المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتابُ القَضاءِ القضاء لغة: الحكم. وفي الاصطلاح: الحكم بين الناس بما أنزل - فضل رب البرية في شرح الدرر البهية

[علي الرملي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الشارح

- ‌تعريف الفقه

- ‌‌‌الفقه لغةً‌‌واصطلاحاً:

- ‌الفقه لغةً

- ‌واصطلاحاً:

- ‌فالفقه في الشرع:

- ‌وأما الفقه عند الأصوليين:

- ‌وأما الفقه عند الفقهاء

- ‌ترجمة الشوكاني

- ‌«الدُّرَرُ البَهيَّة» للشوكاني

- ‌كتاب الطهارة

- ‌ باب حكم المياه

- ‌(الماءُ طاهرٌ مُطَهِّرٌ)

- ‌(فصل باب النجاسات)

- ‌(بابُ قضاءِ الحاجةِ)

- ‌(بابُ الوضوءِ)

- ‌(فصل: ويستحبُّ التثليثُ)

- ‌(فصلٌ: وينتقضُ الوضوءُ بما خرجَ من الفَرْجَيْنِ من عَيْنٍ أو ريحٍ)

- ‌(بابُ الغُسْلِ)

- ‌(فصلٌ: والغُسْل الواجب هو: أن يُفيضَ الماءَ على جميع بَدَنِهِ، أو يَنْغَمِس فيه مع المضمضةِ والاستنشاقِ)

- ‌(فصلٌ: ويُشْرَعُ لصَلاةِ الجُمُعة)

- ‌(باب التَّيَمُّمِ)

- ‌(بابُ الحَيْضِ)

- ‌(فصل: والنِّفاسُ أكثرُهُ أربعونَ يوماً، ولا حدَّ لأقلّه وهو كالحيضِ)

- ‌كتابُ الصلاةِ

- ‌(باب الأذان)

- ‌(بابُ شروطِ الصلاةِ)

- ‌(بابُ كيفيةِ الصلاةِ، لا تكونُ شرعيةً إلا بالنيَّةِ)

- ‌(باب متى تبطل الصلاة؟ وعمّن تسقط

- ‌(فصل: وتبطل الصلاة بالكلام)

- ‌(فصل: ولا تجبُ على غَيْرِ مُكَلَّفٍ)

- ‌(بابُ صلاة التَّطَوُّعِ)

- ‌(باب صلاة الجماعة)

- ‌(باب سجودِ السهوِ، وهو سجدتانِ قبل التسليمِ أو بعدهُ، وبإحرامٍ، وتشهدٍ، وتحليلٍ)

- ‌(بابُ القضاءِ للفوائتِ)

- ‌(بابُ صلاةِ الجمعةِ، تَجِبُ على كُلِّ مُكَلَّفٍ إلا المرأةَ والعبدَ والمسافرَ والمريضَ)

- ‌(بابُ صلاةِ العيدينِ)

- ‌(بابُ صلاةِ الخوفِ)

- ‌(باب صلاةِ السَّفَرِ، يَجِبُ القَصْرُ)

- ‌(باب صلاة الكسوفين)

- ‌(باب صلاة الاستسقاء)

- ‌كتاب الجنائز

- ‌(فصلٌ: غسل الميت)

- ‌(فصلٌ: تكفينُ الميت)

- ‌ فصل صلاة الجنازة

- ‌(فصل: ويكون المشي بالجِنازةِ سريعاً)

- ‌(فصلٌ: دَفْنُ الميت، ويجبُ دفن الميتِ في حفرة تَمْنَعُهُ السِّباعَ)

- ‌كتاب الزكاة

- ‌(باب زكاةِ الحيوانِ)

- ‌(فصل: إذا بلغت الإبلُ خمساً، ففيها شاةٌ، ثم في كلِّ خمسٍ شاةٌ، فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففيها ابنة مَخاضٍ، أو ابن لبونٍ، وفي ستٍّ وثلاثين ابنة لبون، وفي ستٍّ وأربعين حِقّة، وفي إحدى وستين جَذَعة، وفي ستٍّ وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقّتان إلى

