الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني عشر: صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم بإيجاز
عن جَعْفَرِ بن مُحَمَّدٍ عن أبيه. قال: دَخَلْنَا على جَابِرِ بن عبد اللَّه، فَسَأَلَ عن الْقَوْمِ (1) حتى انْتَهَى إلي. فقلت: أنا محمد بن عَلِيِّ بن حُسَيْنٍ، فَأَهْوَى بيده إلى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الأعلى (2)، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بين ثَدْيَيَّ وأنا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ. فقال: مَرْحَبًا بِكَ. يا بن أَخِي! سَلْ عَمَّا شِئْتَ. فَسَأَلْتُهُ وهو أَعْمَى. وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ. فَقَامَ في نِسَاجَةٍ (3) مُلْتَحِفًا بها. كُلَّمَا وَضَعَهَا على مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إليه من صِغَرِهَا. وَرِدَاؤُهُ إلى جَنْبِهِ، على الْمِشْجَبِ (4). فَصَلَّى بِنَا. فقلت: أَخْبِرْنِي عن حَجَّةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال بيده (5). فَعَقَدَ تِسْعًا. فقال إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لم يَحُجَّ. ثُمَّ أَذَّنَ في الناس (6) في الْعَاشِرَةِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ. فَقَدِمَ المدِينَة بَشَرٌ كَثِيرٌ. كلهم يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ. فَخَرَجْنَا معه، حتى أَتَيْنَا
(1)(فسأل عن القوم) أي عن جماعة الرجال الداخلين عليه، فإنه إذ ذاك كان أعمى. عَمِيَ في آخر عمره.
(2)
(فنزع زري الأعلى) أي أخرجه من عروته لينكشف صدري عن القميص.
(3)
(نساجة) قال الإمام النووي: هذا هو المشهور في نسخ بلادنا ورواياتنا لصحيح مسلم وسنن أبي داود. ووقع في بعض النسخ: في ساجة. بحذف النون. ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور. قال: وهو الصواب. قال: والساجة والساج، جميعاً، ثوب كالطيلسان وشبهه. قال: ورواية النون وقعت في رواية الفارسي ومعناه ثوب ملفق. قال: قال بعضهم: النون خطأ وتصحيف. قلت: ليس كذلك، بل كلاها صحيح، ويكون ثوباً ملفقاً على هيئة الطيلسان. وقال في النهاية: هي ضرب من الملاحف منسوجة، كأنها سميت بالمصدر. يقال: نسجت أنسج نسجاً نساجة.
(4)
(المشجب) هو عيدان تضم رؤوسها، ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب.
(5)
(فقال بيده) أي أشار بها.
(6)
(ثم أذن في الناس) معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم؛ ليتأهبوا للحج معه، ويتعلموا المناسك والأحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام.
ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بن أبي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ أَصْنَعُ قال: ((اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي (1) بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي)) فَصَلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ (2) حتى إذا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ على الْبَيْدَاءِ، نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي (3) بين يَدَيْهِ. من رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذلك، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذلك، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذلك، وَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وهو يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ، وما عَمِلَ بِهِ من شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ (4)((لَبَّيْكَ اللَّهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لك لَبَّيْكَ، إِنَّ الحمْدَ وَالنِّعْمَةَ لك وَالملْكَ، لَا شَرِيكَ لك)). وَأَهَلَّ الناس بهذا الذي يُهِلُّونَ بِهِ، فلم يَرُدَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليهم شَيئاً منه. وَلَزِمَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ قال جَابِرٌ رضي الله عنه: لَسْنَا نَنْوِي إلا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حتى إذا
أَتَيْنَا الْبَيْتَ معه اسْتَلَمَ الرُّكْنَ (5) فَرَمَلَ ثَلَاثًا (6) وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ
نَفَذَ إلى مَقَامِ إبراهيم (7) عليه السلام فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا من مَقَامِ إبراهيم
(1)(واستثفري) الاستثفار هو أن تشد في وسطها شيئاً، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها، من قدامها ومن ورائها، في ذلك المشدود في وسطها. وهو شبيه بثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها.
(2)
(ثم ركب القصواء) هي ناقته صلى الله عليه وسلم. قال أبو عبيدة: القصواء المقطوعة الأذن عرضاً.
(3)
(ثم نظرت إلى مد بصري) هكذا هو في جميع النسخ: مد بصري، وهو صحيح، ومعناه منتهى بصري، وأنكر بعض أهل اللغة: مد بصري، وقال الصواب: مدى بصري، وليس هو بمنكر، بل هما لغتان، المد أشهر.
