الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث والثلاثون: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الحج ووداعه لأمته ووصاياه
أولاً: أذانه صلى الله عليه وسلم في الناس بالحج:
بعد أن بلَّغ صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في اللَّه حق جهاده، أعلن في الناس وأذَّن فيهم، وأعلمهم أنه حاج في السنة العاشرة - بعد أن مكث في المدينة تسع سنين كلها معمورة بالجهاد والدعوة والتعليم - وبعد هذا النداء العظيم الذي قصد به صلى الله عليه وسلم إبلاغ الناس فريضة الحج؛ ليتعلموا المناسك منه صلى الله عليه وسلم؛ وليشهدوا أقواله، وأفعاله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد (1)، قال جابر رضي الله عنه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله
…
وساق الحديث وفيه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء (2) نظرت إلى مدِّ بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك (3) ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله وما عمل به من شيء عملنا به
…
وساق الحديث وقال: حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضُرِبت له بنمرة فنزل بها.
ثانياً: خطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وتوديعه لأمته ووصاياه:
1 - خطبته صلى الله عليه وسلم ووداعه ووصيته لأمته في عرفات:
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 8/ 422، وشرح الأبي، 4/ 244.
(2)
البيداء: اسم للمفازة والصحراء التي لا شيء فيها، وهي هنا موضع بذي الحليفة. فتح الملك المعبود، 2/ 9.
(3)
قيل كان عددهم تسعين ألفاً، وقيل مائة وثلاثين ألفاً. انظر: المرجع السابق، 2/ 9، و 105.
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع (1) ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله (2) فاتقوا اللَّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه (3) ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم (4) أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهُنَّ ضرباً غير مبرِّح (5)، ولهُنَّ عليكم رزقهنَّ وكُسوتهنَّ بالمعروف، وقد تركت فيكم ما
(1) والمعنى أنه أبطل كل شيء من أمور الجاهلية وصار كالشيء الموضوع تحت القدمين فلا يعمل به في الإسلام، فجعله كالشيء الموضوع تحت القدم من حيث إهماله وعدم المبالاة به. انظر: شرح النووي، 8/ 432، وشرح الأبي، 4/ 255، وفتح الملك المعبود، 2/ 18.
(2)
والمعنى الزائد على رأس المال باطل، أما رأس المال فلصاحبه بنص القرآن، انظر: شرح النووي، 8/ 433.
(3)
قيل: الكلمة هي: الأمر بالتسريح بالمعروف، أو الإمساك بإحسان، وقيل: هي لا إله إلا اللَّه، وقيل: الإيجاب والقبول، وقيل: هي قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء، الآية: 3]. قال النووي: ((وهذا هو الصحيح ويدخل فيه القبول والإيجاب)) شرح النووي،
8/ 433، وشرح الأبي، 4/ 256، وفتح الملك المعبود، 2/ 19.
(4)
والمعنى لا يأذنَّ لأحد من الرجال أو النساء تكرهون أن يدخل منازلكم، وليس المراد من ذلك الزنا؛ لأنه حرام سواء كرهه الزوج أو لم يكرهه؛ ولأن فيه الحد. شرح النووي، 8/ 433، والأبي، 4/ 257، وفتح الملك المعبود، 2/ 20.
(5)
غير المبرِّح: لا شديد ولا شاق، انظر: فتح الملك المعبود، 2/ 19، وشرح النووي، 8/ 434.
لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللَّه (1)، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟))، قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس:((اللَّهم اشهد، اللَّهم اشهد)) ثلاث مرات ثم أذَّن، ثم أقام، فصلَّى الظهر، ثم أقام فصلَّى العصر، ولم يصلِّ بينهما شيئاً
…
)) (2)، وقد كان في الموقف جمٌّ غفير لا يُحصي عددهم إلا اللَّه تعالى (3).
وعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْمُخَضْرَمَةِ (4) بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ:((أَتَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ هَذَا، وَأَيَّ شَهْرٍ هَذَا، وَأَيَّ بَلَدٍ هَذَا؟))، قَالُوا: هَذَا بَلَدٌ حَرَامٌ، وَشَهْرٌ حَرَامٌ، وَيَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: ((أَلَا وَإِنَّ أَمْوَالَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي يَوْمِكُمْ هَذَا، أَلَا وَإِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَأُكَاثِرُ بِكُمْ الْأُمَمَ، فَلَا تُسَوِّدُوا وَجْهِي، ألَا وَإِنِّي مُسْتَنْقِذٌ أُنَاسًا، وَمُسْتَنْقَذٌ مِنِّي أُنَاسٌ، فَأَقُولُ:
(1) والمعنى قد تركت فيكم أمراً لن تخطئوا إن تمسكتم به في الاعتقاد والعمل، وهو كتاب اللَّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسكت عن السنة؛ لأن القرآن هو الأصل في الدين، أو لأن القرآن أمر باتباع السنة كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُولِ} [النساء، الآية: 59]، وقال:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر، الآية: 7]. انظر: فتح الملك المعبود، 2/ 20، وقد جاء عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الوصية بـ ((
…
كتاب اللَّه وسنة نبيه
…
))، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، برقم 36.
(2)
أخرجه مسلم، في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 1218.
(3)
قيل: مائة وثلاثون ألفاً. انظر: فتح الملك المعبود، 2/ 105.
(4)
المخضرمة: من خضرم، كدحرج، أي: قطع طرف أذنها.
يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ)) (1).
وأُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة يوم الجمعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (2).
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:أن رجلاً من اليهود، قال له: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم تقرؤنها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً؟ قال: أيُّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} ، قال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة)) (3).
وهذه أكبر نعم اللَّه تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جعله اللَّه خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الجن والإنس فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، قال اللَّه عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً
وَعَدْلاً} (4)، أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل
(1) ابن ماجه، كتاب المناسك، باب الخطبة يوم النحر، برقم 3057، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 58.
(2)
سورة المائدة، الآية: 3، والحديث أخرجه البخاري، في كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، برقم 45، وأطرافه في صحيح البخاري بهذه الأرقام: 4407، 4606، 7268، ومسلم، كتاب التفسير، باب في تفسير آيات متفرقة، برقم 3017.
(3)
البيهقي في سننه الكبرى، 3/ 181، برقم:5412.
(4)
سورة الأنعام، الآية:115.