- ‌أولاً: الزكاة واجبة في هذه الحيوانات بثلاثة شروط

- ‌ثانياً: كم المقدار الذي يجب أن يخرج إذا بلغت الإبل النصاب

- ‌(فصلٌ: ولا شيء فيما دُونَ الفريضةِ، ولا في الأوْقاصِ)

- ‌(باب زكاة الذهب والفضة)

- ‌(باب زكاة النبات)

- ‌(باب مصارف الزكاة)

- ‌(باب صدقة الفطر)

- ‌كتاب الخُمُس

- ‌كتاب الصيام

- ‌(باب صوم التطوع)

- ‌(باب الاعتكاف)

- ‌كتاب الحج

- ‌شروط الحج:

- ‌(فصل: ولا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القميصَ، ولا العمامة، ولا البُرْنُسَ، ولا السراويل، ولا ثوباً مَسّه وَرْس، ولا زعفران، ولا الخُفَّين إلا أنْ لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين)

- ‌(فصلٌ: وعند قدوم الحاجّ مكة، يطوف للقدوم سبعة أشواط، يَرمُلُ في الثلاثة الأولى، ويمشي فيما بقي، ويُقَبِّل الحجر الأسود أو يستلمه بِمِحْجَنٍ ويُقَبِّل المحجن ونحوه، ويستلم الركن اليماني)

- ‌(فصل: ويسْعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط داعياً بالمأثور)

- ‌(فصل: ثم يأتي عرفة صُبح يوم عرفة مُلبياً مُكبراً ويَجمع العصرين فيها، ويخطُب، ثم يُفيض من عرفة بعد الغروب)

- ‌(باب العمرة المفردة)

- ‌كِتابُ النِّكاحِ

- ‌حكم النكاح:

- ‌مسألة:

- ‌بابُ المُحرَّماتِ في النِّكاحِ

- ‌(بابُ العُيُوبِ وَأَنْكِحَةِ الكُفَّارِ)

- ‌بابُ المَهرِ والعِشرَةِ

- ‌كتابُ الطَّلاقِ

- ‌باب الخلع

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الظهار

- ‌بابُ اللِّعَانِ

- ‌بابُ العِدَّةِ والإحدِادِ

- ‌باب استِبْرَاءِ الإِمَاءِ

- ‌بابُ النَّفقةِ

- ‌بابُ الرَّضَاعِ

- ‌بابُ الحَضَانَةِ

- ‌كتابُ البيوعِ

- ‌ باب الربا

- ‌(باب الخِيارَات)

