الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول في موضع آخر مثبتاً لهاتين الصفتين ومفرقاً بينهما وبين العلم: "
…
إن لله علماً حقيقياً هو وصف له ولكنه لا يشبه علمنا، وإن له سمعاً حقيقياً هو وصف له لا يشبه سمعنا
…
وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى
…
" 1.
ويقول أيضاً في موضع آخر: "
…
إنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، وبصير ببصر ليس كبصرهم، وعليم بعلم ليس كعلمهم
…
" 2.
ويحسن أن نختم هنا بكلام الشيخ رشيد عن أثر الإيمان بهاتين الصفتين إذ يقول إنه: "
…
ينبه النفوس إلى الحياء من الله تعالى أن يراها حيث نهاها، فيكون عندها أهون الناظرين، وأن يسمع منها ما لا يرضاه فإنه لا يحب الجهر بالسوء من القول
…
وهذا هو التأثير الذي كان يودعه في قلوبهم، وهذا الذي يليق بحكمة الله تعالى وجلاله، ويجعل دينه مصلحاً للنفوس، ومثقفاً للعقول، بتذكيرها بمراقبته، وحملها على خشيته، ولم يكن بناء دينه على نظريات أرسطو وأفلاطون" 3.
1 المصدر نفسه (1/ 77)
2 مجلة المنار (28/ 270)
3 المصدر نفسه (3/ 747) وانظر: تفسير المنار (4/ 262)
المطلب الثالث: صفات الفعل العقلية:
والقسم الثاني من الصفات هو صفات الفعل العقلية، وهي التي دل عليها العقل، وعلى اتصاف الرب بها مع ورود السمع بها.
وقد سبق أن ذكرت تعريف الشيخ رشيد لصفة الفعل، بأنه ما ليس له مبدأ خاص في النفس واستقرار فيها على العكس من صفة الذات 4.
وفي موضع آخر مثل الشيخ رشيد لصفات الفعل في سياق بيانه لدلالة صفة الربوبية على صفات الأفعال فقال:"وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة
4 انظر: (ص:363) من هذا البحث.
على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر، فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شؤونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى كالخالق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط، الخافض الرافع المعز المذل، الحكم العدل اللطيف الخبير
…
" 1.
فالشيخ رشيد يستدل عليها بربوبية الله تعالى فإنها تدل دلالة عقلية على هذه الصفات.
ولم يتكلم رحمه الله عن صفات الفعل العقلية بأكثر من هذا، إلا صفة "الكلام" والتي ذكرت قبل أنها صفة ذات باعتبار وصفه فعل باعتبار آخر 2 لذا فإنني أجعل الكلام عليها هنا مرة واحدة، وأجعلها مثالاً لصفات الفعل العقلية التي تكلم عليها الشيخ رشيد رحمه الله.
صفة الكلام:
يثبت السلف الكلام صفة لله تعالى مستندين إلى العقل والنقل. فيقولون: إن الله تعالى متكلم بكلام حقيقي، قائم بنفسه، يسمعه المخاطب بصوت وحرف، ولا يبحثون في كيفية تكلمه تعالى به 3.
وأما الأدلة: فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 4
1 تفسير المنار (1/ 75)
2 انظر: (ص:363) من هذا البحث.
3 ابن تيمية: شرح الأصفهانية (73 و87)، وانظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 225)، ابن خزيمة: التوحيد (ص: 136)، والدارمي: الرد على المريسي (ص: 106)، والرد على الجهمية (ص: 71 ـ72) ، وابن منده: التوحيد (3/ 51)، والبيهقي: الأسماء والصفات (1/ 297)، وانظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 174) ط. التركي والأرناؤوط، والأشعري: الإبانة (ص: 87) ت: فوقية، والسجزي: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 145) وما بعدها، تحقيق أستاذي الدكتور: محمد با كريم با عبد الله، ط: الجامعة الإسلامية، الأولى 1413هـ.
4 سورة النساء، الآية (164)
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1، وفي هذه الآية دليل واضح على أن الله تعالى يتكلم بكلام يسمع.
