الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الصلاة على الغائب فلم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى على غائب إلا على النجاشي (1) ، والسبب أن للنجاشي صفة خاصة، وهي أنه لم يصلِّ عليه أحد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.
أما التوسُّعُ الذي نراه اليوم في صلاة الغائب ، فكل من أراد أن يصلّيِ على آخر صلى صلاة الغائب، فهذا توسع غير مَرْضِيٍّ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على أحد صلاة الغائب إلا على النجاشي ، وإلا فقد مات كثير من المسلمين بعيداً عنه صلى الله عليه وسلم ولم يصلِّ عليهم لا حاضراً ولا غائباً ، وإنما صلى على النجاشي لأنه هو الوحيد الذي لم يُصلَّ عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.
فصلاة الغائب تُشرَعُ، ولكن لمن لم يصلَّ عليه، وليس مطلقاً.
قال المؤلف رحمه الله:
(فصل: ويكون المشي بالجِنازةِ سريعاً)
هذا لما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: «أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة فخير تقدمونها إليه وإن يَكُ سِوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» (2).
فإذا حُملت الجنازة على الرقاب فمن السنة الإسراع بها.
قال النووي رحمه الله: «واتفق العلماء على استحباب الإسراع بالجنازة إلا أن يخاف من الإسراع انفجار الميت أو تغيره ونحوه فيتأنى» (3).
أي إذا خشينا من مفسدة تعود على الميت فلا يُسرع بها وإلا فالسنة أن يُسرع بها.
قال ابن القيم رحمه الله: «وأما دبيب الناس اليوم خطوةً خطوة - يعني مشيهم في الجنازة خطوة خطوة كما نرى اليوم - فبدعة مكروهة مخالفة للسنة ومتضمنة للتشبه بأهل الكتاب اليهود» (4).
فهذا العمل وهو المشي بالجنازة خطوة خطوة، ليس من عمل المسلمين ، بل السنة أن يسرع بها كما أمر صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه البخاري (1245)، ومسلم (951).
(2)
أخرجه البخاري (1315)، ومسلم (944) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
«المجموع» (5/ 271).
(4)
«زاد المعاد» (1/ 498).
قال رحمه الله: (والَمشْيُ معها والحَمْلُ لها سُنَّةٌ)
المشي معها سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي هو وأصحابه مع الجنائز (1)، بل قال صلى الله عليه وسلم:«من اتَّبَعَ جِنَازةَ مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يُصلى عليها ويَفْرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أُحُدٍ ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تُدفَن فإنه يرجع بقيراط» (2).
فالمشي معها سنة وأجرها عظيم.
وحَمْلُها كذلك سنة ، لقوله عليه السلام:«أسرعوا بالجنائز فان كانت صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» (3).
فقوله: «فشرٌّ تضعونه عن رقابكم» دليل على الحمل على الرقاب.
وفي رواية عند البخاري (4): «إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني
…
»، فهذا يدل على سنية حملها على الرقاب.
وأجمع العلماء على أن حمل الجنازة فرض على الكفاية (5).
وقد سبق وقلنا الفرض فرضان، فرض كفاية وفرض عين ، ففرض العين هو الذي يجب على كل مسلم بعينه أن يعمل العمل ، وأما الفرض الكفائي فهو واجب على الأمة ككل ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فالعمل لا يُطلب من كل شخص ولكن يُطلب أن يُعَمل ولابد أن يُعمل ، فإذا عمله البعض سقط عن الباقين ، وإذا لم يعمله أحد أثِم كل من علم به ولم يفعله.
ولعل المؤلف يشير أيضاً إلى حديث ابن مسعود: «من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليَدع» (6).
(1) أخرجه أحمد (8/ 137)، وأبو داود (3179)، والترمذي (1007)، والنسائي (1944)، وابن ماجه (1482).
(2)
أخرجه البخاري (47)، ومسلم (945).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
(1314) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
انظر «المجموع» للنووي (5/ 270)، و «شرح منتهى الإرادات» للبهوتي (1/ 368).
(6)
أخرجه ابن ماجه (1478)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» (2/ 481)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (3/ 512) وغيرهم.