(4)
(فأهلّ بالتوحيد) يعني قوله: لبيك لا شريك لك.
(5)
(استلم الركن) يعني الحجر الأسود. فإليه ينصرف الركن عند الإطلاق واستلامه مسحه وتقبيله.
(6)
(فرمل ثلاثاً) قال العلماء: الرمل هو إسراع المشي مع تقارب الخطا، وهو الخبب.
(7)
(ثم نفذ إلى مقام إبراهيم) أي بلغه ماضياً في زحام.
مُصَلًّى} (1) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أبي يقول - ولا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هو اللَّه أَحَدٌ، وَقُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ من الْبَابِ (2) إلى الصَّفَا. فلما دَنَا من الصَّفَا قَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ من شَعَائِرِ اللَّهِ} (3)((أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ)) فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عليه حتى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّه، وَكَبَّرَهُ، وقال:((لَا إِلَهَ إلا اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، له الملكُ وَلَهُ الحمْدُ وهو على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إلا اللَّه وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ)) ثُمَّ دَعَا بين ذلك قال مِثْلَ هذا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ نَزَلَ إلى الْمَرْوَةِ حتى إذا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ (4) في بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حتى إذا صَعِدَتَا (5) مَشَى، حتى أتى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ على الْمَرْوَةِ كما فَعَلَ على الصَّفَا، حتى إذا كان آخِرُ طَوَافِهِ على الْمَرْوَةِ فقال:((لو أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ لم أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كان مِنْكُمْ ليس معه هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً)). فَقَامَ سُرَاقَةُ بن مَالِكِ بن جُعْشُمٍ فقال: يا رَسُولَ اللَّه
أَلِعَامِنَا هذا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الْأُخْرَى وقال: ((دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ)) مَرَّتَيْنِ ((لَا بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ)) وَقَدِمَ عَلِيٌّ من الْيَمَنِ
(1) سورة البقرة، الآية:125.
(2)
(ثم خرج من الباب) أي من باب بني مخزوم، وهو الذي يسمى باب الصفا. وخروجه عليه السلام منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا.
(3)
سورة البقرة، الآية:158.
(4)
(حتى إذا انصبت قدماه) أي انحدرت. فهو مجاز من انصباب الماء.
(5)
(حتى إذا صعدتا) أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي.
بِبُدْنِ (1) النَّبي صلى الله عليه وسلم،فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا، وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذلك عليها، فقالت: إِنَّ أبي أَمَرَنِي بهذا، قال: فَكَانَ عَلِيٌّ يقول بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا (2) على فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عنه فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذلك عليها، فقال:((صَدَقَتْ صَدَقَتْ. مَاذَا قُلْتَ حين فَرَضْتَ الْحَجَّ؟)) قال قلت: اللَّهم إني أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قال: ((فإن مَعِيَ الْهَدْيَ فلا تَحِلُّ)) قال: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الذي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ من الْيَمَنِ وَالَّذِي أتى بِهِ النبي صلى الله عليه وسلم مِائَةً قال: فَحَلَّ الناس كلهم وَقَصَّرُوا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كان معه هَدْيٌ، فلما كان يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلى مِنًى، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بها الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حتى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ من شَعَرٍ تُضْرَبُ له بِنَمِرَةَ (3) فَسَارَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إلا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (4). كما كانت قُرَيْشٌ
(1)(ببدن) هو جمع بَدَنة، وأصله الضم. كخُشب في جمع خشبة.
(2)
(محرشاً) التحريش الإغراء، والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها.
(3)
(بنمرة) بفتح النون وكسر الميم. هذا أصلها. ويجوز فيها ما يجوز في نظيرها، وهو إسكان الميم مع فتح النون وكسرها، وهي موضع بجنب عرفات، وليست من عرفات.
(4)
(ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام) معنى هذا أن قريشاً كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام. وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح. وقيل إن المشعر الحرام كل المزدلفة. وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات، فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه. فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات؛ لأن اللَّه تعالى أمره بذلك في قوله تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي سائر العرب غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم اللَّه فلا نخرج منه.
