الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمؤلف رحمه الله قد بدأ بكتاب الطهارة كبقية العلماء الذين ألَّفوا في الفقه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان والحج» .
فبدأ بالتوحيد، وهذا قد أفردت له مصنفات خاصة، ثم بالصلاة.
ولما كانت الصلاة لا تصح إلا بالطهارة، ويجب تحقيق الطهارة قبل الدخول في الصلاة، بدأ الفقهاء بالطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم بالحج، أي بالأهم فالمهم، أو بما لا يصحّ المهم إلا به.
قال المؤلف رحمه الله: (باب)
الباب لغة: هو الطريق إلى الشيء والموصل إليه، وباب المسجد وباب الدار: ما يدخل منه إليه.
وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من الكتاب، ويكون بين مسائل الباب ارتباط أخص من ارتباطها بمسائل الطهارة.
وهذا الباب الذي سيبدأ به المؤلف، هو
باب حكم المياه
.
قال رحمه الله: (هذا البابٌ قد اشتملَ على مسائل)
(المسائل) جمع مسألة، من السؤال، وهي المطلوب الذي يحتاج إثباته إلى برهان ودليل.
قال رحمه الله: (الأولى)
أي المسألة الأولى من مسائل هذا الباب.
قال:
(الماءُ طاهرٌ مُطَهِّرٌ)
المراد بالماء هنا الماء المطلق، والماء المطلق هو ما كفى في تعريفه اسم الماء، أي الذي لم يُضَفْ إلى شيء فليس ماء ورد مثلاً، فالماء الذي لم يضف إلى شيء، يسمى ماء مطلقاً من غير إضافة شيء آخر إليه، كالماء النازل من السماء أو النابع من الأرض، أو مياه الأنهار والبحار.
و (الماء طاهر) أي ليس بنجس و (مطهر) أي مجزئ في الطهارة الشرعية من رفع حدث وإزالة نجس وغيرهما كالأغسال المندوبة، فلك أن تتطهر به وتتوضأ به، كما قال عليه السلام للمرأة حين سألته عن ثوبها الذي أصابه دم حيض، قال:«واقرصيه بالماء» (1) أي نظفيه بالماء.
وكقوله للصحابة: «أهريقوا عليه ذنوباً من ماء» حين بال الأعرابي في المسجد (2).
وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً}
قال ثعلب - وهو أحد أئمة اللغة -: الطَّهور: هو الطاهر بنفسه المطهر لغيره، وكذا قال الأزهري رحمه الله صاحب كتاب «تهذيب اللغة» .
وقال تعالى: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} .
وقال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الماء طَهور لا ينجسه شيء» (3).
وقد جاءت أحاديث كثيرة أمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بتطهير النجاسات بالماء، وستأتي إن شاء الله.
ونقل ابن رشد الإجماع على أن الماء طاهر مطهر (4).
وقال المؤلف رحمه الله: (لا يُخْرِجُهُ عن الوَصْفَيْن)
أي لا يَخرُج الماء عن كونه طاهراً في نفسه - وهذا الوصف الأول - ومطهراً لغيره - وهذا الوصف الثاني.
قال: (إلا ما غَيَّرَ ريحَهُ أو لَوْنَهُ أو طَعْمَهُ من النجاساتِ)
(1). أخرجه البخاري (227)، ومسلم (291) عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (6128) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أحمد (17/ 359 - الرسالة)، وأبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4)
قال ابن رشد في «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» (1/ 29): «وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافاً في الصدر الأول شاذ» .
أي إن الماء المطلق يبقى طاهراً مطهراً إلى أن تخالطه نجاسة فتغير رائحته أو لونه أو طعمه، فعندئذ لا يبقى طاهراً ولا مطهّراً، بل يصير نجساً، لا يجزئ في رفع الحدث وإزالة النجاسة.
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب.
فعندنا أصل وهو أن الماء طاهر مطهر، وعرفنا دليل هذا الأصل، وهو عموم الآيات والأحاديث التي تقدمت، فلا يخرج الماء عن كونه طاهراً ومطهراً إلا بدليل.
وذكر المؤلف أن الماء لا يخرج عن كونه طاهراً ومطهراً إلا إن خالطته نجاسة غيرت أحد أوصافه الثلاثة، لونه أو ريحه أو طعمه، فيصير نجساً لا يطهر، ودليل ذلك الإجماع.
قال ابن المنذر: «وأجمعوا على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغير للماء طعماً أو لوناً أو ريحاً أنه نجس مادام كذلك» (1).
والأدلة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وقد انعقد الإجماع على ذلك، فالإجماع يخصص عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الماء طهور لا ينجسه شيء» (2)، ويخصص عموم الأدلة التي دلت على أن الماء طاهر مطهر.
