الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتماثيل، وبين من عبد القبور، لوجود معنى العبادة، وإن لم تسمّ بهذا الاسم، أو أنكر تسميتها بهذا الاسم، يقول الشيخ: "
…
وأما مشركو العرب في زمن البعثة فلم يكونوا يجهلون أن هذا كله يسمى عبادة، لأن اللغة لغتهم ولم يكن لهم عرف ديني مخصص لعموم العبادة اللغوي، ولا باعث على التأويل أو التحريف، فكانوا يصرحون بأنهم يعبدون أصنامهم ويسمونها آلهة لأن الإله هو المعبود وإن لك يكن رباً خالقاً، ويقولون كما أخبر الله عنهم:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 ويسمونهم أولياء أيضاً {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 الآية، وقد فعل أهل الكتاب ومن اتبع سنتهم من المسلمين مثل ذلك، ولكن سموه توسلاً وأنكروا تسميته عبادة، والتسمية لا تغير الحقائق، وكذلك تعبير المعبودات من البشر والملائكة وما يذكر بها من صورة وتمثال أو قبر أو تابوت
…
فكل تعظيم ديني لهذه الأشياء أو الأشخاص بما ذكر أو غيره مما لم يرد به شرع؛ عبادة لها وإشراك مع الله عزوجل
…
" 3.
فلا فرق بين معبود ومعبود، والأسماء لا تغير الحقائق، والعبرة بحقيقة العمل، لا باسمه، وقد ورد في السنة ما يشير إلى أن ناساً سوف يرتكبون الحرام ويغيرون اسمه 4.
1 سورة يونس، الآية (18)
2 سورة الزمر، الآية (3)
3 تفسير المنار (8/ 147)
4 انظر: البخاري: الصحيح، ك: الأشربة، باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، معلقاً، وأبو داود: السنن، ك: الأشربة، باب في الداذي، ح: 3688، وح: 3689، وابن ماجه: السنن، ك: الفتن، باب: العقوبات، ح:4020.
المطلب الرابع: مفاسد الشرك ومساوئه:
إذا كان التوحيد هو أول الواجبات وأهمها، فإن الشرك هو أكبر المحرمات وأشدها. لذا فإن الشرك ذنب لا يغفر أبداً، إلا بالتوبة منه،
خلاف جميع الذنوب التي يقترفها العبد 1.
يقول الله تعالى ـ مبيناً وصاياه لعباده ـ مبتدئاً بأشدها حرمة وهو الشرك: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
…
} 2.
قال الشيخ رشيد: "بدأ تعالى هذه الوصايا بأكبر المحرمات وأفظعها وأشدها فساداً للعقل والفطرة وهو الشرك بالله تعالى سواء كان باتخاذ الأنداد له أو الشفعاء المؤثرين في إرادته
…
وما يذكر بهم من صور وتماثيل وأصنام أو قبور
…
وتقدير الكلام: أول ما أتلوه عليكم في بيان هذه المحرمات وما يقابلها من الواجبات ـ أو ـ أول ما وصاكم به تعالى من ذلك هو: أن لا تشركوا بالله شيئاً من الأشياء وإن كانت عظيمة في الخلق كالشمس والقمر والكواكب أو عظيمة في القدر كالملائكة والأنبياء والصالحين
…
" 3.
ومفاسد الشرك ومخاطره كثيرة، بل إن الشرك كله مفاسد ومخاوف، وأول هذه المفاسد وأخطرها هو تسببه في حبوط عمل المشرك؛ فإنه مفسدة بالغة بحيث لا ينفع معها عمل صالح. يقول الشيخ رشيد: "
…
أما الدليل على الحبوط فآيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 4 {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5 {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 6 {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 7
…
" 8.
1 انظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص: 78)، وانظر أيضاً: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 24) وما بعدها.
2 سورة الأنعام، الآية (151)
3 تفسير المنار (8/ 184)
4 سورة الزمر، الآية (65)
5 سورة الأنعام، الآية (88)
6 سورة المائدة، الآية (5)
7 سورة الكهف، الآية (105)
8 مجلة المنار (31/ 50)
ويستدل الشيخ رشيد أيضاً بالمعقول على إفساد الشرك لصاحبه وعمله، فيقول: "وأما من جهة المعقول: فهو أن الشرك بالله والكفر بأصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يفسد الأنفس البشرية ويدنسها دنساً لا تؤثر معه الأعمال البدنية في إزالته وتزكية الأنفس منه بل تكون كقليل الماء أو نقط من العطر تلقى في مجتمع القذر
…
" 1.
فلا يكون غريباً إذاً أن الله تعالى لا يغفر هذا الذنب لأنه مفسدة للنفس البشرية ـ أي مفسدة ـ بحيث لا يرجى من صاحبه صلاح البتة، وسيأتي في هذا المعنى مزيد بيان.