تَصْنَعُ في الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ (1) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قد ضُرِبَتْ له بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بها حتى إذا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ (2) له، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي (3). فَخَطَبَ الناس وقال:((إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا (4) في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا، ألا كُلُّ شَيْءٍ من أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ من دِمَائِنَا دَمُ بن رَبِيعَةَ بن الحارِثِ كان مُسْتَرْضِعًا في بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بن عبد المطَّلِبِ، فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّه في النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّه وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّه (5)، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْلَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ (6) فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك
(1)(فأجاز) أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات.
(2)
(فرحلت) أي وضع عليها الرحل.
(3)
(بطن الوادي) هو وادي عُرَنة، وليست عرنة من أرض عرفات عند الشافعي والعلماء كافة، إلا مالكاً فقال: هي من عرفات.
(4)
(كحرمة يومكم هذا) معناه متأكدة التحريم، شديدته.
(5)
(بكلمة اللَّه) قيل: معناه قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). وقيل: المراد كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. وقيل: قوله تعالى:
{فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} وهذا الثالث هو الصحيح.
(6)
(ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه) قال الإمام النووي: المختار أن معناه أن لا يأذن لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة أو أحداً من محارم الزوجة. فالنهي يتناول جميع ذلك. وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة، لا محرم ولا غيره، في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه.
فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ (1)، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقد تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إن اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّه (2). وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟)) قالوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قد بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فقال بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى الناس (3)((اللَّهم اشْهَدْ اللَّهم اشْهَدْ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ولم يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شيئاً، ثُمَّ رَكِبَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أتى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إلى الصَّخَرَاتِ (4)، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بين يَدَيْهِ (5)، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فلم يَزَلْ وَاقِفًا حتى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حتى غَابَ الْقُرْصُ (6)، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ
(1)(فاضربوهن ضرباً غير مبرح) الضرب المبرح: هو الضرب الشديد الشاق. ومعناه اضربوهن ضرباً ليس بشديد ولا شاق، والبرح المشقة.
(2)
(كتاب اللَّه) بالنصب، بدل عما قبله. وبالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
(3)
(وينكتها إلى الناس) هكذا ضبطناه: ينكتها. قال القاضي: كذا الرواية فيه، بالتاء المثناة فوق. قال: وهو بعيد المعنى. قال: قيل صوابه ينكبها. قال: ورويناه في سنن أبي داود بالتاء المثناة من طريق ابن العربي. وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار. ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيراً إليهم. ومنه: نكب كنانته إذا قلبها. هذا كلام القاضي.
(4)
(الصخرات) هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة. وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات. فهذا هو الموقف المستحب.
(5)
(وجعل حبل المشاة بين يديه) روى حَبْل وروي جَبَل. قال القاضي عياض رحمه الله: الأول أشبه بالحديث. وحبل المشاة أي مجتمعهم. وحبل الرمل ما طال منه وضخم. وأما بالجيم فمعناه طريقهم، وحيث تسلك الرجالة.
(6)
(حتى غاب القرص) هكذا هو في جميع النسخ. وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ. قال: قيل صوابه حين غاب القرص. هذا كلام القاضي، ويحتمل أن الكلام على ظاهره. ويكون قوله: حتى غاب القرص بياناً لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة. فإن هذه تطلق مجازاً على مغيب معظم القرص فأزال ذلك الاحتمال بقوله: حتى غاب القرص، واللَّه أعلم.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ (1) الزِّمَامَ. حتى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ (2). وَيَقُولُ بيده اليمنى (3): ((أَيُّهَا الناس السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ)) (4) كُلَّمَا أتى حَبْلًا من الْحِبَالِ (5) أَرْخَى لها (6) قَلِيلًا حتى تَصْعَدَ، حتى أتى الْمُزْدَلِفَةَ (7)، فَصَلَّى بها الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ولم يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شيئاً (8)، ثُمَّ اضْطَجَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حين تَبَيَّنَ له الصُّبْحُ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حتى أتى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فلم يَزَلْ وَاقِفًا حتى أَسْفَرَ جِدًّا (9) فَدَفَعَ
قبل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بن عَبَّاسٍ وكان رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ
(1)(وقد شنق للقصواء) شنق ضم وضيق.
(2)
(مورك رحله) قال الجوهري: قال أبو عبيدة: المورك والموركة هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا ملّ الركوب. وضبطه القاضي بفتح الراء قال: وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة.
(3)
(ويقول بيده) أي مشيراً بها.
(4)
(السكينة السكينة) أي الزموا السكينة. وهي الرفق والطمأنينة.
(5)
(كلما أتى حبلاً من الحبال) الحبال جمع حبل. وهوالتل اللطيف من الرمل الضخم. وفي النهاية: قيل: الحبال في الرمل كالجبال في غير الرمل.
