الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هذا النص يظهر المقصد الأساسي للشيخ رشيد الذي من أجله صدرت عنه هذه الفتاوى ـ ومنها فتوى الربا ـ إنه حتى لا يكون الدين حجر عثرة في سبيل السير في طريق المدنية الحاضرة، لذلك يذهب محمد رشيد رضا ـ ومعه بقية أعضاء حزب الأستاذ الإمام ـ إلى تجديد الفقه، بوضع أسس جديدة: اجتهاد جديد وإجماع جديد، لتطوير الفقه حتى يستطيع أن يسير في الطريق الجديد، "فليست الشريعة محصورة في جلود كتب الحنفية "1. إذاً نستطيع أن نفهم ـ في ضوء هذا القصد هذه الفتاوى الصادرة عن رشيد رضا وشيخه وسائر هذا الحزب. لقد بلغت الفتاوى التي جمعت للشيخ رشيد ـ ونشرت في مجلته ـ ألف فتوى جمعت في عدة مجلدات، ولا ريب أن بعض هذه الفتاوى له فيها أجران وبعضها ليس له فيها إلا أجر واحد، ومنها مسألة ربا الفضل.
1 نفس المصدر (6/508) .
المطلب الثاني: موقف رشيد من ربا الفضل
…
المطلب الثاني: موقف رشيد رضا من ربا الفضل:
ـ تعريف ربا الفضل:
اختلفت ألفاظ التعاريف لربا الفضل عند الفقهاء رحمهم الله ولكنها في الحقيقة تتواطأ على أنه: زيادة أحد البدلين من الأموال الربوية على الآخر، إذا اتفق البدلان في الجنس 2، وبصورة أخرى:"الزيادة في أحد البدلين الربويين المتفقين جنساً"3. وعلة الربا عند الحنفية والحنابلة: الكيل والوزن مع اتحاد الجنس 4، واتحاد الجنس يخرج ما لو باع مكيلاً أو موزوناً بمكيل أو موزون من غير جنسه، كأن يبيع صاعاً من بر بصاعين من
2 انظر: د. عمر المترك: الربا والمعاملات المصرفية (ص:55) دار العاصمة. الثالثة 1418هـ.
3 المصدر السابق: نفس الصفحة.
4 انظر: الاختيار لتعليل المختار، ط. المعاهد الأزهرية (2/ 39) وابن قدامة: المغني (4/ 5) ط. الكليات الأزهرية.
تمر، أو يبيع ذهباً بفضة متفاضلاً يداً بيد فإنه لا ربا 1. وقوله:"زيادة" يشمل كل زيادة سواء كانت في القيمة أو في المقدار 2.
وقد ذهب الجمهور إلى تحريم ربا الفضل في الأصناف الستة الآتية: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، فلا يجوز بيع جنس منها بجنسه متفاضلاً، حالاً أو مؤجلاً، فيحرم بيع درهم بدرهمين نقداً أو مؤجلاً وكذا بيع صاع بر بصاعي بر نقداً أو مؤجلاً 3.
واستدل الجمهور بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 4، فأل في قوله:{الرِّبا} لاستغراق الجنس 5، فيكون لفظ الربا في الآية عاماً يتناول كل أنواع الربا فيدخل في ذلك ربا الفضل كما يدخل ربا النسيئة 6.
السنة: ومن السنة أحاديث: منها حديث: عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"7.ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بيع صنف من هذه الأصناف الستة بجنسه أن يكونا متماثلين وأكد ذلك بقوله:"مثلاً بمثل" و "سواء بسواء" وبين أنه لا حرج في هذا البيع عند اختلاف الأجناس، فدل على أنه عند عدم اختلاف الأصناف ليس لهم الخيار في البيع كيف شاءوا 8.
1 انظر: المترك: مرجع سابق (ص: 54)
2 المصدر السابق (ص:53ـ 54)
3 انظر: ابن قدامة: المغني (4/ 3) ود. المترك مرجع سابق (ص: 56)
4 سورة البقرة: الآية: (275)
5 انظر: المترك: مصدر سابق (ص: 57)
6 المصدر السابق نفس الصفحة
7 مسلم: الصحيح: ك المساقاة: ح رقم: (181)(1587)(3/ 1211) ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
8 انظر: د. المترك: مصدر سابق (ص: 58ـ 59)
ومنها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الوَرِق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز"1.
وأما الإجماع على ذلك فقد حكاه غير واحد من أهل العلم 2. قال شيخ الإسلام: "إن النهي عن الربا في القرآن يتناول كل ما نهى عنه من ربا النسئ والفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك، فالنص متناول لهذا كله، وإن قصر نصوص النهي على البعض إنما يقع ممن لم يفهم معاني النصوص" 3.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال بجوازه، ولكنه لم يسمع في ذلك شيئاً من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما اعتمد في رأيه على حديث أسامة " لا ربا إلا في النسيئة" 4، ثم رجع عن ذلك بعدما أخبره أبو سعيد بما سمع، وحديث أسامة: إما منسوخ أو معناه الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم إلا زيد، مع أن فيها علماء غيره، وإنما المراد نفي الأكمل لا نفي الأصل 5.