- ‌باب السَّلَم

- ‌باب القَرْض

- ‌باب الشُّفْعة

- ‌باب الإِجارة

- ‌بابُ الإحيَاءِ والإِقْطَاعِ

- ‌بابُ الشَّرِكة

- ‌بابُ الرَّهْنِ

- ‌بابُ الوَدِيْعَةِ والعَارِيَّة

- ‌بابُ الغَصْبِ

- ‌بابُ العِتْقِ

- ‌بابُ الوقْفِ

- ‌بابُ الهَدَايا

- ‌بابُ الهِبات

- ‌كتاب الأَيمَان

- ‌كتابُ النَّذرِ

- ‌كتاب الأطعِمَة

- ‌بابُ الصَّيدِ

- ‌بابُ الذَّبحِ

- ‌بابُ الضِّيافَةِ

- ‌بابُ آدابِ الأكلِ

- ‌كتابُ الأشرِبةِ

- ‌كتابُ اللِّباسِ

- ‌كتابُ الأُضحِيةِ

- ‌بابُ الوَلِيمةِ

- ‌فصلٌ

- ‌كتابُ الطِّبِّ

- ‌كتابُ الوَكالةِ

- ‌كتابُ الضَّمَانَةِ

- ‌كِتابُ الصُّلحِ

- ‌كتابُ الحَوَالةِ

- ‌كتابُ المُفلسِ

- ‌كتابُ اللُّقطةِ

- ‌كتابُ القَضاءِ

- ‌كِتابُ الخُصُومُةِ

- ‌كِتابُ الحُدُودِ

- ‌بَابُ حَدِّ الزَّانِي

- ‌بابُ حَدِّ السَّرقةِ

- ‌بابُ حَدِّ القَذفِ

- ‌بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ

- ‌فَصلٌ

- ‌بَابُ حَدِّ المُحَاربِ

- ‌بابُ مَنْ يَستحقُّ القَتلَ حَدّاً

- ‌كِتابُ القِصاصِ

- ‌كتابُ الدِّياتِ

- ‌بَابُ القَسَامَةِ

- ‌كتابُ الوَصِيَّةِ

- ‌كِتابُ المَوَاريثِ

- ‌كتابُ الجِهادِ والسِّيَرِ

- ‌فَصلٌ

- ‌فصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

الفصل: ‌ ‌كتابُ القَضاءِ القضاء لغة: الحكم. وفي الاصطلاح: الحكم بين الناس بما أنزل

‌كتابُ القَضاءِ

القضاء لغة: الحكم.

وفي الاصطلاح: الحكم بين الناس بما أنزل الله.

قال ابن قدامة في المغني: الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب؛ فقول الله تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]. وقول الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]. وقوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} [النور: 48]. وقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65].

ص: 558

وأما السنة؛ فما روى عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (1) متفق عليه. في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة.

وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء، والحكم بين الناس. انتهى.

قال المؤلف رحمه الله: (إنِّما يَصحُّ قَضاءُ مَن كانَ مُجتهِداً مُتورِّعاً عن أَموالِ النَّاسِ، عَدلاً في القَضِيَّةِ، حَاكِماً بالسَّويَّةِ)

هذه الصفات التي يجب أن تتوفر في القاضي الذي يحكم بين الناس.

يجب أن يكون القاضي مسلماً فلا يجوز أن يكون كافراً؛ لقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء/141].

ويجب أن يكون مكلفاً عدلاً، وهو المسلم البالغ العاقل الخالي من أسباب الفسق.

وسيأتي إن شاء الله في (الشاهد) تفسير هذه المعاني وقد تقدمت في دروس سابقة.

يجب أن يكون عدلاً؛ لأن غير العدل لا يؤتمن على أنفس الناس وأموالهم وأعراضهم أن يحكم فيها بالعدل.

ويجب أن يكون أيضاً ذكراً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» (2) الوِلاية؛ كالقضاء والإمارة ورئاسة البلديات وما شابه، هذه لا يجوز أن تتولاها امرأة؛ لأنها لا قدرة لها على إدارة هذه الأمور، وهي ليست كالرجل في قدرته على هذه الأشياء، هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، ويحاول البعض في هذه الأيام ممن تلوثت أفكارهم بأفكار الغرب، يحاولون إما لَيّ عنق هذا الحديث أو تضعيفه بأي طريقة من طرق التضعيف، المهم عندهم أن يتخلصوا منه، وطرق التخلص إما بالتضعيف أو بالتحريف، هذه الطرق المعهودة المعروفة عن أهل البدع من القديم وليس من اليوم.

واليوم طبعاً كثر أهل البدع لضعف الوازع الديني وأصبحت الأهواء سائدة عند كثير من الناس لا يتورعون عن تحريف سنة النبي صلى الله عليه وسلم بما يتماشى مع أهوائهم، فلما رأوا أن الغرب لهم الآن كلمة ويدعون إلى مثل هذه الأشياء من رئاسة المرأة وتحريرها وما شابه، أرادوا

ص: 559

أن يتماشوا مع الغرب في أفكارهم فحاولوا أن يتخلصوا من دلالة هذا الحديث، فلا يُنظر لأمثال هؤلاء ولا يُسمع لما يقولون فهم أذناب الغرب الأمر عندهم كما قال الأول:

إذا قالتْ حَذَامِ فَصَدِّقُوهَا

فإنّ القولَ ما قَالَتْ حَذَامِ

حتى لو كان الأمر على حساب تكذيب الشرع.