ومن السنة: أحاديث؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب
…
" 2، وقوله: "بصوت يسمعه " صريح في إثبات الصوت في كلامه تعالى وأنه يُسمع، وفيه بيان البون البعيد بين صفات الخالق وصفات المخلوق إذ أن صوته تعالى يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب بخلاف أصوات المخلوقين، وأما إثبات الحرف ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن: ألف: حرف، ولام: حرف، وميم: حرف" 3.
أما الخلف فإنهم وإن تباينت آراؤهم في الظاهر إلا أنهم في الحقيقة متفقون على إنكار كلام الله تعالى الحقيقي، وأنه لا يتكلم بكلام يسمع، بل بكلام يخلقه في غيره، وينسب إليه على سبيل المجاز، وهو عرض مخلوق 4.
وحقيقة قول هؤلاء أن الله تعالى لم يتكلم إذ لم يقم به كلام، ولا
1 سورة التوبة، الآية (6)
2 رواه البخاري معلقاً، ك: التوحيد، باب: قوله تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ
…
} الآية، (13/461) ورواه: أحمد: المسند (3/ 4495)، والحاكم: المستدرك (2/ 437 و 4/ 574) مرفوعاً موصولاً.
3 رواه الترمذي: ك: فضائل القرآن، باب: فيمن قرأ حرفاً من القرآن..، ح: 2910 (5/175) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وانظر: السجزي: مصدر سابق (ص: 154 ـ 155)
4 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 120)، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 87) ومن كتب القوم: المغني في أبواب العدل والتوحيد (7/ 84)، وشرح الأصول الخمسة (ص: 528) كلاهما للقاضي عبد الجبار. ومن كتب الأشعرية: البغدادي: أصول الدين (ص: 106 ـ 108)، والشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 106 و310)، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 86) ،
يكلم كذلك، وهذه كانت بداية مقالتهم كما حكي عن الجعد بن درهم 1، فكل من قال القرآن مخلوق فحقيقة قوله أن الله لم يتكلم ولا يكلم ولا يأمر ولا ينهى، ولما رأوا ذلك مخالفاً للقرآن، وإجماع المسلمين قالوا إنه يتكلم مجازاً يخلق شيئاً يعبر عنه لا أنه في نفسه يتكلم، فلما شنع عليهم المسلمون قالوا: يتكلم حقيقة ولكن المتكلم هو من أحدث الكلام وفعله ولو في غيره، لا من قام به الكلام، وهو الذي استقر عليه قول المعتزلة. وهذه مغالطة كلامية، فإن المتكلم هو من قام به الكلام، وإليه ينسب لا إلى غيره ويشتق له اسم المتكلم ولا يسمى غيره بما قام به من الكلام متكلماً 2.
ويلزم من قول المعتزلة: أن الله لم يكلم موسى وإنما كلمته الشجرة فقالت: يا موسى إني أنا الله رب العالمين 3.
وأما الأشعرية فإنهم يتفقون مع المعتزلة في خلق القرآن، ويقولون: إن كلام الله واحد، لا تعدد فيه وله أقسام اعتبارية هي: الأمر من حيث تعلقه بفعل الصلاة مثلاً، ونهي من حيث تعلقه بطلب ترك الزنا، وخبر من حيث تعلقه بالأخبار، فالأقسام اعتبارية في متعلقه لا فيه. وأنه تعالى لم يزل متكلماً ولا يسكت، ليس بحرف ولا صوت 4، ويلزم من ذلك أن معنى: أقيموا الصلاة هو معنى لا تقربوا الزنا، وأنه تعالى لم يزل متكلماً بلا سكوت يقول: يا موسى، يا موسى
…
5.
1 سبقت ترجمته، وانظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 108، 118)، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 87)
2 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 120)، وابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 89) .
3 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 120 ـ 121)، وابن تيمية: درء التعارض (2/ 253)
4 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 291 ـ 292)، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 85)، وانظر: السجزي: الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 137 ـ 138)
5 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 187 وأيضاً 189 ـ 190) ط. التركي.