(6)
(أرخى لها) أي أرخى للقصواء الزمام وأرسله قليلاً.
(7)
(المزدلفة) معروفة. سميت بذلك من التزلف والازدلاف، وهو التقرب، لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليه وتقربوا منها. وقيل: سميت بذلك لمجيء الناس إليها في زلف من الليل، أي ساعات.
(8)
(ولم يسبح بينهما شيئاً) أي لم يصلّ بينهما نافلة.
(9)
(حتى أسفر جداً) الضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور أولاً. وقوله: جداً، بكسر الجيم، أي إسفاراً بليغاً.
أَبْيَضَ وَسِيمًا (1) فلما دَفَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ (2) فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدَهُ على وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إلى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ. فَحَوَّلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدَهُ من الشِّقِّ الْآخَرِ على وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ من الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ حتى أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ (3) فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى التي تَخْرُجُ على الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى (4)، حتى أتى الْجَمْرَةَ التي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مع كل حَصَاةٍ منها مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ (5)، رَمَى من بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إلى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بيده، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا
فَنَحَرَ ما غَبَرَ (6)، وَأَشْرَكَهُ في هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ من كل بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا من لَحْمِهَا
(1)(وسيماً) أي حسناً.
(2)
(مرت به ظعن يجرين) الظُّعن بضم الظاء والعين، ويجوز إسكان العين، جمع ظعينة. كسفينة وسفن. وأصل الظعينة البعير الذي عليه امرأة. ثم تسمى به المرأة مجازاً لملابستها البعير.
(3)
(حتى أتى بطن محسّر) سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي أعيا وكلَّ، ومنه قوله تعالى:{يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير} .
(4)
(الجمرة الكبرى) هي جمرة العقبة، وهي التي عند الشجرة.
(5)
(حصى الخذف) أي حصى صغار بحيث يمكن أن يرمى بأصبعين. والخذف، في الأصل، مصدر سمي به. يقال: خذفت الحصاة ونحوها خذفاً من باب ضرب. أي رميتها بطرفي الإبهام والسبابة. قال النووي: وأما قوله: فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف. فكذا هو في النسخ. وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ. قال: وصوابه مثل حصى الخذف. قال: وكذلك رواه غير مسلم، وكذا رواه بعض رواة مسلم. هذا كلام القاضي: قلت: والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو الصواب، بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام إلا كذلك، ويكون قوله: حصى الخذف متعلقاً بقوله حصيات. أي رماها بسبع حصيات حصى الخذف، يكبر مع كل حصاة، فحصى الخذف متصل بحصيات واعترض بينهما يكبر مع كل حصاة، وهذا هو الصواب.
(6)
(ما غبر) أي ما بقي.
وَشَرِبَا من مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلى الْبَيْتِ (1)، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بَنِي عبد الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ على زَمْزَمَ، فقال:((انْزِعُوا (2) بَنِي عبد الْمُطَّلِبِ! فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ الناس (3) على سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ)) فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ منه.
وَكَانَتْ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أبو سَيَّارَةَ (4) على حِمَارٍ عُرِىٍ، فلما أَجَازَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لم تَشُكَّ قُرَيْشٌ (5) أَنَّهُ سَيَقْتَصِرُ عليه وَيَكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ فَأَجَازَ ولم يَعْرِضْ له حتى أتى عَرَفَاتٍ فَنَزَلَ (6).
(1)(فأفاض إلى البيت) فيه محذوف تقديره: فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر، فحذف ذكر الطواف لدلالة الكلام عليه.
(2)
(انزعوا) معناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء.
(3)
(لولا أن يغلبكم الناس) أي لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج، ويزدحمون عليه، بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم، لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.
(4)
(يدفع بها أبو سيارة) أي في الجاهلية.
(5)
(لم تشك قريش) معنى الحديث أن قريشاً كانت قبل الإسلام تقف بالمزدلفة، وهي من الحرم، ولا يقفون بعرفات. وكان سائر العرب يقفون بعرفات، وكانت قريش تقول: نحن أهل الحرم، فلا نخرج منه، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل المزدلفة اعتقدوا أنه يقف بالمزدلفة على عادة قريش، فجاوز إلى عرفات، لقول اللَّه عز وجل:{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي جمهور الناس. فإن مَن سوى قريش كانوا يقفون بعرفات ويفيضون منها.
(6)
مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 1216.