الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «كلوا» ، فأكلوا الطعام، وأعطى القصعة الصحيحة لصاحبة القصعة، وأبقى المكسورة للتي كَسرت القصعة (1).
فالغاصب إذا أتلف المغصوب؛ وجب عليه أن يرد مثله، فإذا غصب سيارة جديدة مثلاً وأتلفها؛ نلزمه بأن يرد سيارة مثلها، أما إذا كانت سيارة مستعملة فيصعب أن يجد سيارة مثلها؛ فنلزمه بثمنها، يقدر ثمنها في السوق ويدفعه لصاحب السيارة. والله أعلم
بابُ العِتْقِ
العتق لغة: الحرية.
وشرعاً: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرِّق.
المقصود بالرقبة: العبد. والمقصود بالعبد: المملوك الذي يباع ويشترى.
وتخليصها من الرِّق، أي من العبودية.
قال المؤلف رحمه الله: (أفضلُ الرِّقَابِ أنفَسُها)
رغَّب الشرع كثيراً في العتق، وجعل الله له أجراً عظيماً ترغيباً فيه، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من أعتق رقبة مسلمة؛ أعتق الله بكل عضوٍ منه عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه» (2). متفق عليه.
وأفضل أنواع الرقاب عِتقاً، وأكثرها أجراً؛ أنفسها عند أهلها؛ لما جاء في الصحيحين عن أبي ذرٍّ قال: قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله والجهاد في سبيله» قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: «أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً
…
» (3).
الأنفس عند أهلها، أي الذين يملكونها، تكون عندهم أنفس من غيرها، أي أجود وأفضل من غيرها، ويكون ثمنها في السوق أكثر من غيرها؛ لجودها وحسنها.
مسألة الرق -العبودية- هذه مسألة لم يختص بها الإسلام، بل هي عامة في الأديان كلها، أمرٌ موجود في جميع الأديان.
ولكن الإسلام جاء بفتح أبواب العتق وتكثير ذلك، فتجد في كفارة اليمين عتق رقبة، في كفارة الظهار عتق رقبة، ومن أسبابه: النذر والقرابة والظلم بالمثلة، وغير ذلك.
الشارع حث على هذا العمل ورغَّب فيه كثيراً حتى يُخلِّص الناس من العبودية، ولكنه لم يغلق جميع أبوابه.
(1) أخرجه البخاري (2481)، (5225).
(2)
أخرجه البخاري (6715)، ومسلم (1509).
(3)
أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84).
من هنا يتساءل البعض: لماذا الشرع لم يغلق أبواب الرِّق نهائيّاً، مع أن في الرِّق إذلالاً للناس؟ نقول: الشرع أغلق جميع أبواب الرق التي كانت في الجاهلية، وأبقى باباً، لأن مصلحته أعظم من المفسدة المذكورة.
المصلحة الأولى من وراء فتح أحد أبواب الرِّق أعظم بكثير من المفسدة التي يراها الناس اليوم؛
هي: دخول الكثير من الناس في الإسلام من وراء الرِّق.
اتخاذ الناس عبيداً بعد أن كانوا أحراراً، يشرع في الإسلام عندما يقاتل المسلمون الكفار، ويأسرون النساء والأطفال يأخذونهم رقيقاً.
المصلحة الأولى - وهي العظمى - أنهم يعرفون الإسلام ويدخلون فيه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:«عَجِبَ ربُّنا عز وجل من رجال يقادون في السلاسل حتى يدخلوا الجنة» (1).
هذه أعظم مصلحة، أن يمن الله على العبد بالإسلام، وإن أصابه ما أصابه من رق، عندما يرى حلاوة الإسلام ولذته ويعرف النعيم الذي دخل عليه بسبب ذلك؛ سيعرف أن هذه نعمة لا يعدلها شيءٌ، إذ يكون فاز بخيري الدنيا والآخرة، فإسلامه سيكون سبباً في عتقه.
المصلحة الثانية: أن المعتاد في الحروب والقتال أن يكون أعظم خاسرفيها هم الأطفال والنساء، فالأطفال يُشَرّدون والنساء يُغتصبن ويُهَنّ كثيراً في الحروب.
في الإسلام في حال الرق يُحفظ الأطفال وتحفظ النساء أيضاً؛ لأنه عندما يؤخذ الأطفال والنساء رقيقاً، ويعطى الأطفال والنساء من الحقوق الشرعية التي كتبها الله تبارك وتعالى لهم في الإسلام، ويعاملون معاملة حسنة كما أراد الله سبحانه وتعالى؛ عندها سيكون الرق عليهم نعمة وليس نقمة.