ويجب أن يكون القاضي مجتهداً؛ لأنه يجب عليه أن يحكم بالعدل، والعدل هو ما جاء في الكتاب والسنة، وهو ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن مجتهداً لن يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها من الكتاب والسنة كي يقضي بها؛ فلا بد أن يكون مجتهداً حتى يتمكن من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.

وأيضاً يجب أن يكون القاضي حراً؛ لأن العبد مشغول بحقوق سيده فلا يصلح للقضاء.

وقول المؤلف: متورعاً عن أموال الناس أي عفيف النفس، لا يطمع في أموال الناس فيقع في أخذ الرشوة منهم. والورع: ترك ما يضر في الآخرة.

وما ذكره المؤلف هنا داخل في شرط العدالة.

وقوله: عدلاً في القضية أي يكون عادلاً في الحكم بين الناس، القضية هي الحكومة.

وقوله: حاكماً بالسوية أي يعدل بين الناس في الحكم، فلا يميل إلى بعضهم على حساب بعض.

قال المؤلف رحمه الله: (ويَحرمُ عليهِ الحِرصُ على القَضاءِ وطلبُهُ)

وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة، فإن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها» (1) متفق عليه.

هذا فيه نهي عن سؤال الإمارة، ويدخل فيه القضاء؛ لأنه نوع من الإمارة، ولكن إذا لم يوجد غيره أهلاً في القضاء فعندئذ يجوز له أن يطلبه، لماذا؟ لأنه واجب عليه في تلك الحالة، فالقضاء حكمه أنه واجب كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإذا لم يكن هناك من هو أهل للقضاء بالعدد الذي يسقط به الواجب الكفائي؛ وجب وتعيَّن على من توفرت فيه شروط القضاء، وفي هذه الحالة وجب عليه أن يتقدم ليسد هذا الجانب.

(1) أخرجه البخاري (7146)، ومسلم (1652).

ص: 560

قال النووي رحمه الله: وفي هذا الحديث فوائد: منها كراهة سؤال الولاية سواء ولاية الإمارة والقضاء والحسبة وغيرها، ومنها بيان أن من سأل الولاية لا يكون معه إعانة من الله تعالى ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل فينبغي أن لا يولى ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لا نولي عملنا من طلبه أو حرص عليه. انتهى

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يَحلُّ للإمامِ تَولِيَةُ مَن كان كذلكَ)

أي لا يحل للإمام أن يولي القضاء من كان حريصاً عليه أو طالباً له؛ لحديث أبي موسى في الصحيحين قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللهُ عز وجل، وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ:«إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ» (1).

فقال: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ» هذا الشاهد من الحديث، والعمل هو الإمارة والقضاء وما شابه، قال أهل العلم: لأن الطالب لذلك يرغب ولا بد في المال أو الجاه أو الانتقام من عدو ونحو ذلك من الرغبات الدنيوية، فيقع في الظلم وينحرف عن الحق بطلبه للأمور الدنيوية ولا يخلص النية

قال المؤلف رحمه الله: ومَن كان مُتأَهِّلاً للقضاءِ؛ فهو على خَطرٍ عَظيمٍ)

يعني من كان أهلاً للقضاء تحققت فيه شروط القاضي وتولى القضاء؛ فهو على خطر عظيم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جُعل قاضياً بين الناس؛ فقد ذُبح بغير سكين» (2) فالقضاء حِمل ثقيل إذا ظلم فيه هلك، لا ينجو منه إلا من نجاه الله تبارك وتعالى بالحكم بالعدل والبعد عن الهوى وبالزهد والورع.

قال المؤلف رحمه الله: (ولَهُ مع الإصابةِ أَجرانِ، ومع الخَطإِ أَجرٌ إن لم يَأْلُ جُهْداً في البَّحثِ) وللقاضي مع الإصابة أجران، يعني إن أصاب الحق، إن أصاب حكم الله في المسألة فهو مأجور أجران: أجر على الاجتهاد، وأجر على الإصابة.