1 انظر: البخاري: الصحيح: ك البيوع: باب بيع الفضة بالفضة ح: 2177 (4/ 444 مع الفتح) ط. السلفية مع الفتح، مصورة الريان، ط. الثانية، 1409هـ 1988م.
2 انظر: ابن قدامة: المغني (4/ 3) والنووي: شرح مسلم (11/ 9) ط. دار الريان للتراث، الأولى 1407هـ والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن (3/ 352) وابن حجر الهيتمي: الزواجر (2/ 205) ط. مصطفى البابي الحلبي، الثانية، 1390هـ
3 الفتاوى الكبرى (1/ 412)، وانظر: له مجموع الفتاوي (20/ 347) ط. عالم الكتب الرياض، 1312هـ
4 انظر: البخاري: الصحيح: ك البيوع باب بيع الدينار بالدينار نساء (ح: 2178 و2179، 4/ 445ـ 446 مع الفتح)
5 انظر: ابن حجر: فتح الباري (4/ 446ـ 447) ط. السلفية (مصورة الريان) الثانية. 1409هـ
رأي الشيخ رشيد في ربا الفضل: لقد جمع الشيخ رشيد فتاواه في الربا والتي كانت منتشرة في مجلة المنار في كتاب مستقل باسم:"الربا والمعاملات في الإسلام"1.
فذهب الشيخ رشيد إلى أن الربا المحرم تحريم مقاصد هو ربا الجاهلية، وهو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير الدين المستحق، وأما ما عداه فيباح للحاجة والمصلحة لأنه حُرِّم لأنه وسيلة للأول ـ وهو ربا الجاهلية أو ربا النسيئة ـ فيقول: “وقد علمنا أن الله لم يحرم في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه.." 2. وقال: " وحديث النهي عن بيع النقدين 3 وأصول الأقوات إلا يداً بيد مثلاً بمثل ليس تفسيراً للربا في القرآن ولا حصراً للربا في البيع، وإنما هو لسد الذريعة لارتكاب ربا القرآن، وإلا فهو لذاته ليس فيه من المفسدة ما يقتضي هذا الوعيد الشديد في آيات البقرة.." 4. وقال: "..إذا تمهد هذا ظهر به أن الحق في الربا الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه وتوعد فاعله بما لم يتوعد على ذنب آخر أنه ربا النسيئة الذي كان معروفاً في الجاهلية
…
ونعيد القول ونكرره بأنه هو ما يؤخذ من المال لأجل تأخير الدين المستحق في الذمة إلى أجل آخر..فلا يدخل في مفهومه ما يزاد في أصل الدين عند عقده على ما يعطي للمدين، وبحاله وإنما هو ما يعطى لأجل تأخير الدين المستحق.." 5.
1 انظر: محمد رشيد رضا: الربا والمعاملات في الإسلام ط. مكتبة القاهرة مع تقديم محمد بهجت البيطار، وانظر: مجلة المنار (5/ 51ـ 55و 7/ 28و 28/ 575، 30/ 273ـ 291، و30/ 419، و 30/ 501و585و665و771و31/ 37و33/ 449و34/ 362و 34/ 465)
2 الربا والمعاملات في الإسلام (ص: 132)
3 يعني حديث:" الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى
…
الحديث، انظر: مسلم: الصحيح: ك المساقاة، ح: رقم (81)(1584)(3/ 399) . وقد تقدم.
4 الربا والعاملات (ص: 83)
5 الربا والمعاملات في الإسلام (ص: 83)
أدلة الشيخ رشيد:
وقد استند فيما ذهب إليه إلى دلالة اللغة والسنة والعقل.
فأما اللغة، فقد قال الشيخ رشيد محتجاً بها لما ذهب إليه:"ويؤيد هذا أمران: أحدهما: الاستعمال اللغوي، ووجهه أن هذا اللفظ كان مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين، وأهل الكتاب وغيرهم، وذكر في بعض السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعاً جديداً في الشريعة فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي، بل اللام في "الربا" للعهد كما صرح به بعضهم"1.