ولو يعلم كثير ممن يحاربون الرق ما جعل الله سبحانه وتعالى للرقيق إن أدى الحق الذي عليه، وإن أدى له سيده حقه كما شرع الله؛ لما حاربوه مطلقاً؛ بل لعملوا بما شرع الله فيه إن أنصفوا.
يوجد مفسدة نعم؛ لكن المصالح المرجوة من وراء ذلك أعظم بكثير.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (ويَجوزُ العِتقُ بشرطِ الخِدمةِ ونحوِها)
يعني إذا كان عند شخص عبد وأراد أن يعتقه، يجوز له أن يشترط عليه شرطاً مقابل العتق؛ كأن يقول له مثلاً: أعتقك وتكون حراً بشرط أن تخدمني بقية عمري، هذا الشرط جائز؛ لحديث سفينة
قال: أعتقتني أم سلمة- زوج النبي صلى الله عليه وسلم وشَرَطَت عليَّ أن أخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش (2).
(1) أخرجه البخاري (1140).
(2)
أخرجه أحمد (36/ 255)، وأبو داود (3932)، وابن ماجه (2526).
أخرجه أحمد وغيره.
هذا الحديث يدل على صحة مثل هذا الشرط في العتق. والله أعلم.
قال البغوي في شرح السنة: لو قال رجل لعبده: أعتقك على أن تخدمني شهراً، فقبل؛ عُتق في الحال، وعليه خدمة شهر، ولو قال: على أن تخدمني أبداً، أو مطلقاً، فقبل؛ عُتق في الحال، وعليه قيمة رقبته للمولى، وهذا الشرط إن كان مقروناً بالعتق؛ فعلى العبد القيمة، ولا خدمة، وإن كان بعد العتق؛ فلا يلزم الشرط، ولا شيء على العبد عند أكثر الفقهاء، وكان ابن سيرين يثبت الشرط في هذا.
وقال أحمد: يشتري هذه الخدمة من الذي شرط له، قيل له: يشتري بالدراهم؟ قال: نعم. انتهى
قال المؤلف: (ومن مَلك رَحِمهُ عَتَقَ عليه)
أي من ملك أحد محارمه؛ كأبيه وأمه وأخيه وأخته وابنه .. وهكذا؛ فالمملوك حر.
بمجرد أن يملكه سواء اشتراه أو وقع في نصيبه من قسمة الغنائم؛ يعتق مباشرة.
هذا قول المؤلف، ويعتمد في ذلك على حديث سمرة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«من ملك ذا رحمٍ مَحْرمٍ فهو حر» (1). ولكنه حديث ضعيف لا يثبت.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يُعتق حتى يعتقه -إن أعتقه- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه» (2). أخرجه مسلم.
لا يجزي ولدٌ عن والده، يعني للوالد على ولده فضل عظيم لا يستطيع الولد أن يرد هذا الفضل لوالده إلا في حالة واحدة، وهي أن يجد أباه عبداً مملوكاً فيشتريه ويعتقه.
الشاهد من هذا قوله: إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه، فقوله: يعتقه يدل على أن مجرد شرائه ودخوله في ملكه لا يجعله حرّاً.
قال البغوي في شرح السنة: والعمل على هذا عند أهل العلم، قالوا: إذا اشترى الرجل أحداً من آبائه، أو أمهاته، أو واحداً من أولاده، أو أولاد أولاده، أو ملكه بسبب آخر؛ يُعتق عليه من غير أن ينشئ فيه عتقاً، وقوله: فيعتقه؛ لم يرد به أن إنشاء الإعتاق شرط، بل أراد به أن الشراء يخلصه عن الرق.
واختلف أهل العلم في غير الوالدين والمولودين من المحارم، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن من ملك ذا رحم محرم كالأخ، وابن الأخ، والعم، والعمة، والخال، والخالة، يعتق عليه.
يروى ذلك عن عمر، وعبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة، وهو قول الحسن، وجابر بن زيد، وعطاء، والشعبي، والزهري، والحكم، وحماد، وإليه ذهب سفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق، واحتجوا بما روي عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك ذا رحم محرم، فهو حر» .
وقال مالك: لا يعتق إلا الوالد، والولد، والإخوة.
