الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي أوقع الأشعرية في هذا أن المعتزلة ألزمتهم بأن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً يدخله التعاقب والتأليف، وهذا لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان كذلك لا يجوز أن يكون صفات ذات الله، فالتزموا ذلك وقالوا ـ خرقاً للإجماع ـ أن ذلك ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي كلاماً على المجاز لكونه حكاية عنه أو عبارة عنه، وأما الكلام الحقيقي فمعنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ولا يسمع! 1.
وأما الشيخ رشيد فإن له منهجاً في "الكلام" موافقاً لأهل السنة، فإنه يثبت الكلام صفة لله تعالى من صفاته لا تشبه صفة كلام المخلوقين، وإن كان بحرف وصوت، وهو كلام يسمع، وينسب إلى الله تعالى حقيقة لا مجازاً كما ينسب كل كلام إلى قائله. ويرد الشيخ رشيد نظريات المتكلمين الفلسفية في هذا البحث.
فيرى أن " كلام الله تعالى صفة من صفاته تتعلق بجميع ما في علمه
…
" 2 وأنه تعالى: "متصف في الأزل بالكلام أي: بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء كما أنه متصف في الأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء" 3.
ويرى الشيخ رشيد أن هذا هو معنى "الكلام النفسي" أي أن له صفة ذاتية بها يعلم من يشاء من عباده بما شاء من علمه متى شاء وهذا الإعلام هو التكليم والوحي
…
" 4.
1 انظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 288 ـ 299) والسجزي (ص: 167) .
2 تفسير المنار (3/ 4)
3 المصدر نفسه والصقحة.
4 المصدر نفسه والصفحة، وقد اعترض سلفي على تعبير الشيخ فأجابه الشيخ رشيد بأن مراده بيان متعلق الكلام وغاية التكليم الذي يفهمه الرسول من الخطاب، وليس معناه أن الكلام والتكليم هو العلم، قال:"وهذا بدهي في نفسه" المجلة (34/ 222 ـ224) واحترز الشيخ رشيد عموماً بقوله: "فإن وقع في كلامنا ما يوهم خلاف هذه العقيدة السلفية فهو من عثرات القلم الضعيف في البيان
…
تفسير المنار (3/4)
ويقول مثبتاً مذهب أهل السنة في كون الكلام يكون صفة فعل باعتبار تجدد أفراده: "
…
إنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء متى شاء وأن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور
…
" 1.
ويرى الشيخ رشيد أن كلام الله تعالى يسمع، وقد سمعه موسى من وراء الشجرة، قائلاً: "وفيه التصريح بأن موسى عليه السلام سمع نداء الله تعالى له من وراء الشجرة، وإثبات الكلام والتكليم والنداء لله تعالى
…
" 2.
ويثبت الشيخ رشيد الصوت في كلامه تعالى فيقول بعد نقله بعض نصوص عن السلف في إثبات الصوت: "فهذه النقول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله المنزه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه
…
وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت وكل منهما ثابت للبشر، وكذلك السمع والبصر
…
" 3.
ويذكر شبهة المنكرين له ويجيب عنها فيقول: "وأما الصوت فمن منع قال: أن الصوت هو الهواء المتقطع المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه
…
" 4.
ويثبت الشيخ رشيد السكوت لله تعالى، لأنه يتكلم حسب مشيئته تعالى، ويسكت من غير نسيان 5. خلافاً لمن يقول: إنه لم يزل متكلماً أزلاً وأبداً منزهاً عن السكوت 6.
1 مجلة المنار (34/ 222)
2 المصدر نفسه (ص: 223)
3 مجلة المنار (29/ 596)
4 المصدر نفسه والصفحة.
5 تفسير المنار (2/ 179)
6 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص: 85)
وأما القرآن فيرى الشيخ رشيد أنه كلام الله المسموع، فيقول: "
…
والقرآن كلام الله تعالى نسب إليه في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1 وفي أحاديث متعددة وأجمع على ذلك المسلمون
…
" 2.