فيه انقطاع فهو ضعيف لا يصح ولا يعمل به.
ولا يصح في كيفية حملها ولا عدد الذين يحملونها حديث.
قال: (والمُتَقَدِّمُ عليها والمُتَأخِّرُ عنها سواءٌ)
أي لا فرق بين من مشى أمام الجنازة وهي محمولة ، ومن مشى خلفها أو عن يمينها أو عن شمالها كله سواء وكله جائز إن شاء الله، فإنه لم يصح في تفضيل من مشى أمامها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى الأمر على أصله في أن الكل واسع وجائز، والكل يعد متبعاً لها.
وقد ثبت المشي أمامها عن جمع من الصحابة.
قال المؤلف رحمه الله: (ويُكْرَهُ الرُّكوبُ)
وقد ورد في ذَمِّه أحاديث لا تصح، فيبقى على الجواز، ولكن المشي وعدم الركوب هو الأفضل، فإنه الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فالسنة إذاً المشي مع الجِنازة لا الركوب.
وأما الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مشى مع الجنازة حتى دفنت ثم بعد ذلك أُتي بفرس وركب (1)، فإنه يدل على أن السنة هي المشي لا الركوب في أثناء حمل الجنازة.
قال المؤلف: (ويَحرُم النَّعيُ)
النعي في اللغة: هو الإخبار بموت الميت.
وقد ذهب المؤلف إلى تحريم النعي لحديث حذيفة بن اليمان عند الترمذي وغيره: «كان إذا مات له الميت قال: لا تؤذنوا به أحداً - أي: لا تعلموا به أحداً - إني أخاف أن يكون نعياً إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي» (2).
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (965)، وعند الترمذي (1014) التصريح بأنه كان ماشياً وركب عند الرجوع.
(2)
أخرجه أحمد (38/ 442)، والترمذي (986)، وابن ماجه (1476) وغيرهم.
والحديث ضعيف، فهو من رواية بلال بن يحيى عن حذيفة بن اليمان، وهو منقطع.
قال يحيى بن معين: هو مرسل، وأشار إلى ذلك أبو حاتم الرازي أيضاً.
وورد حديث عن ابن مسعود كذلك (1)، لكنه أيضا ضعيف لا يصح.
والصحيح أنه يجوز الإخبار بموت الميت، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بموت النجاشي (2) ، وكذلك لما مات جعفر بن أبي طالب ومن معه في المعركة أخبر الصحابة بأنه قد قُتل جعفر وقتل من معه (3) ، فدلَّ ذلك على جواز الإخبار وجواز النعي المذكور - بمعنى الإخبار بموت الميت -، خصوصاً إذا كان المُخبَر سيشارك في الصلاة على الميت أو في تكفينه أو في دفنه، فلابد من إعلامه.
فالخلاصة أن أحاديث النهي عن النعي لا تصح ، والصحيح هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموت غير واحد من الصحابة.
قال المؤلف رحمه الله: (والنِّياحَةُ)
أي وتَحرُم النياحة.
والنياحة، هي رفع الصوت بالندب - أي بتعديد محاسن الميت - ، كما نسمع من بعض النساء عندما يموت لها ميت، تولول وتقول
…
يا جبلي، يا حافظي، يا كذا
…
إلخ، فهذه هي النياحة.
وقيل هو البكاء مع صوت، أي مع رفع الصوت
…
يا ويلاه
…
يا ويلاه
…
كهذه الكلمات، فهذا من النياحة.
والنياحة محرمة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «الميت يعذب في قبره بما نِيحَ عليه» (5).
(1) أخرجه الترمذي (984) موقوفاً، ومرفوعاً، وقال: الموقوف أصح، وكذا البغوي في «شرح السنة» (5/ 340).
(2)
أخرجه البخاري (4262)، ومسلم (951).
(3)
أخرجه البخاري (4262).
(4)
أخرجه مسلم (934).
(5)
أخرجه البخاري (1292)، ومسلم (927).