(1) أخرجه أحمد (33/ 338)، وأبو داود (3949)، والترمذي (1365). انظر علته في التلخيص الحبير (4/ 390).
(2)
أخرجه مسلم (1510).
وقال قوم: لا يعتق إلا الوالدون، والمولودون، وإليه ذهب الشافعي.
وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن الأب لا يعتق على الابن، لأن في الحديث:«فيشتريه فيعتقه» ، وإذا صح الشراء؛ ثبت الملك، والملك يفيد التصرف، وحديث سمرة لا يعرف مسنداً إلا من حديث حماد بن سلمة، ورواه بعضهم عن قتادة، عن الحسن، عن عمر، ورواه بعضهم عن الحسن مرسلاً.
قال رحمه الله: (ومَن مَثَّلَ بمملُوكِهِ فَعليهِ أن يُعتِقَه وإلَّا أعتقَهُ الإمامُ أو الحاكمُ)
التمثيل هنا بمعنى العقوبة، يعني من عاقب مملوكه ظلماً، وهو لا يستحق العقوبة؛ فعليه أن يعتقه، أي فيلزمه عتقه، وإن لم يعتقه هو أعتقه الإمام أو الحاكم، للملوك أن يرفع قضيته إلى الحاكم أو إلى الإمام وهو يعتقه.
يستدل المؤلف على ما يقول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لطم مملوكه أو ضربه؛ فكفارته أن يعتقه» (1). أخرجه مسلم.
من ضرب مملوكه لطمة على وجهه أو ضربه ضرباً آخر بغير وجه حق، فكفارة فعله هذا أن يعتق مملوكه حتى يتخلص من الإثم.
قال النووي: في هذا الحديث الرفق بالمماليك وحسن صحبتهم وكف الأذى عنهم، وكذلك في الأحاديث بعده.
وأجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجباً، وإنما هو مندوب؛ رجاء كفارة ذنبه فيه إزالة إثم ظلمه، ومما استدلوا به لعدم وجوب إعتاقه حديث سويد بن مقرن بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم حين لطم أحدهم خادمهم بعتقها، قالوا: ليس لنا خادم غيرها، قال:«فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها» .
قال القاضي عياض: وأجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد لشيء مما يفعله به مولاه، مثل هذا الأمر الخفيف.
قال: واختلفوا فيما كثر من ذلك وشَنُع من ضَربٍ مُبرِّح مُنهِك لغير مُوجِب لذلك، أو حَرقَهُ بنارٍ، أو قطعَ عضواً له، أو أفسدَه أو نحو ذلك مما فيه مُثلَة
…
انتهى.
وأما الرفع إلى الحاكم فاستدل المؤلف بحديث ضعيف.
ثم قال المؤلف: (ومَن أعتقَ شِرْكاً لهُ في عَبدٍ؛ ضَمِنَ لِشُرَكائِهِ نَصيبَهُم بعدَ التَّقوِيمِ، وإلَّا عَتَقَ نَصيبُهُ فقط، واستُسعِيَ العبدُ)
جاء في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أعتقَ شِرْكاً له في عبدٍ، فكان له مالٌ يَبلُغُ ثَمَنَ العبدِ؛ قُوِّمَ عليه قِيمةَ العدل، فأُعطِيَ شُركاءُه حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العبدُ؛ وإلا فقد عَتقَ منه ما عَتقَ» (2).
(1) أخرجه مسلم (1657).
(2)
أخرجه البخاري (2491)، ومسلم (1501).
وفي حديث أبي هريرة: «مَن أَعتقَ شِقْصاً له في عبد؛ فخَلاصُه في مَالهِ، إن كان له مالٌ، فإن لم يكن له مال؛ استُسعِيَ العبد غيرَ مَشقُوقٍ عليه» (1).
معنى هذا: أن يكون عندنا مملوك يملكه أكثر من شخص، مملوك عبد واحد يشترك فيه أكثر من شخص، فيُعتِق واحد من الشركاء نصيبه من العبد، فلنقل بأنهم ثلاثة شركاء، فثلث له والثلثان للآخرين، فيعتق الثلث فيصير ثلث العبد حر وثلثاه رقيق.
قال المؤلف: ومن أعتق شركاً له في عبد، يعني من أعتق نصيباً له في عبد، الشقص والشرك والنصيب كلها بمعنى واحد.
من أعتق شركاً له في عبد: يعني من أعتق نصيباً له في عبد.