(1) أخرجه البخاري (7149)، ومسلم (1733).

(2)

أخرجه أحمد (8777)، وأبو داود (3571)، والترمذي (1325)، وابن ماجه (2308).

ص: 561

وإن اجتهد في المسألة ولم يصب فيها، أخطأ؛ فله أجر، مأجور أجراً واحداً، أجر الاجتهاد، هو لم يصب فلا يأخذ أجر الإصابة، ولكنه اجتهد لمعرفة الحق فيأخذ أجر الاجتهاد فقط.

إن لم يَألُ جهداً في البحث: هذا شرط، لا يؤجر إلا إذا عمل واجتهد في البحث عن الحق ولم يقصر في البحث والتفتيش عن حكم المسألة وعما يرضي الله تبارك وتعالى فيها.

لم يَأْلُ: أي لم يقصر. ومعنى لم يأل جهداً: بذل كل ما يقدر عليه للوصول إلى الحق ولم يقصر.

دليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ؛ فَلَهُ أَجْرٌ» (1).

هذا الحديث إنما ينطبق على من كان أهلاً للاجتهاد، أما إذا اجتهد شخص وهو ليس أهلاً للاجتهاد؛ فهذا لا يؤجر ألبتة، سواء أصاب أم أخطأ؛ لأنه دخل في أمر لا يجوز له أن يدخله وقد جاء في الحديث أن القاضي الذي يحكم بجهلٍ أنه من أهل النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» (2).

قال المؤلف رحمه الله: (وتَحرمُ عَليهِ الرِّشْوَةُ)

الرشوة يقال لها: الرِّشوة والرَّشوة والرُّشوة، الراء فيها مثلثة ومعنى تثليثها أنها تصح بالحركات الثلاثة: الضمة والفتحة والكسرة.

وتعريف الرِّشوة: ما يُعطى لإِحقاقِ باطلٍ أو إبطالِ حقٍّ.

وأما إعطاؤها لإحقاق حقِّ أو إبطال باطل لا يتحقق إلا بدفعها؛ فلا حرمة على الدافع.

يعني دفع مال أو غيره لإبطال باطل، هو باطل يجب أن يُبطَل فدفْعُ المال في ذلك لا يعتبر رشوة، إذا كان هذا الباطل لا يُبطَل إلا بدفعها، وكذلك إحقاق الحق، الحق يجب أن يحصل ولكن إذا كان لا يتحقق إلا بالدفع فيُدفَع، وليس هذا من الرشوة في حق الدافع.

ولا يجوز للآخذ - إذا كان قاضياً أو والياً أوعاملاً للسلطان- أن يأخذ، بل يجب عليه أن يعين صاحب الحق على حقه دون مقابل؛ لأنه واجب عليه وكذلك إبطال الباطل.

(1) متفق عليه، تقدم.

(2)

أخرجه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315).

ص: 562

فهي في حق الآخذ رشوة؛ لأن الآخذ وجب عليه أن يُحق الحق ويُبطل الباطل من غير أن يأخذ شيئاً، فإذا أخذ شيئاً مقابله فقد أخذه بالباطل فيكون من السحت.

قال المؤلف: تحرم الرشوة على القاضي، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي (1)، لعن الراشي الذي يدفع الرشوة، والمرتشي الذي يأخذها. أخرجه أبو داود في سننه.

وقال ابن قدامة في المغني: فأما الرشوة في الحكم، ورشوة العامل؛ فحرام بلا خلاف. قال الله تعالى {أكالون للسحت} [المائدة: 42] قال الحسن، وسعيد بن جبير، في تفسيره: هو الرشوة

انتهى باختصار.

العامل يعني به العامل للسلطان؛ كالذين يعملون في الدوائر الحكومية اليوم.

قال المؤلف رحمه الله: (والهَديَّةُ التي أُهدِيَتْ إليهِ لأَجلِ كَونِهِ قَاضِياً)

يعني تحرم على القاضي الرشوة، وتحرم عليه الهدية التي تهدى إليه لأنه قاضٍ، هذا لحديث أبي حُمَيْد الساعدي قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:«مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ» ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«اللهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ؟ » مَرَّتَيْنِ (2). متفق عليه.