والذي أوقع الأشعرية في هذا أن المعتزلة ألزمتهم بأن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً يدخله التعاقب والتأليف، وهذا لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان كذلك لا يجوز أن يكون صفات ذات الله، فالتزموا ذلك وقالوا ـ خرقاً للإجماع ـ أن ذلك ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي كلاماً على المجاز لكونه حكاية عنه أو عبارة عنه، وأما الكلام الحقيقي فمعنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يسمع! 1.
وأما الشيخ رشيد فإن له منهجاً في "الكلام" موافقاً لأهل السنة، فإنه يثبت الكلام صفة لله تعالى من صفاته لا تشبه صفة كلام المخلوقين، وإن كان بحرف وصوت، وهو كلام يسمع، وينسب إلى الله تعالى حقيقة لا مجازاً كما ينسب كل كلام إلى قائله. ويرد الشيخ رشيد نظريات المتكلمين الفلسفية في هذا البحث.
فيرى أن " كلام الله تعالى صفة من صفاته تتعلق بجميع ما في علمه
…
" 2 وأنه تعالى: "متصف في الأزل بالكلام أي: بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء كما أنه متصف في الأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء" 3.
ويرى الشيخ رشيد أن هذا هو معنى "الكلام النفسي" أي أن له صفة ذاتية بها يعلم من يشاء من عباده بما شاء من علمه متى شاء وهذا الإعلام هو التكليم والوحي
…
" 4.
1 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 288 ـ 299) والسجزي (ص: 167) .
2 تفسير المنار (3/ 4)
3 المصدر نفسه والصقحة.
4 المصدر نفسه والصفحة، وقد اعترض سلفي على تعبير الشيخ فأجابه الشيخ رشيد بأن مراده بيان متعلق الكلام وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب، وليس معناه أن الكلام والتكليم هو العلم، قال:"وهذا بدهي في نفسه" المجلة (34/ 222 ـ224) واحترز الشيخ رشيد عموماً بقوله: "فإن وقع في كلامنا ما يوهم خلاف هذه العقيدة السلفية فهو من عثرات القلم الضعيف في البيان
…
تفسير المنار (3/4)
ويقول مثبتاً مذهب أهل السنة في كون الكلام يكون صفة فعل باعتبار تجدد أفراده: "
…
إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء وأن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور
…
" 1.
ويرى الشيخ رشيد أن كلام الله تعالى يسمع، وقد سمعه موسى من وراء الشجرة، قائلاً: "وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى
…
" 2.
ويثبت الشيخ رشيد الصوت في كلامه تعالى فيقول بعد نقله بعض نصوص عن السلف في إثبات الصوت: "فهذه النقول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله المنزه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه
…
وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت وكل منهما ثابت للبشر، وكذلك السمع والبصر
…
" 3.
ويذكر شبهة المنكرين له ويجيب عنها فيقول: "وأما الصوت فمن منع قال: أن الصوت هو الهواء المتقطع المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه
…
" 4.
ويثبت الشيخ رشيد السكوت لله تعالى، لأنه يتكلم حسب مشيئته تعالى، ويسكت من غير نسيان 5. خلافاً لمن يقول: إنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً منزهاً عن السكوت 6.
1 مجلة المنار (34/ 222)
2 المصدر نفسه (ص: 223)
3 مجلة المنار (29/ 596)
4 المصدر نفسه والصفحة.
5 تفسير المنار (2/ 179)
6 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص: 85)
وأما القرآن فيرى الشيخ رشيد أنه كلام الله المسموع، فيقول: "
…
والقرآن كلام الله تعالى نسب إليه في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1 وفي أحاديث متعددة وأجمع على ذلك المسلمون
…
" 2.
ويرد على الأشعرية في قولهم إن القرآن المكتوب في المصاحف ليس هو كلام الله على الحقيقة، فيقول: "
…
لو كان ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله تعالى هو معاني القرآن دون عبارته لكان القرآن كلامه صلى الله عليه وسلم لا كلام الله تعالى، لأن الكلام هو العبارة التي تتجلى فيها المعاني من علم المتكلم
…
" 3. ويقول: "
…
وينسب كل كلام إلى من صدر منه وكان مجلى كلامه النفسي فالجملة من كلام زيد من الناس يتناقلها الناس بألسنتهم وأقلامهم وبآلات التلغراف والتلفون وكل منهم يقول إنها كلام زيد
…
" 4.