ضَمِن لشركائه نصيبهم بعد التقويم: يعني عندما يعتق الثلث الذي له يجب عليه أن يعطي لكل واحد من شركائه نصيبه، بعد أن يُقوَّم العبد؛ أي يقدر ثمنه، كم يساوي العبد في السوق؟
فلنقل بأنه يساوي تسعمائة دينار، هو يكون قد أعتق منه ثلاثمائة دينار، وقوّمنا العبد أي قدرنا ثمنه فوجدناه يساوي تسعمائة دينار؛ فيلزمه أن يعطي لكل شريك من شركائه ثلاثمائة دينارٍ.
هذا إذا كان للشريك المُعتِق مال، يُلزم أن يعطي شركاءه كل واحد نصيبه، ويكون قد أُعتق العبد عليه، يعني هو معتق العبد، فيكون أجره عند الله له، ويكون ولاء العبد له.
وإلا عتق نصيبه فقط: وإذا لم يكن للمُعتِق مال؛ فلا يستطيع أن يعطي الشركاء كل واحد نصيبه قال: وإلا عتق نصيبه فقط. إذا لم يكن له مال يكون قد أُعتق ثلث العبد فقط؛ لأنه نصيب هذا الرجل.
واستُسعِيَ العبد: في الباقي.
الاستسعاء مأخوذ من السعي يعني العمل، يذهب العبد يعمل من أجل أن يدفع بقية ثمنه للشركاء، كي يصير حراً، لكن بالقدر الذي لا يشق عليه العمل، بالقدر الذي يستطيعه.
هذا معنى كلام المؤلف وهو معنى الأحاديث التي ذكرت.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصِحُّ شرطُ الوَلاءِ لغيرِ مَنْ أَعتَقَ)
الوَلاء في العتق: إذا مات المُعتَق ورثه مُعتِقهِ أو ورثة المُعتِق.
العبد إذا أُعتِق صار حرّاً، فإذا مات العبد المملوك بعدما أعتق؛ ورثه سيده الذي أعتقه.
بعد عتقه يقال له: مولى، ولسيده حق الولاء، يرثه به إذا لم يكن له ورثة.
فهو كالنسب، الولاء في العتق كالنسب، لا يزول وينتقل بالإزالة والنقل، يعني لا يمكن أن يكون الولاء لي فأقول لك: خذه أنت، فيكون الولاء لك، هذا لا يصح، كما أنه لا يصح في النسب.
فكما أنك لا تستطيع نقل الأخوة والأبوة كذلك الولاء لا ينقل.
(1) أخرجه البخاري (2492)، ومسلم (1503).
وهو حق للمعتِق لا يصح استثناؤه في البيع، أي لا يصح أن تبيع عبداً مثلاً، وتقول للشخص الذي اشتراه: إذا أعتقته فولاؤه لي. هذا لا يصح.
هذا المعنى الذي ذكره المؤلف بقوله: (ولا يصح شرط الولاء لغير مَن أعتق).
دليله حديث عائشة رضي الله عنها أن بريرة كانت مملوكة، أَمة -الأَمة تطلق على الأنثى إذا كانت مملوكة، والعبد يطلق على الذكر إذا كان مملوكاً- بريرة كانت مملوكة لقومٍ فكاتبت قومها- المكاتبة هي: أن يكون بينها وبين أهلها الذين يملكونها كتاباً أي عقداً بمبلغ معيَّن تدفعه فتكون حرة بعد أدائه، تدفع كل شهر أو كل سنة مبلغاً من المال حتى إذا أكملت المبلغ المتفق عليه بينها وبين أهلها، صارت حرة. هذه تسمى مكاتبة.
هذه بريرة كانت قد كاتبت على نفسها، فجاءت إلى عائشة تطلب منها المساعدة كي توفِّي حق أهلها وتكمل كتابتها، فقالت لها عائشة: إن شاء أهلك أن أعُدَّ لهم المال عدّاً وأعتقكِ أنا.
يعني تكون هي المعتِقة لها، ويكون ولاؤها لها، فاشترط أهلها أن يكون الولاء لهم لا لعائشة، يعني عائشة هي التي تدفع المال وهي التي تعتق؛ لكن الولاء يكون لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الولاء لمن أعتق» (1). متفق عليه. فالولاء لا يكون إلا للمعتِق.