وورد في ذلك حديث عند ابن ماجة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» (3)
ولكنه حديث ضعيف، قال النووي:«اتفقوا على ضعفه» (4)، والضعيف منه الاستثناء، أي قوله:«إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» وأما قوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء» فقد صح من حديث أبي سعيد الخدري كما تقدم.
(1)«الإجماع» (ص 35). وقال البيهقي: لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافاً. والله أعلم
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
أخرجه ابن ماجه (521)، والدارقطني في «سننه» (47)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (1/ 392) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
قال البيهقي بعدما أخرجه موصولاً مرفوعاً، قال: «ورواه عيسى بن يونس عن الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ورواه أبو أمامة عن الأحوص عن ابن عون وراشد بن سعد من قولهما، والحديث غير قوي، إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافاً. والله أعلم
(4)
«المجموع» للنووي (1/ 110).
ثم قال رحمه الله: (وعن الثاني: ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المُغَيِّراتِ الطاهرة)
قوله (عن الثاني) أي عن الوصف الثاني، وهو كونه مطهراً، فيريد أن الماء يبقى مطهراً لغيره إلا إذا خالطه شيء طاهرٌ فأخرجه عن كونه ماء مطلقاً، أي غير إطلاقه، فصار له اسم آخر وهذه المسألة الثالثة.
مثال ذلك: إذا أخذنا كأساً من الماء ووضعنا فيه كيساً من الشاي، فإن الشاي طاهرٌ نزل في الماء فغير لون الماء حتى تغيرت حقيقته، فلم يعد ماء مطلقاً، بل تغيرت حقيقته وصار شاياً، فهذا طاهر ليس بنجس، ولكنه لا يطهر، لأن الذي يطهر هو الماء المطلق، فهو ما ثبت به الدليل، وأما غيره من المائعات، فلم يثبت فيه شيء فليست من المطهرات.
قال ابن المنذر (1): «وأجمعوا على أنه لا يجوز الاغتسال ولا الوضوء بشيء من هذه الأشربة سوى النبيذ» أي أن النبيذ قد حصل خلاف في جواز الوضوء به، والصحيح أنه لا يجزئ في ذلك لعدم وجود الدليل الصحيح.
ولكن إذا كان التغير بطاهر تغيّراً يسيراً، فإن الماء في هذه الحالة يبقى طاهراً مطهراً، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تغسيل ابنته:«اغسلنها بماءٍ وسدر واجعلن في الآخرة كافوراً» (2).
وكذلك الماء المتغير بما لا ينفك عنه غالباً، كالطحالب والتراب، فإنه يبقى مطهراً بالاتفاق (3).
ثم قال رحمه الله (ولا فرق بين قليل أو كثير)
هذه المسألة الرابعة.
أي أن الماء القليل والكثير له نفس الأحكام المتقدمة، لا يختلف، وفي هذا رد لقول الذين فرّقوا، إذ إن الأدلة ليست معهم في ذلك كما سيأتي.
(1)«الإجماع» لابن المنذر (ص 34).
(2)
أخرجه البخاري (1253) ومسلم (939) عن أم عطية رضي الله عنها.
(3)
انظر «بداية المجتهد» لابن رشد (1/ 30).
فقالوا في تفريقهم: إذا وقعت النجاسة في الماء القليل نجسته سواء غيرت أوصافه أم لا، وأما في الماء الكثير فلا تنجسه حتى تغير أحد أوصافه. ثم اختلفوا في ضابط التفريق بين القليل والكثير، فقال بعضهم بالتفريق ما بين القلتين وما دونهما.
قال المؤلف رحمه الله: (وما فوقَ القُلَّتَيْنِ وما دونهما)
أي لا فرق بين الماء القليل الذي ضابطه أن يكون أقل من قلتين، وما فوقهما
والتفريق بين ما فوق القلتين وما دونهما تحديد من بعض أهل العلم، ومنهم الشافعية، فالشافعية مثلاً وغيرهم قالوا: ما كان أكثر من قلتين، إن سقطت فيه النجاسة، ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة، يبقى طاهراً، أما إذا كان دون القلتين، فيصير نجساً بمجرد أن تسقط النجاسة فيه، واختلفوا في القلتين، في مقدارهما.
والقلتان: تثنية قلّة، والقلّة: الجرّة الكبيرة، وقد اختلفوا في تقديرها اختلافاً كثيراً.
فبعضهم يقول: قدرها مائة وستون لتراً، وبعضهم قال: مائتا لتر، وبعضهم: مائتان وخمسون، ومائتان وخمسة وسبعون، والبعض: ثلاثمائة، فاختلفوا في أصل قدر القلتين واضطربوا فيه اضطراباً كثيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يضع ضابطاً بمثل هذه المقادير التي يُختلف فيها، ولا يُعرف قدرها.