ويرد على الأشعرية في قولهم إن القرآن المكتوب في المصاحف ليس هو كلام الله على الحقيقة، فيقول: "
…
لو كان ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله تعالى هو معاني القرآن دون عبارته لكان القرآن كلامه صلى الله عليه وسلم لا كلام الله تعالى، لأن الكلام هو العبارة التي تتجلى فيها المعاني من علم المتكلم
…
" 3. ويقول: "
…
وينسب كل كلام إلى من صدر منه وكان مجلى كلامه النفسي فالجملة من كلام زيد من الناس يتناقلها الناس بألسنتهم وأقلامهم وبآلات التلغراف والتلفون وكل منهم يقول إنها كلام زيد
…
" 4.
ويتخذ الشيخ رشيد موقفاً صحيحاً من مسألة خلق القرآن فيقول: "إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور المتلو بالألسنة هو كلام الله تعالى المنزل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله تعالى ليس فيه صنع ولا عمل. والقول بأنه مخلوق على الإطلاق أو باعتبار قراءته أو كتابته من البدع المذمومة التي لم يأذن بها الله ولا قال بها رسول ولا أصحاب رسوله ولا التابعون لهم في هدايتهم ولا هي مما تحتاج إليه الأمة في حفظ دينها ولا مصلحة دنياها، ومن البدع أيضاً أن يقال أن حروفه مخلوقة، وأن قراءتي له مخلوقة وربما كان ذريعة إلى ما هو شر منه
…
" 5.
وهذا هو الموافق لما عليه السلف إذ كانوا يشددون في هذه الألفاظ البدعية 6.
1 سورة التوبة، الآية (6)
2 مجلة المنار (21/ 473)
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 المصدر نفسه والصقحة.
5 المصدر نفسه (12/ 182)
6 انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (2/ 346ـ 359)، وعبد الله بن أحمد: السنة (1/ 102) وما بعدها.
وأخيراً يبين الشيخ رشيد موقفه من الفرق المختلفة في كلام الله تعالى، فيقول: "ولا يغترن أحد بتلك النظريات التي بنى عليها الجهمية والمعتزلة وبعض الأشاعرة والكلابية وغيرهم أقوالهم في الكلام النفسي واللفظي وجعل بعضه حقيقياً وبعضه مجازاً، ووصف بعضه بالقديم وبعضه بالحادث أو تسميته مخلوقاً ـ فكل ذلك مبني على الهرب من وصف الخالق بصفات المخلوقين لئلا يكونوا مشبهين له بخلقه. ومذهب السلف بني على وصفه تعالى بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وإسناد ما أسنده إليه كلامه وكلام رسوله مع الجزم بالتنزيه وكونه ليس كمثله شيء كما نزه نفسه. وقامت البراهين العقلية على تنزيهه ولا تنافي بين الأمرين ولا تناقض
…
" 1.
وهذا الموقف الذي اتخذه الشيخ رشيد في مسألة القرآن موقف سديد، موافق لما كان عليه السلف وصالحو الخلف، وهذا هو ما استقر عليه الشيخ رشيد 2.
وقبل أن أختم هذا المبحث أريد أن أقف قليلاً لأبين موقف الشيخ رشيد في مسألة هامة في "علم الكلام". ذلك أن قول الشيخ رشيد رحمه الله عن الله: "أنه تعالى يخاطب من شاء بما شاء ومتى شاء، وأن خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور
…
" 3 يشير إلى مسألة هامة؛ وهي مسألة "حلول الحوادث بذاته تعالى".
مسألة "حلول الحوادث بذاته تعالى ":
هذه المسألة من المسائل الهامة التي شغلت وقتاً كثيراً في النقاش بين السلف والمتكلمين. وقد بنى المتكلمون فيها مذهبهم على مسألة "حدوث
1 مجلة المنار (21/ 473)
2 وقارن مع: مجلة المنار (1/ 851 ـ 854) وأيضاً (3/ 810) لتعرف الموقف القديم.