مناقشة هذا الاستدلال:
ويجاب بأن احتجاجه بالاستعمال اللغوي، بمعنى أن الربا ينصرف إلى ما تعارفوا على استعمال لفظ الربا فيه من معاملة، إنما كان يفيد في وقت تنزل آية تحريم الربا في سورة البقرة، وقبل بيان السنة، إذ ينصرف المقصود في الآية إلى ما عهدوه، أما بعد أن جاء بيان السنة، واستعمل الربا في أنواع أخرى من المعاملة لم تكن معروفة ولا معهودة عند العرب فقد أصبح لفظ الربا حقيقة شرعية وعلى هذه الحقيقة تحمل عبارات الشارع وإطلاقاته في الربا، فكما أفاد العهد حمل الربا على ما كان معهوداً دون غيره مما تناوله مطلق لفظ الربا في وضعه اللغوي، فإن الوضع الشرعي يفيد حمل الربا على ما وضع له شرعاً إذ الوضع الشرعي مقدم على الوضع اللغوي في عبارات الشارع 2.
واستدل الشيخ رشيد بحديث أسامة المشار إليه آنفاً 3. وقد تقدم الجواب عنه مختصراً، وأزيد هنا أجوبة أخرى، منها: إن أسامة رضي الله
1 المصدر نفسه (ص: 75)
2 انظر: عبد الله السعيدي: الربا في المعاملات المصرفية. بحث للدكتوراه على الحاسب الآلي. بالجامعة الإسلامية، كلية الشريعة قسم الفقه 1416هـ 1996م.
(ص: 67)
عنه ربما سمع جواب مسألة خاصة، فسمع الجواب دون السؤال 1، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وضوء إلا من صوت أو ريح" 2 فظاهر هذا أن الوضوء لا يكون إلا من هذين، والواقع خلافه، وإنما كان هذا اللفظ جواباً لسؤال معين خرج على هذا النحو، ولا يمنع ذلك وجوب الوضوء من غير هذين. وهناك أجوبة أخرى للجمهور، منها: القول بالنسخ، ومنها ترجيح أحاديث تحريم ربا الفضل على حديث أسامة لرواياتها عن جماعة، وتقديم العمل بالمنطوق فيها دون العمل بالمفهوم في حديث أسامة 3.
واستدل أيضاً بالعقل: فقال: "
…
وثانيها أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تعهد في التنزيل ولا في السنة، ولا يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم أثمه وفحش ضرره من الكبائر 4.
ويناقش هذا الاستدلال بإنه احتكام للعقل في غير موضعه واحتجاج بالرأي فيما لا مجال للرأي فيه، فإن مما لا مجال للرأي فيه ما جاء به النص، وإن مما جاءت به النصوص وعيد آكل الربا ولعنه وهذا هو ما عرفت به الكبيرة عند العلماء 5.
إذاً فالراجح هو قول الجمهور بتحريم ربا الفضل للأسباب الآتية:
أولاً: كثرة الروايات الصحيحة التي وردت في تحريم ربا الفضل، وقد خرجت في الصحيحين وغيرهما. ورويت عن عدد كبير من الصحابة وتلقتها الأمة بالقبول حتى حكي الإجماع في ذلك 6.
1 انظر: المترك: مرجع سابق (ص: 71ـ 72)
2 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد، ط. دار الكتاب العربي، والريان 1407هـ (1/ 242 ـ 243) وابن حجر: فتح الباري (1/ 287)
3 انظر: المترك: مرجع سابق (ص: 73، 75)
4 الربا والمعاملات في الإسلام (ص: 75)
5 انظر: عبد الله السعيد: مرجع سابق (مرجع سابق (ص:29)
6 انظر: المترك: مرجع سابق (ص859)، وانظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (20/ 347)
ثانياً:أن هذه الأحاديث ناطقة بتحريم ربا الفضل ولا تحتمل التأويل، بخلاف ما احتج به الشيخ رشيد من حديث أسامة، فإنه يدل بالمفهوم، والمفهوم يتطرق إليه الاحتمال 1.
ثالثاً: ثبوت رجوع من قال بإباحة ربا الفضل من الصحابة كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم 2.
رابعاً: ضعف أدلة القائلين بجوازه كما رأيت 3.
ولقد كان للشيخ رشيد اجتهادات كثيرة كما أشرت في أول هذا المبحث، وبعضها في مسائل كبيرة كمسألة الربا، وبعضها دون ذلك، ومما لا يقل خطورة عن مسألة الربا: كاجتهاده في " ذبائح أهل الكتاب"4. وقد ترك لنا الشيخ رشيد فتاوى فقهية تعد من حيث كثرتها ثروة، ويجدر بها أن تنال عناية الباحثين في علم الفقه لوزن هذه الثروة وتقويمها.
1 انظر: محمد الأمين الجكني: شرح مراقي السعود (ص: 36) مطبعة المدني بمصر 1378هـ ومحمد الأمين الشنقيطي: مذكرة أصول الفقه (ص: 234) ط. دار القلم بيروت، والمترك: مرجع سابق (ص:86)
2 انظر: المترك: المرجع السابق (ص: 86)
3 انظر المترك: المرجع نفسه (87ـ 88)
4 انظر: مجلة المنار (8/ 255)