ويتخذ الشيخ رشيد موقفاً صحيحاً من مسألة خلق القرآن فيقول: "إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور المتلو بالألسنة هو كلام الله تعالى المنزل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله تعالى ليس فيه صنع ولا عمل. والقول بأنه مخلوق على الإطلاق أو باعتبار قراءته أو كتابته من البدع المذمومة التي لم يأذن بها الله ولا قال بها رسول ولا أصحاب رسوله ولا التابعون لهم في هدايتهم ولا هي مما تحتاج إليه الأمة في حفظ دينها ولا مصلحة دنياها، ومن البدع أيضاً أن يقال أن حروفه مخلوقة، وأن قراءتي له مخلوقة وربما كان ذريعة إلى ما هو شر منه
…
" 5.
وهذا هو الموافق لما عليه السلف إذ كانوا يشددون في هذه الألفاظ البدعية 6.
1 سورة التوبة، الآية (6)
2 مجلة المنار (21/ 473)
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 المصدر نفسه والصقحة.
5 المصدر نفسه (12/ 182)
6 انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (2/ 346ـ 359)، وعبد الله بن أحمد: السنة (1/ 102) وما بعدها.
وأخيراً يبين الشيخ رشيد موقفه من الفرق المختلفة في كلام الله تعالى، فيقول: "ولا يغترن أحد بتلك النظريات التي بنى عليها الجهمية والمعتزلة وبعض الأشاعرة والكلابية وغيرهم أقوالهم في الكلام النفسي واللفظي وجعل بعضه حقيقياً وبعضه مجازاً، ووصف بعضه بالقديم وبعضه بالحادث أو تسميته مخلوقاً ـ فكل ذلك مبني على الهرب من وصف الخالق بصفات المخلوقين لئلا يكونوا مشبهين له بخلقه. ومذهب السلف بني على وصفه تعالى بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وإسناد ما أسنده إليه كلامه وكلام رسوله مع الجزم بالتنزيه وكونه ليس كمثله شيء كما نزه نفسه. وقامت البراهين العقلية على تنزيهه ولا تنافي بين الأمرين ولا تناقض
…
" 1.
وهذا الموقف الذي اتخذه الشيخ رشيد في مسألة القرآن موقف سديد، موافق لما كان عليه السلف وصالحو الخلف، وهذا هو ما استقر عليه الشيخ رشيد 2.
وقبل أن أختم هذا المبحث أريد أن أقف قليلاً لأبين موقف الشيخ رشيد في مسألة هامة في "علم الكلام". ذلك أن قول الشيخ رشيد رحمه الله عن الله: "أنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء ومتى شاء، وأن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور
…
" 3 يشير إلى مسألة هامة؛ وهي مسألة "حلول الحوادث بذاته تعالى".
مسألة "حلول الحوادث بذاته تعالى ":
هذه المسألة من المسائل الهامة التي شغلت وقتاً كثيراً في النقاش بين السلف والمتكلمين. وقد بنى المتكلمون فيها مذهبهم على مسألة "حدوث
1 مجلة المنار (21/ 473)
2 وقارن مع: مجلة المنار (1/ 851 ـ 854) وأيضاً (3/ 810) لتعرف الموقف القديم.
3 مجلة المنار (34/ 222)
العالم" والتي اتخذوها أصلاً فيإثبات "وجود الله تعالى" 1 وبناءً على ذلك نفوا صفات الفعل الاختيارية لله تعالى. لأنهم يقولون إنها سمة الحدوث ولا يجوز أن تحل الحوادث بذاته تعالى، لأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث 2. وسلكوا في هذه الصفات مسلكين:
الأول: أنها صفات أزلية قديمة مع الله تعالى لا تتعلق بمشيئة الله وإرادته، فلا يتجدد له فيها حال كما يشاء.
