - جاءت في نفس حديث:«لا نكاح إلّا بولي» ، وجاء في بعض الروايات:«لا نكاح إلّا بوليٍّ وشاهدي عدل» (1) ولكن زيادة: «وشاهدي عدل» لا تصح، والصحيح أنّها ضعيفة، الصحيح فقط:«لا نكاح إلا بولي» .
وقد اختلف العلماء في حكم الإشهاد في النّكاح؛ فجعل بعضهم ذلك شرطاً كما هو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله، والبعض جعل الشرط: الإعلان وليس الإشهاد، فبمجرد أن يُعلَن النّكاح يكون صحيحاً.
والصحيح ما قاله ابن المنذر رحمه الله، قال: وليس يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الشاهدين في النّكاح خبر، إلّا حديث مرسل عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الشاهدين لا تقوم به الحجّة، ولم يرفعه أكثرهم.
يعني أكثر المحدثين أو الرواة الذين رووا الحديث لم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وإيجاب الشهود في عقد النكاح إيجاب فرض، والفرائض لا يجوز إيجابها إلّا بحجّة، ولا حجّة مع من أوجب الشاهدين عند عقد النّكاح.
قال: والدليل على صحة النكاح من غير شهود حديث أنس قال: «كنت رديف أبي طلحة يوم خيبر قال: ووَقَعَت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم من دحية بسبعة أرؤس، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليمتها التمر والأقط والسمن، وقال الناس: ما ندري أتزوجها أم جعلها أم ولد، فقالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلمّا أراد أن يركب حجبها حتى قعدت على عجز البعير، قال: فعرفوا أنّه تزوجها» (2)، قال ابن المنذر: ففي هذا الحديث إذ استدل من حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على تزويج صفية بالحجاب دليلٌ
(1) أخرجه ابن حبان (4063)، والدارقطني في «سننه» (3534)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 202) من حديث عائشة رضي الله عنها.
ولها شواهد أخرى؛ ولكنها لا تصح في شيء منها، انظرها في «الروض الباسم بترتيب وتخريج فوائد تمام» (2/ 401 فما بعده).
(2)
أخرجه البخاري (5159)، ومسلم (1365).
على إجازة النكاح بغير شهود. أي أنّهم لم يعلموا أنّه تزوجها إلّا بالحجاب، ولو كان وجود الشهود في النّكاح شرطاً لأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على زواجه هذا، وعلموا ذلك من الشهود.
قال: وفي إنكاحِ أبي بكر النبيَ صلى الله عليه وسلم عائشةَ دليلٌ على ذلك، إذ لا نعلم في شيء من الأخبار أنّ شاهداً حضر عقد ذلك النكاح (1).
هذا دليل آخر على صحة النكاح من غير شهود، وهو الذي نميل إليه بعدم وجود دليل يُثبت وجوب أو شرطية شاهدين، لاشك أنّ وجود الشهود أفضل وأحسن، وإعلان النكاح أيضاً أفضل وأحسن، لكن أن نجعل ذلك شرطاً ونلزم به العباد هذا يحتاج إلى دليل قوي على ذلك. والله أعلم
قال المؤلف رحمه الله: (إلا أن يَكونَ عاضِلاً)
(العَضْلُ): منع ولي المرأةِ المرأةَ التزويج من كُفء.
فإذا كان الوليُّ عاضلاً - أي يمنع المرأة التزويج من كفء- لا يكون له الحقّ في تزويجها وترفع أمرها للقاضي فَيُزوجها.
والعضل مُحرّم لقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوف
…
} [البقرة الآية 232]، فإذا عضل الوليُّ انتقلت الولاية إلى من بعده؛ لأنّه ظالم لم يصن الأمانة التي حُمِّلَها، فإذا لم يكن هناك أحدٌ أهلٌ لهذه الولاية تُحَوَّلُ إلى القاضي فيزوجها.
قال: (أو غيرَ مُسْلِمٍ)
أي: لا نكاح إلّا بوليٍّ؛ إلّا أن يكون الوليُّ عاضلاً أو يكون الوليُّ غير مسلم، فلا يستحق الولاية في هذه الحالة، لأنّه كما ذكرنا «لا ولاية للكافر على المسلم» .
قال ابن المنذررحمه الله: «أجمع عامة أهل العلم على أنّ الكافر لا يكون وليّاً لابنته المسلمة» (2)؛ قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
(1)«الأوسط» (8/ 317 - دار الفلاح).
(2)
«الإجماع» (ص 78) لابن المنذر.
قال: (وَيَجُوزُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أن يُوَكِّلَ لِعَقْدِ النِّكاحِ ولو واحِداً)
التوكيل هو: التفويض.
واصطلاحاً: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة، كالنكاح مثلاً؛ كأن تقول لزيدٍ من الناس: وكّلتك أن تزوجني، أي أنبتك عني كي تزوجني.
والتوكيل لعقد النكاح جائز.
فللمرأة أيضاً أن تقول لشخص ما: وكّلتك أن تزوّجني؛ فيزوّجها.
فيجوز لكل واحد من الزوجين - يعني الذكر والأنثى - أن يُوّكل لعقد النكاح من يقوم مقامه في العقد.
ولو وكّل الزوج ووكلت المرأة شخصاً واحداً، فكان الموّكل من الطرفين شخصاً واحداً؛ جاز، فيكون هو نفسه موّكلاً عن الرجل وعن المرأة.