3 مجلة المنار (34/ 222)
العالم" والتي اتخذوها أصلاً فيإثبات "وجود الله تعالى" 1 وبناءً على ذلك نفوا صفات الفعل الاختيارية لله تعالى. لأنهم يقولون إنها سمة الحدوث ولا يجوز أن تحل الحوادث بذاته تعالى، لأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث 2. وسلكوا في هذه الصفات مسلكين:
الأول: أنها صفات أزلية قديمة مع الله تعالى لا تتعلق بمشيئة الله وإرادته، فلا يتجدد له فيها حال كما يشاء.
الثاني: جعل مقتضى الصفة مفعولاً منفصلاً عن الله لا يقوم بذاته، فالخلق ـ مثلاً ـ عندهم هو المخلوق فالله تعالى لم تحل بذاته حوادث لم تكن، وكذا الاستواء فإنهم يقولون فعل فعلاً في العرش سماه استواء من غير أن يستوي بذاته. فالفعل هو المفعول 3.
ولما كانت آيات القرآن الكريم تثبت في صراحة ووضوح تجدد صفات الفعل لله تعالى وحدوث أفرادها شيئاً بعد شيء كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} 4 وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 5 والمعدوم لا يرى موجوداً قبل وجوده فإذا وجد رآه موجوداً وسمع كلامه، وهذا يدل على حصول أمر وجودي لم يكن من قبل 6 لذا فإن المتكلمين ـ مع قولهم بنفي تجدد هذه الصفات، وتسليماً منهم بما دل عليه القرآن، فروا وهربوا إلى تسمية هذا الحدوث والتجدد بأسماء أخرى، كالتعلق والإضافات والأحوال 7.
1 انظر: (ص:388) من هذا البحث.
2 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 41 ـ 42)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 59ـ 60، 106)
3 انظر: البيهقي: الاعتقاد (ص:32) وانظر: الباقلاني: التمهيد (ص:244ـ 245)،وانظر أيضاً ابن تيمية: شرح حديث النزول (ضمن مجموع الفتاوى:5/411ـ 412)
4 سورة التوبة، الآية (105)
5 سورة يونس: الآية (14)
6 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (2/ 240 ـ 241)
7 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص:76) وما بعدها، و (ص:81) وما بعدها، و (ص: 92) وما بعدها.
والحق أن صفات الله تعالى منها ما هو قديم لازم للذات أزلاً وأبداً كالحياة، ومنها ما هو قديم الجنس ولكن تحدث آحاده، كالإرادة والعلم والكلام، فالإرادة مثلاً قديمة الجنس ولكن هناك إرادات جزئية تحدث، ولولا ذلك لم يحدث شيء لأن الإرادة القديمة نسبتها إلى جميع الوجوه الممكنة واحدة، وإلا لوجب وجود المراد معها في الأزل. وكذلك العلم، منه ما هو قديم وهو انكشاف جميع الأشياء له تعالى في الأزل، لا يشذ عن علمه منها شيء، ولكن منه ما يحدث بحدوث المعلومات وتجددها، كما قال تعالى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} 1،وقوله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 2. ومثل ذلك يقال في السمع والبصر والكلام، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 3. 4.
فالشيخ رشيد عندما يذهب إلى أن "خطابه لموسى في مصر في شأن فرعون كان بعد خطابه له في الطور.."5. وقوله عن الله تعالى أنه "متصف في الأزل بالكلام، أي بالصفة التي يكون بها التكليم متى شاء، كما أنه متصف بالأزل بالقدرة التي بها يكون الخلق والتقدير متى شاء
…
" 6، يذهب إلى ما ذهب إليه السلف في أفعال الله تعالى الاختيارية، ولا بد أنه بذلك متأثر بابن تيمية الذي فصل هذه المسألة تفصيلاً في كتبه التي اطلع عليها رشيد رضا 7.