قال المؤلف رحمه الله: (ويَجوزُ التَّدبِيرُ: فيُعتَقُ بموتِ مَالِكِهِ، وإذا احتاجَ المَالِكُ جازَ له بيعُهُ)
التدبير هو: العتق بعد الموت، مثلاً: أنا أملك مملوكاً، فأقول له: إذا مِتُّ فأنت حر، هذا التدبير، يقال: أُعتِقَ عن دُبُر، دبر الحياة أي بعد الحياة، دبر الشيء آخره، وآخر الحياة الموت، وهذا الشخص يكون قد أُعتق عن دبر أي بعد حياة سيده، فيبقى عبداً إلى أن يموت سيده يصير حرّاً.
هذا أصل الكلمة، فالتدبير هو العتق بعد الموت، أن يعتق المالك مملوكه بعد موته.
ويسمى المملوك إذا علقه سيده عتقه على موته: مدبَّراً، فالمدبَّر هو الذي يُعتَق عن دُبُر.
قال: ويجوز التدبير؛ لأنه قد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأقرَّ عليه الصلاة والسلام كما سيأتي في الحديث.
فيُعتَق بموت مالكه، بمجرد أن يموت مالكه، إذا قال له: إذا مِتُّ فأنت حر، فبمجرد أن يموت مالكه يصير حرّاً.
وإذا احتاج المالك جاز له بيعه: إذا قال المالك لمملوكه: إذا مت فأنت حر، صار المملوك مدبَّراً، ثم احتاج السيد مالاً، يجوز له بيعه، بهذا يكون التدبير قد انتهى.
ودليل ذلك حديث جابر في الصحيحين أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دُبرٍ فاحتاج، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«من يشتريه مني؟ » فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا، فدفعه إليه (2).
(1) أخرجه البخاري (6754)، ومسلم (1504).
(2)
أخرجه البخاري (2403)، ومسلم (997).
هذا رجل قد دبَّر مملوكه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلما احتاج باعه عليه الصلاة والسلام، فيجوز التدبير، ويجوز بيع المدبَّر عند حاجة المالك.
قال المؤلف رحمه الله: (ويجوزُ مُكاتبةُ المملوكِ على مالٍ يُؤدِّيه؛ فيصيرُعندَ الوفاءِ حرّاً، ويُعتَقُ منه بقدرِ ما سلَّمَ، وإذا عَجَزَعن تَسليمِ مَالِ الكِتابةِ؛ عادَ في الرِّقِّ)
المكاتَب هو: العبد الذي يُكاتِب على نفسه بثمنه.
يعني يعقد عقداً بينه وبين سيده على أنه إذا دفع مبلغاً من المال يتفقان عليه؛ صار حراً.
قال المؤلف: ويجوز مكاتبة المملوك على مالٍ يؤديه: يجوز أن يكاتب السيد - المالك- يكاتب مملوكه على مبلغٍ من المال يؤديه، فإذا أدّاه صار حرّاً.
ودليل المكاتبة: قول الله تبارك وتعالى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33].
وحديث عائشة المتقدم في قصة بريرة.
فيصير عند الوفاء حرّاً: أي عندما يوفِي المبلغ، أي يدفع المال المتفق عليه كاملاً يصير المملوك حراً.
ويُعتَق منه بقدر ما سلَّم: أي أن المملوك المكاتب إذا دفع نصف ما عليه مثلاً، صار نصفه حراً ونصفه عبداً، وإذا دفع الثلث صار ثلثه حراً وثلثاه عبداً .. وهكذا.
هذا معنى كلام المؤلف، لكن هذا الكلام غير صحيح، فهو مبني على حديث ضعيف؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْمُكَاتَبُ يُعْتقُ منه بِقَدْرِ مَا أَدَّى، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَدْرِ مَا أعتِقَ مِنْهُ، وَيَرِثُ بِقَدْرِ مَا أعتِقَ مِنْهُ» (1).
والحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «المكاتَب عبدٌ ما بقي عليه درهم» (2).
إذاً لا يُعتق منه شيء حتى يؤدي جميع ما عليه، قبل ذلك هو عبد.
قال الترمذي رحمه الله: والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وقال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وهو قول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
قال المؤلف: وإذا عجز عن تسليم مال المكاتبة عاد في الرِّقِّ: هو أصلاً باقٍ في الرق ولم يخرج منه على الصحيح، فإذا عجز عن تسليم المكاتبة؛ بقي رقيقاً على حاله الأول. والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ومَن استَولَدَ أمته؛ لم يَحِلَّ له بيعها؛ وَعَتَقَت بموته، أو بتخييرِهِ لِعتقِها)
(1) أخرجه أحمد (3/ 415)، وأبو داود (4581)، والترمذي (1295)، والنسائي (4811).