هذا يدل على أن المرء إذا أُهديت له هدية وهو يعمل في عملٍ من عمل السلطان، ولم تُهدَ له هذه الهدية إلا لأنه يعمل في هذا العمل؛ فلا يجوز له أخذ تلك الهدية؛ لأنها في حقيقة الأمر رشوة وليست هدية.

لكن إذا أَهدى له شخص قد اعتاد على أن يهدي له قبل أن يتولى هذا المنصب مثلاً وأراد أن يهديه هدية كالمعتاد، فيجوز لأن الهدية لأجله لا لأجل أنه قاضٍ مثلاً.

قال أهل العلم: قد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن هَدَايَا الْعمَّال لَيست كالهدايا الْمُبَاحَة، لِأَن الْعَامِل إِنَّمَا يهدى لَهُ مُحَابَاة ليفعل فِي حق الْمهْدي مَا لَيْسَ لَهُ أَن يفعل، وَتلك خِيَانَة مِنْهُ. انتهى

(1) أخرجه أحمد (6532)، وأبو داود (3580)، والترمذي (1336)، وابن ماجه (2313).

(2)

أخرجه البخاري (6979)، ومسلم (1832).

ص: 563

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يَجوزُ له الحُكمُ حالَ الغَضَبِ)

هذا لحديث أبي بكرة في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» (1) لأن الغضب يشوش الفكر، فلا يمَكِّن من الحكم بالحق، ويُلحَق به كل ما يشوِّش الفكر؛ كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس، فلا يجوز للقاضي أن يقضي وفكره مشوش.

قال المؤلف رحمه الله: وعليهِ التَّسويةُ بينَ الخَصمينِ؛ إلَّا إذا كان أحدُهُما كَافِراً)

يعني يسوي بينهما في المجلس وغيره، فيجلسان عنده بنفس المستوى؛ لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَكَمِ (2). أخرجه أحمد وأبو داود، ولا يصح.

ولا يصح في هذه المسألة حديث كلها ضعيفة، لكن قال ابن رشد: أجمعوا على أنَّه يجب عليه أنْ يسويَ بين الخصمين في المجلس.

قال ابن القيم: نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته.

واستثنى المؤلف الكافر لحديث: «لا تساووهم في المجلس» (3) وهو حديث منكر لا يُحتج به فليس بصحيح، والراجح التسوية في المجلس وغيره مما يصلح في حق الكافر بين الجميع عند الخصومة. والله أعلم

قال المؤلف): والسَّماعُ منهما قبلَ القَضاءِ)

لحديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا علي: إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» (4) أخرجه أحمد وأبو داود ولكنه حديث ضعيف.

قال أهل العلم: وفيه دليل على أنه يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من

(1) أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717).

(2)

أخرجه أحمد (16104)، وأبو داود (3588)، في سنده مصعب بن ثابت ضعيف، انظر البدر المنير (9/ 594).

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 140)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 230)، من وجهين في أحدهما أبو سمير منكر الحديث، وفي الثاني مجموعة من الضعفاء وبعضهم رمي بالكذب، انظر البدر المنير (9/ 596).

(4)

أخرجه أحمد (882)، وأبو داود (3582).

ص: 564

الخصمين، واستفصال ما لديه، وإحاطته بجميعه؛ لجواز أن يكون مع خصمه حجة يدفع بها البينة، فإن قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلاً، فلا يلزم قبوله بل يتوجه عليه نقضه، ويعيده على وجه الصحة، أو يعيده حاكم آخر. انتهى هذا هو الصحيح للمعنى الذي ذكروه.

وهنا تأتي مسألة القضاء على شخص غائب، أي الحكم على شخص غائب إذا ادعى عليه أحد دعوى هل يُحكم عليه وهو غائب أم لا؟ مسألة فيها خلاف بين العلماء، والذين أجازوا ذلك استدلوا بقصة هند بنت عتبة عندما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف» (1) هذا الحديث يستدل به العلماء على جواز القضاء على الشخص الغائب إذا تبين للحاكم أن المدعي محق في دعواه.