واعتمدوا في هذا على حديث «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» (1)،
لكن هذا الحديث في صحته خلاف ونزاع بين أهل العلم، والصحيح هو ما رجّحه الإمام المزّي، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمهما الله - أنه حديث ضعيف فيه اضطراب، والأقرب إلى الصواب أن يكون موقوفاً على ابن عمر رضي الله عنه أي من كلامه. والله أعلم.
وهذا أقوى ما يحتج به من فرَّق بين القليل والكثير. والراجح أنه لا فرق بين القليل والكثير.
ثم قال رحمه الله: (وَمُتَحَرِّكٍ وساكِنٍ)
الماء الساكن كماء المستنقعات، والمتحرك كماء الأنهار
(1) أخرجه أحمد (4605)، وأبو داود (65)، والترمذي (67)، والنسائي (52)، وابن ماجه (517) عن ابن عمر رضي الله عنه.
وهو ضعيف، والصحيح وقفه على ابن عمر رضي الله عنه.
أي لا فرق بين الماء المتحرك والساكن، وهذه المسألة الخامسة من مسائل الباب.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم جواز التطهر بالماء الراكد، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» (1).
والرد عليه في نفس الحديث، فقد سأل السامعون أبا هريرة، فقالوا: يا أبا هريرة كيف يَفعل؟ قال: يتناوله تناولاً.
فأجاز التطهر به، وراوي الحديث أدرى بمرويه، ولو لم يكن مطهراً لما أجاز التناول منه.
وأجاب بعض أهل العلم الذين يقولون إن الماء الساكن مطهر، بأن علة النهي عن الاغتسال فيه من الجنابة كونه يصير مستخبثاً بتوارد الاستعمال فيبطل نفعه، فالنهي لسد الذريعة لا لشيء آخر، ويدل على ذلك قول أبي هريرة السابق
ثم قال المؤلف رحمه الله: (وَمُسْتَعْمَلٍ وغيرِ مُسْتَعْمَلٍ)
هذه المسألة السادسة.
اختلف أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات، هل يخرج بذلك عن كونه مطهراً؟
فلو أنك توضأت أو اغتسلت، وجمعت الماء الساقط من وضوئك أو غسلك، فهل يجوز لك أن تتوضأ بهذا الماء أو تغتسل أم لا؟ وهو ما يسمى عند العلماء بالماء المستعمل.
اختلف أهل العلم في ذلك، فالبعض قال: هو طاهر ومطهر. والبعض قال: هو نجس. والبعض قال: هو طاهر، لكنه غير مطهر.
وكل احتج بأدلة، والصحيح أنه طاهر مطهر.
والدليل على أنه طاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه (2)، ولو كان نجساً لما قربوه.
(1). أخرجه مسلم (283) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (18) و (2731) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.
وقد ثبت أنه عليه السلام صب على جابر من وضوئه (1)، وثبت أن أحد الصحابة شرب من وضوءه صلى الله عليه وسلم (2)، وبوّب البخاري باباً في استعمال فضل الوضوء، وساق آثاراً في ذلك (3).
وأما كونه مطهراً، فإن الماء المستعمل ماء مطلق داخل في عموم الأدلة المتقدّمة التي تدل على أن الماء المطلق طاهر مطهر ولا يجوز إخراجه منها إلا بدليل صحيح، ولا يوجد.
وخلاصة هذا البحث:
أن الماء المطلق طاهر مطهر، والماء إما أن يخالطه شيء طاهر أو شيء نجس.
فإن خالطه طاهر، فينظر إن أخرجه عن اسم الماء المطلق، فهو طاهر غير مطهر، وإن لم يخرجه فهو طاهر مطهر.
ومخالطة الشيء الطاهر اليسير له لا تؤثر فيه كمخالطة الصابون ونحوه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأم عطية في تغسيل ابنته:«اغسلنها بماء وسدر» (4) متفق عليه، وكذلك مخالطة ما لا يمكن الاحتراز منه غالباً كمخالطة الطحالب أو ورق الشجر، أو التراب وغيرها من الأشياء التي تختلط بالماء.
وأما الماء الذي خالطته نجاسة، فإن غيرت أحد أوصافه الثلاثة، فهو نجس لا يصح التطهر ولا التطهير به.
وإن لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة فهو طاهر مطهر ولا فرق بين القليل والكثير على الصحيح.
ومن أقوى المذاهب الفقهية في باب المياه مذهب الإمام مالك، حتى قال الغزالي أحد أئمة المذهب الشافعي: وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك.
فإنه كان من أقوى المذاهب في المياه، وكذلك مذهبه في البيوع.
(1) أخرجه البخاري (194) ومسلم (1616) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (190) ومسلم (2345) عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وَجِعٌ، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة».
(3)
«صحيح البخاري» ، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، أول حديث برقم (187).
(4)
تقدم تخريجه.