دليله حديث عقبة بن عامر عند أبي داود أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أترضى أن أزوّجك فلانة؟ » قال: نعم، وقال للمرأة:«أترضين أن أزوّجك فلاناً؟ » قالت: نعم، فزوّج أحدَهُما صاحِبَهُ (1)، أي زوج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة للرجل.
قال المؤلف رحمه الله: (فصل: ونِكاحُ المُتْعَةِ مَنْسُوخٌ)
نكاح المتعة هو: النكاح إلى أجل، أي إلى وقت محدد، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً، أو سنة، أو إلى انقضاء الموسم، أو قدوم الحاج، وشبهه، سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة، فهذا نكاح باطل.
كان في بداية الإسلام جائزاً ثم نُسِخ، ثم جوِّز ثم نسخ إلى يوم القيامة.
(1) برقم (2117).
روى سبرة الجهني أنّه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإنّ الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» (1)
الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة» فهو مُحرّم تحريماً مؤبداً إلى قيام الساعة فلا رجعة في تحريمه، وقد استقر الإجماع على تحريمه إلّا الرّافضة من الشيعة.
قال: (وَالتَّحْلِيلُ حَرَامٌ)
والتحليل: أن يتزوج الرجلُ المرأةَ لا رغبةً فيها، بل ليُحلِّلها لزوجها الذي طلّقها ثلاثاً وصارت مُحرّمة عليه بتطليقه لها ثلاث مرات، فإن من طلق ثلاث مرات حَرُمَتْ عليه حتى ينكحها زوجاً آخر، فيذوق عسيلتها وتذوق عسيلته؛ أي حتى ينكحها نكاح رغبة ويجامعها ثم يطلقها من غير اتفاق على طلاقها عند عقده عليها، أو رغبة مسبقة بطلاقها، فإن طلقها الثاني بعد زواج رغبة؛ جاز للأول الذي طلّقها ثلاثاً أن يتزوجها.
من أساليب التحايل على هذا الحكم: أن يأتي رجل يتزوج المرأة التي طلقت ثلاثاً ثم يُطلقها من أجل أن تحلّ لزوجها الأول، قد أُغلق هذا الباب تماماً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك» (2)، يعني حتى يتزوجها زواج رغبةٍ ويجامعها أيضاً.
وقد جاء في حديث علي رضي الله عنه؛ قال: «لعن رسول صلى الله عليه وسلم المحَلِّل والمحلَّل له» (3).
المحلِّل: يعني الذي تزوج المرأة ليحلّها لزوجها الأول، والمحلَّل له: الذي هو الزوج الأول، إذا كان الزواج للتحليل، فيكون النكاح باطلاً.
قال المؤلف: (وَكَذَلِكَ الشِّغارُ)
أي ويَحرُم - أيضاً - نكاح الشّغار، لما جاء في حديث ابن عمر؛ قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
(1) أخرجه مسلم (1406).
(2)
أخرجه البخاري (2639)، ومسلم (1433) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 94)، وأبو داود (2076)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935) من حديث علي رضي الله عنه.
الشّغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق (1)
تفسير الشغار في الحديث من تفسير نافع كما بينته رواية عبيد الله عن نافع، قال:«قلت لنافع: ما الشغار؟ .. » (2).
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: والشّغار: أن يقول الرجلُ للرجلِ: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي (3).
صورته: زيد عنده بنت أو أخت، وعمرو عنده بنت أو أخت، يأتي زيد لعمرو ويقول له: زوجني بنتك من أجل أن أزوجك ابنتي -هذا شرط: لا أزوجك ابنتي حتى تزوجني ابنتك- ولا يسميان بينهما مهراً، فيكون مهر البنات البُضع أي فرج الأخرى، بُضع الأولى هو مهر الثانية وبُضع الثانية هو مهر الأولى.
والمنتفع بهذا المهرهم الأولياء، والمهر حقّ للبنت التي ستتزوج، وهذان - عمرو وزيد في مثالنا - جعلا المهر من حقّهما وانتفعا به، فلذلك كان هذا النكاح باطلاً عند جمهور العلماء، ففيه ظلم للنساء.
وشرط صحة هذا النكاح أن يُسمي كلّ واحدٍ منهما مهراً للبنت التي يريد أن يتزوجها، لا للحيلة، وأن يكون النكاح حاصلاً برغبة البنات، لا غصب فيه، ولا تجبر عليه.
قال المؤلف رحمه الله: (وَيَجِبُ على الزَّوْجِ الوَفَاءُ بِشَرْطِ المَرْأَةِ إلّا أَنْ يُحِلَّ حَرَامَاً أوْ يُحَرِّمَ حَلالاً)
قال صلى الله عليه وسلم: «أحقّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج» (4).
فأيّ شرط تشترطه المرأة على زوجها، وأيّ شرط يشترطه الزوج على زوجته عند العقد؛ وجب على كلٍّ منهما أن يتقيد بالشرط الذي اشترطه الآخر.
(1) أخرجه البخاري (5112)، ومسلم (1415).
(2)
أخرجه البخاري (6960)، ومسلم (1415).
(3)
رقم (1416).
(4)
أخرجه البخاري (2721)، ومسلم (1418) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.