الثاني: جعل مقتضى الصفة مفعولاً منفصلاً عن الله لا يقوم بذاته، فالخلق ـ مثلاً ـ عندهم هو المخلوق فالله تعالى لم تحل بذاته حوادث لم تكن، وكذا الاستواء فإنهم يقولون فعل فعلاً في العرش سماه استواء من غير أن يستوي بذاته. فالفعل هو المفعول 3.
ولما كانت آيات القرآن الكريم تثبت في صراحة ووضوح تجدد صفات الفعل لله تعالى وحدوث أفرادها شيئاً بعد شيء كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} 4 وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 5 والمعدوم لا يرى موجوداً قبل وجوده فإذا وجد رآه موجوداً وسمع كلامه، وهذا يدل على حصول أمر وجودي لم يكن من قبل 6 لذا فإن المتكلمين ـ مع قولهم بنفي تجدد هذه الصفات، وتسليماً منهم بما دل عليه القرآن، فروا وهربوا إلى تسمية هذا الحدوث والتجدد بأسماء أخرى، كالتعلق والإضافات والأحوال 7.
1 انظر: (ص:388) من هذا البحث.
2 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 41 ـ 42)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 59ـ 60، 106)
3 انظر: البيهقي: الاعتقاد (ص:32) وانظر: الباقلاني: التمهيد (ص:244ـ 245)،وانظر أيضاً ابن تيمية: شرح حديث النزول (ضمن مجموع الفتاوى:5/411ـ 412)
4 سورة التوبة، الآية (105)
5 سورة يونس: الآية (14)
6 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (2/ 240 ـ 241)
7 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص:76) وما بعدها، و (ص:81) وما بعدها، و (ص: 92) وما بعدها.
والحق أن صفات الله تعالى منها ما هو قديم لازم للذات أزلاً وأبداً كالحياة، ومنها ما هو قديم الجنس ولكن تحدث آحاده، كالإرادة والعلم والكلام، فالإرادة مثلاً قديمة الجنس ولكن هناك إرادات جزئية تحدث، ولولا ذلك لم يحدث شيء لأن الإرادة القديمة نسبتها إلى جميع الوجوه الممكنة واحدة، وإلا لوجب وجود المراد معها في الأزل. وكذلك العلم، منه ما هو قديم وهو انكشاف جميع الأشياء له تعالى في الأزل، لا يشذ عن علمه منها شيء، ولكن منه ما يحدث بحدوث المعلومات وتجددها، كما قال تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} 1،وقوله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 2. ومثل ذلك يقال في السمع والبصر والكلام، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 3. 4.
فالشيخ رشيد عندما يذهب إلى أن "خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور.."5. وقوله عن الله تعالى أنه "متصف في الأزل بالكلام، أي بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء، كما أنه متصف بالأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء
…
" 6، يذهب إلى ما ذهب إليه السلف في أفعال الله تعالى الاختيارية، ولا بد أنه بذلك متأثر بابن تيمية الذي فصل هذه المسألة تفصيلاً في كتبه التي اطلع عليها رشيد رضا 7.
1 سورة آل عمران: الآية (140)
2 سورة آل عمران: الآية (142)
3 سورة الأعراف: الآية (143)
4 ولقد فصل ابن تيمية هذه المعاني كثيراً، انظر مثلاً: درء التعارض (2/ 3ـ 156 و4/3) وما بعدها
5 مجلة المنار (34/ 222) ،ويلاحظ أن هذا الجزء هوقبل الأخير فلم يكتب رشيد رضا في الجزء الخامس والثلاثين إلا قليلاً.
6 تفسير المنار (3/ 4)
7 انظر: مبحث: موارد رشيد رضا (ص: 174) من هذا البحث، ومنها درء التعارض، وشرح حديث النزول.
المطلب الأول: تعريف الشرك:
يطلق الشرك في اللغة على المخالطة والمصاحبة، قال في اللسان: "الشِرْكة والشَرِكة سواء مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، والشريك: المشارك،