قال النووي رحمه الله: واستدل به جماعات من أصحابنا وغيرهم على جواز القضاء على الغائب، وفي المسألة خلاف للعلماء؛ قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين: لا يقضى عليه بشيء، وقال الشافعي والجمهور: يقضي عليه في حقوق الآدميين ولا يقضى في حدود الله تعالى، ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث للمسألة؛ لأن هذه القضية كانت بمكة وكان أبو سفيان حاضراً بها وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائباً عن البلد أو مستتراً لا يقدر عليه أو متعذراً، ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجوداً فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء كما سبق. والله أعلم انتهى

والراجح قول الجمهور وهو جواز الحكم عليه؛ فالعبرة بالبينة فمتى وجدت فهي حاكمة في المسألة فإذا تعذر السماع منه فيكتفى بها، ولا يصح شيء يخالف ذلك، واستدل بعض أهل العلم على جواز ذلك بقصة العرنيين. والله أعلم

قال المؤلف: (وتَسهيلُ الحِجابِ بحَسبِ الإمكَانِ)

يجب على القاضي تسهيل دخول الناس عليه، الحجاب مثل الباب الذي يغلقه على نفسه حتى لا يتمكن أحد من الدخول عليه أو الحارس وما شابه.

بحسب الإمكان يسهل دخول الناس عليه والوصول إليه على قدر استطاعته من غير أن يشق على نفسه فعنده أعمال كثيرة تخصه، فلا يضع صعوبات وعراقيل على الناس تمنع

(1) أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).

ص: 565

من الوصول إليه؛ كحال كثيرٍ من المسؤولين اليوم لكن على قدر استطاعته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تولى شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم؛ احتجب الله عنه دون حاجته» (1) أخرجه أحمد وأبو داود.

قال المؤلف رحمه الله: (ويَجوزُ لهُ اتَخاذُ الأعَوانِ مَع الحَاجةِ)

ويجوز للقاضي أن يتخذ رجالاً يعينونه على عمله إذا احتاج لذلك يعنونه على تنفيذ الأحكام التي يقضي بها ويحضرون له الشهود والمدعى عليهم وما شابه؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس أنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأَمِيرِ (2).

قال المؤلف رحمه الله: (والشَّفاعةُ، والاستِيضَاعُ، والإِرشَادُ إلى الصُّلحِ)

ويجوز للحاكم أن يشفع يتوسط، الشفاعة: هي التي نسميها نحن الواسطة.

والاستيضاع: أي أن يطلب من أحد الخصمين الوضع من حقه، فيقول له مثلاً: ضع من حقك النصف أو البعض يعني تنازل عنه، ويقول للآخر: ادفع مباشرة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جاء في حديث كعب بن مالك في الصحيحين أن كعب بن مالك تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَقَالَ:«يَا كَعْبُ» ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، «فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ» ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قُمْ فَاقْضِهِ» (3).

تقاضى ابن أبي حَدْرَدْ يعني حصل خصام بين كعب بن مالك وابن أبي حدرد، فكعب بن مالك كان يريد مالاً من ابن أبي حدرد فحصل نزاع بينهما في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف عن حجرته فنادى: يا كعب! فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دَيْنِك هذا وأومأ إليه أي الشطر، يعني خفِّض من دَيْنِك الذي تريده من ابن أبي حدرد وأشار إليه إلى النصف، يعني إذا كنت تريد منه مائة دينار فاجعلها خمسين ديناراً، فالاستيضاع جاءت من هنا من كلمة ضع يعني نزِّل نقِّص.

(1) أخرجه أحمد (18033)، وأبو داود (2948)، والترمذي (1332).

(2)

أخرجه البخاري (7155).

(3)

أخرجه البخاري (2710)، ومسلم (1558).