لكن هذا إذا كان مُقراً لهذا الفعل في حياته وراضياً به.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن، الفَخْرُ في الأحساب، والطَّعْنُ في الأنساب، والاسْتِسْقاءُ بالنجوم، والنِّياحَة» (1).
فأما الفخر في الأحساب، فمعناه ما يَعُدُّه الرجل لنفسه من الخصال الحميدة، كالشجاعة والكرم وغير ذلك، فيفتخر لنفسه ولآبائه ولأجداده بهذه الأفعال.
والطعن في الأنساب، إدخال العيب في أنساب الناس والطعن والغمز فيها، والتقليل من شأنها، وتحقير الرجل آباء الآخرين، فهذه من أعمال الجاهلية التي ستبقى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهي محرمة بالطبع كونها من أعمال الجاهلية، وذكرها عليه السلام تحذيراً منها فهي محرمة.
والاستسقاء بالنجوم، أي طلب السُّقيا بالنجم، كما جاء في الحديث، فكانوا يقولون «مُطرنا بنوء كذا وكذا» ، أي مطرنا بالنجم الفلاني ، فهو الذي يمطرهم، وهذا أيضاً من أعمال الجاهلية.
وأما النياحة، فتقدم تعريفها.
تقول أم عطية: «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البيعة أن لا ننوح» (2).
أي أخذ عليهم صلى الله عليه وسلم عندما جاءت النساء يردن مبايعته، اشترط عليهن أن لا ينحن.
ونقل النووي رحمه الله الإجماع على تحريم النياحة (3).
قال رحمه الله: (واتِّباعُها بِنارٍ، وشَقِّ الجَيْبِ، والدُّعاء بالوَيْلِ والثُّبورِ)
أي ويَحرمُ اتِّباعُ الجِنازة بنار، ورد في ذلك حديث ضعيف عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُتَّبَعُ الجنازة بصوت ولا نار» (4).
(1) أخرجه مسلم (934).
(2)
أخرجه البخاري (1306)، ومسلم (936).
(3)
«شرح صحيح مسلم» (6) شرح حديث رقم (934).
(4)
أخرجه أحمد (16/ 511)، وأبو داود (3171) وغيرهما، وذكر الدارقطني الاختلاف فيه، ورجح طريقاً فيها مجهولان، وبهما أعلّه ابن الجوزي، وذكر له بعض اهل العلم شواهد لا يصح بها، فهو ضعيف.
لكن قد صحَّ من قول عمرو بن العاص أنه نهى عن اتِّباعِه بصوت أو نار (1)، وقال ابن المنذر:«وكره كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن يتبع الميت بنارٍ تُحمَلُ معه، أو أُحْمِلَ»
ثم ذكر من روي عنه النهي عن ذلك وأوصى به من السلف (2).
وأما تحريم شق الجيب، فلقوله صلى الله عليه وسلم:«ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» (3).
وضرب الخدود، هو اللطم، أي الضرب على الخدين
وأما شق الجيوب ، فالجيب، هو المكان الذي يدخل منه الرأس في الثوب، وكانت المرأة إذا أصابتها مصيبة أمسكت ثوبها وقطَّعته، وهذا محرَّم.
ودعوى الجاهلية، كالدعاء بالويل والثبور والنياحة وغيرها من أنواع الدعاء التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما تحريم الدعاء بالويل والثبور، فداخل في دعوى الجاهلية المتقدمة في الحديث الماضي.
والويل هو العذاب، والثبور هو الهلاك.
وجاء في حديث عند ابن ماجة وابن حبان «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها - التي تخمش وجهها بأظفارها - والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور» (4)، وهو من رواية أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهو حديث ضعيف.
وعِلَّتُه أن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد وظنَّه ابن جابر، والحقيقة أن رواية أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد هي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الضعيف، لا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وقد خفيت هذه العلة على بعض أهل العلم الأفاضل فحسّنوا الحديث ، ولكن هذا الحديث ضعيف بعلته هذه.
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (121).
(2)
انظر «الأوسط» (5/ 370) له.
(3)
أخرجه البخاري (1297)، ومسلم (103).
(4)
أخرجه ابن ماجه (1585)، وابن حبان في «صحيحه» (3146).