ومن مساوئ الشرك كذلك ومفاسده أنه سبب للخوف ومضيعة للأمن ـ في الدنيا والآخرة ـ أما في الآخرة فالأمن يكون للموحدين دون المشركين، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2، والظلم في هذه الآية ـ وكما يقرر الشيخ رشيد ـ هو: "الشرك في العقيدة أو العبادة كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه، ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده، ويحب كحبه ويعظم من جنس تعظيمه
…
" 3.
وهذا الخوف يكون في الآخرة كما يقول الشيخ رشيد: "والذي نراه أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته
…
" 4.
ومعنى الآية في رأي الشيخ رشيد: "الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم وهو الشرك به سبحانه؛ أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء
…
" 5.
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 سورة الأنعام، الآية (82)
3 تفسير المنار (7/ 580)
4 المصدر نفسه والصفحة.
5 المصدر نفسه (7/ 581)
ولا يقتصر خوف المشرك على العقاب الأخروي، بل إن خوفه ـ من قبل ذلك ـ ممتد في حياته الدنيا، وهو أثر سيء ـ كذلك ـ بالغ السوء، فإنه يلقي في قلوب المشركين: "الرعب
…
وهو شدة الخوف التي تملأ القلب بسبب إشراكهم بالله أصناماً ومعبودات لم ينزل بها سلطاناً
…
" 1.
وإنك لن تبذل جهداً كبيراً حتى ترى أثر ذلك الخوف في من يشرك بالله تعالى ـ فإنك ـ وكما يقول الشيخ رشيد: "ترى أصحاب النزعات الوثنية في خوف دائم مما لا يخيف، لأنهم يعتقدون بثبوت السلطة الغيبية القاهرة لكل ما يظهر لهم من عمل لا يهتدون إلى سببه، ولا يعرفون تأويله، للدجالين والمشعوذين، ويرتعدون من حوادث الطبيعة الغريبة، إذا لاح لهم مذنب تخيلوا أنه منذر يهددهم بالهلاك، وإذا أصابتهم مصيبة بما كسبت أيديهم من الفساد توهموا أنها من تصرف بعض العباد، وتراهم في جزع وهلع من حدوث الحوادث، ونزول الكوارث، لا يصبرون في البأساء والضراء ولا يتقون في الرخاء والسراء
…
" 2.
فلهذه الأسباب كلها، ولهذه المفاسد التي تجتمع في المشرك ـ وما هو وفقها ـ فإن الشرك ذنب لا يغفر كما قلت سابقاً، كما أكد الله تعالى ذلك بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 يقول الشيخ رشيد: " أكد الله للناس أنه لا يغفر لأحد شركه به البتة وأنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين ما دون الشرك من الذنوب فلا يعذبهم عليه
…
" 4.
وأرى أنه لا يعسر عليك الآن أن تدرك السبب في ذلك، وهو الفرق بين أثر الشرك وأثر الذنب دونه ـ وهو ـ وكما يقول الشيخ رشيد: "ذلك
1 المصدر نفسه (4/ 177)
2 المصدر نفسه (1/ 426)
3 سورة النساء، الآية (48)
4 تفسير المنار (5/ 420)
بأن الشرك في نفسه هو منتهى فساد الأرواح وسفاهة الأنفس وضلال العقول، فكل حق أو خير يقارنه لا يقوى على إضعاف شروره ومفاسده
…
والمذنب قد يكون في إيمانه وسريرته خالصاً لله عبداً له وحده، فالعبد المملوك قد يعصي وقد يأبق فلا العصيان والإباق يخرجانه عن كونه عبداً لسيد واحد، ولسيده أن يعاقبه أو يعفو عنه، ولا يغفر له أن يجعل نفسه عبداً لغيره لا قناً 1 ولا مبعضاً 2 {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3
…
" 4.
وهذه المفاسد والمساوئ وأكثر منها في الشرك، ومع ذلك، فإنه بعدما طمست آثاره، ومحيت آياته، بدعوة الأنبياء الصادقين، ودعاة التوحيد الصابرين، قد عاد وأطل برأسه من جديد، وها نحن نرى ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ: "
…
الملايين منهم يدعون المسيح ويوجهون كل عبادتهم إليه وحده تارة، ويذكرون اسم الله مع اسمه تارة أخرى، وتجد الملايين من دونهم يدعون وينادون من دون المسيح من الأولياء، ويعمدون إلى قبورهم أو إلى الصور والتماثيل التي اتخذها قدماء المفتونين بهم تذكاراً لهم
…
ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثلما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلاً وشفاعة
…
" 5.
ومن هذا المعنى، نتحول إلى المسألة التالية وهي: مظاهر الشرك، التي تناولها الشيخ محمد رشيد في كتاباته
1 القن: العبد الذي لا يجوز بيعه ولا اشتراؤه. الجرجاني: التعريفات (ص: 157)
2 المبعض:
3 سورة الزمر، الآية (29)
4 تفسير المنار (5/ 420 ـ 421)
5 المصدر نفسه (5/ 421 ـ 422)