(2)
أخرجه أحمد (11/ 540)، وأبو داود (3926)، والترمذي (1260)، وابن ماجه (2518)، بعضهم باللفظ المذكور، وبعضهم بلفظ:«أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ، فَأَدَّاهَا إِلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ، فَهُوَ رَقِيقٌ» . وفي صحة الحديثين هذا والذي قبله نزاع؛ انظر البدر المنير (9/ 642)، والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 547).
هذه التي تسمى أم ولد، الرقيق أنواع ليس نوعاً واحداً.
القِنّ: وهو الرقيق الأصلي، ليس نوعاً من الانواع الآتية.
قال النووي: الْقِنّ بِكَسْر الْقَاف، وَهُوَ فِي اصلاح الْفُقَهَاء: الرَّقِيق الَّذِي لم يحصل فِيهِ شَيْء من أَسبَاب الْعِتْق ومقدماته؛ خلاف الْمكَاتب، وَالْمُدبّر، والمستولدة، وَمن عُلِّق عتقه بِصفة.
وَأما أهل اللُّغَة فَقَالُوا: الْقِنّ: عبدٌ مُلِك هُوَ وَأَبَوَاهُ. انتهى
والمدبَّر، والمكاتَب، تقدما.
والآن معنا أم الولد، هي المستولدة، يعني ولدت ولداً من سيدها.
أم الولد هي: المملوكة التي أنجبت من سيدها.
الأمة ملك اليمين يجوز لمالكها أن يجامعها، إذا لم تكن متزوجة، هي ليست زوجة بل أمة مملوكة، له أن يجامعها كما يجامع زوجته من غير أن يتزوجها.
مارية أم إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم كانت جارية، جامعها النبي صلى الله عليه وسلم وأنجب منها إبراهيم، ولم تكن زوجته باتفاق أهل العلم.
لو ملك مائة من النساء يجوز له أن يجامعهن جميعاً، ما في بأس بهذا.
هذه المملوكة إذا جامعها سيدها فأنجبت منه صارت أم ولد؛ كمارية أم إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا معنى استولدها سيدها؛ أي أنجب من أمته ولداً.
الولد في الشرع وفي اللغة يطلق على الذكر والأنثى.
فإذا أنجبت الأمة من سيدها ولداً سواء كان ذكراً أم أنثى؛ صارت أم ولد.
يقول المؤلف: أم الولد لا يحل بيعها، ويستدل على ذلك هو وغيره ممن يقول بقوله؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم في مارية:«أعتقها ولدها» (1).
وفي رواية: «من وطِئ أَمةً فولدت له؛ فهي مُعتَقةً عن دُبرٍ منه» (2).
بما أنها معتقة عن دبر منه؛ فلا يصح بيعها، وتكون معتقة بمجرد موته.
ولذلك قال المؤلف: وعتقت بموته أو بتخييره لعتقها، يعني إما أن يموت فتكون معتقة أو أن يخيرها وهو حي بين العتق والرق، فإذا اختارت الحرية تكون حرة.
لكن هذه الأحاديث التي ذُكرت ضعيفة لا يصح منها شيء.
والحديث الصحيح؛ حديث جابر: قال: كنا نبيع سَرارينا أمهات أولادنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ، فلما كان عمر نهانا فانتهينا (3). أخرجه أبو داود وغيره.
فيجوز بيعهن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليه وكذلك أبو بكر، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مع فهم أبي بكرومن معه من الصحابة لها مقدمة، وما فعله عمر رضي الله عنه اجتهاد له.
(1) أخرجه ابن ماجه (2516). وهو ضعيف، انظر علته في إرواء الغليل للألباني (1772).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 484)، وابن ماجه (2515)، قال البيهقي في السنن الكبرى (10/ 579): ضعفه أكثر أصحاب الحديث. انظر علته في البدر المنير (9/ 753)، وإرواء الغليل للألباني (1771).
(3)
أخرجه أحمد (22/ 340)، وأبو داود (3954)، وابن ماجه (2517). والحديث صحيح، أشار إلى صحته العقيلي والبيهقي، وصححه الألباني، والنكارة التي ذكرها أبو حاتم الرازي إنما هي في بعض طرقه. انظر البدر المنير (9/ 758). والله أعلم.