ص: 566

قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد: قم فاقضه النصف الآخر مباشرة.

فهذا الحديث يقول أهل العلم: فيه دليل على الشفاعة وعلى الاستيضاع وعلى الإرشاد إلى الصلح، فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا قد أصلح بينهما، وتوسط لابن أبي حدرد أن يضع كعب بن مالك من حقه فحصلت الشفاعة وحصل الاستيضاع بأن قال له ضع، وحصل أيضاً الصلح بين الطرفين.

قال المؤلف رحمه الله: (وحُكمُهُ يَنفُذُ ظَاهِراً فَقطْ، فمَنْ قُضِيَ لهُ بِشَيءٍ؛ فَلا يَحِلُّ لَهُ إِلَّا إذَا كَانَ الحُكمُ مُطابِقاً لِلوَاقعِ)

حكم الحاكم ينفذ ظاهراً فقط، يعنى أن حكم الحاكم لا يُحلّ حَراماً ولا يُحرِّم حلالاً، فإذا كان المدعي يعلم من نفسه أنه كاذب في دعواه وحَكم له القاضي بأن يأخذ ما ادعاه؛ فلا يكون ذلك طريقاً إلى تحليل هذا الشيء له، فإذا ادعى أن له قطعة أرضٍ مثلاً وهو يعلم أنه كاذب وأن هذه القطعة من الأرض ليست له بل لغيره، وحكم القاضي بناءً على ما ظهر له أن قطعة الأرض له؛ فلا تصبح له بحكم الحاكم، بل هي محرَّمة عليه وليست له ويجب عليه ردها لصاحبها وإن حكم الحاكم له بذلك.

هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله أن حُكم الحاكم لا يغيِّر من حقيقة الأمر شيئاً، الواقع هو الواقع إذا كانت لك فهي حلال عليك، وإذا لم تكن لك فهي حرام عليك وإن حكم الحاكم لك بذلك فلا تكون حلالاً عليك إلا إذا طابقت الواقع وكانت بالفعل هي لك.

هذا لحديث أم سلمة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (1) متفق عليه.

هذا الحديث واضح، أنا بشر: يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب إلا ما أوحى الله له به من ذلك، فهو بشر ويقضي بين الناس بما يظهر له وعلى حسب الأدلة التي أمامه وكذلك يفعل القاضي، والناس تختصم إليه يأتون إليه بالمخاصمة وكلٌ يدَّعي الحق له، قال: ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض: لعل البعض، أنتم ترون بعض الناس عنده طلاقة لسان

(1) أخرجه البخاري (2710)، ومسلم (1558).

ص: 567

يستطيع أن يتكلم وأن يلوِّن الكلام ويزوقه وينمقه حتى يقلب الحق باطلاً والباطل حقاً، هذه ليست ممدحة هذه مَذمَّة، بعض الجهلة يمدحون أنفسهم بذلك ويفتخرون به أمام الناس وهذا غلط، هذه مَذَمَّة وليست ممدحة، أن تقلب الحق باطلاً والباطل حقاً.

وبعض الناس تجد معه الحق ولكنه لا يحسن الكلام فيُغلَب ويذهب عليه حقه لعدم قدرته على الكلام والبيان.

فأقضي بنحو ما أسمع: على حسب ما ظهر لي وما اطلعت عليه من أدلة، هذا واجبه وما عليه إلا أن يحكم بظاهر الحال.

قال: فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، هذا واضح، من حكمت له بشيء، جاء يتقاضى في قطعة أرض، في بيت، في غير ذلك، وحكمت له به وهو ليس له، هو من حق أخيه فلا يأخذه.

فإنما أقطع له قطعة من النار.

هذا دليل واضح وصريح على أن حكم الحاكم لا يغيِّر حقيقة الأمر عند الله سبحانه وتعالى، وحكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يُحل الحرام، فمن حكم له الحاكم بأخذ شيء وهو يعلم أنه ليس له؛ فلا يحل له أخذه، ولا يحتج بحكم الحاكم فلا ينفعه عند الله.

ص: 568