1 سورة آل عمران: الآية (140)
2 سورة آل عمران: الآية (142)
3 سورة الأعراف: الآية (143)
4 ولقد فصل ابن تيمية هذه المعاني كثيراً، انظر مثلاً: درء التعارض (2/ 3ـ 156 و4/3) وما بعدها
5 مجلة المنار (34/ 222) ،ويلاحظ أن هذا الجزء هوقبل الأخير فلم يكتب رشيد رضا في الجزء الخامس والثلاثين إلا قليلاً.
6 تفسير المنار (3/ 4)
7 انظر: مبحث: موارد رشيد رضا (ص: 174) من هذا البحث، ومنها درء التعارض، وشرح حديث النزول.
ويستعمل رشيد رضا أيضاً لفظ "الحدوث" عند حديثه عن صفات الفعل، فيقول في سياق حديثه عنها وعن الفرق بينها وبين صفات الذات:"..هناك فرق بين الصفة كرحيم وقريب ومجيب وسميع وبصير، وبين الفعل الحادث كاستوى على العرش ونزل إلى السماء الدنيا"1.
وهذا يدل على فهمه لمذهب السلف فيها، كيف لا وقد وقف على "شرح حديث النزول لابن تيمية؟ 2.
1 مجلة المنار (29/615)
2 انظر: (ص:177) من هذا البحث
المطلب الرابع: صفات الذات الخبرية:
يقصد بالصفات الخبرية أو السمعية؛ ما كان الدليل عليها مجرد خبر الرسول دون استناد إلى نظر عقلي 3. ومنها صفات ذاتية كالوجه واليد والعين والقدم، ومنها صفات فعلية كالاستواء والنزول والمجيء والمحبة والرضا والسخط والغضب. وغير ذلك مما جاء به الكتاب الكريم واستفاضت به السنة النبوية.
ولقد اتحد موقف المتكلمين من هذه الصفات، إذ نفوها جميعاً، معتزلة وأشعرية، باعتبار أنها من سمات الأجسام، فتقتضي التشبيه والتجسيم، كما أن الفعلية منها تقتضي حلول الحوادث بذاته تعالى ـ كما مر قبل قليل 4. وقد أشرت قبلاً إلى أن متقدمي الأشعرية كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني كانا يثبتان من هذه الصفات الكثير. وأول من اشتهر عنه نفيها من الأشعرية هو إمام الحرمين الجويني 5 وتبعه على ذلك
3 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 135)، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (ص: 207) ط. الجامعة الإسلامية، الأولى، سنة 1408هـ.
4 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 2) مطبعة كردستان بمصر، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 217 و 230)، وانظر:(ص:362) من هذا البحث.
5 هو: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، ت: 478هـ. [السير: 18/468ـ 477]
جميع متأخري الأشعرية 1. وأما السلف رحمهم الله فلم يختلف منهجهم في إثبات الصفات، فقد مشوا على صراط مستقيم، هو إثبات ما أثبته الله لنفسه دون تحريف أو تعطيل أو تمثيل، وتنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، كما مر تفصيله.
والمقصود الآن معرفة المنهج الذي سار عليه الشيخ رشيد رضا في هذا الباب.
أولاً: الوجه:
صفة الوجه من صفات ذات الله تعالى 2 ثبتت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 3 وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} 4.
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى 5 وفي الحديث: "
…
لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" 6.
وبناءً على ذلك أثبت أهل السنة هذه الصفة 7. وتأولها المتكلمون 8.
1 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 139)، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (157ـ 171)
2 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 10) ت: خليل هراس.
3 سورة الرحمن، الآية (27)
4 سورة القصص، الآية (88)
5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب: قوله الله (:: {كل شيء هالك إلا وجهه} ، ح: 7406 (13/400) وانظر: ابن القيم: "مختصر الصواعق للموصلي"(ص: 337)
6 رواه مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 293 (179)[1/161] ط. عبد الباقي.
7 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 228)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 10)، وابن منده: التوحيد (3/ 36)، والدارمي: الرد على المريسي (ص: 157)، وأثبتها الأشعري: الإبانة (ص: 22) ت: فوقية حسن، والباقلاني: التمهيد (ص: 295)، وانظر: الأشعري: مقالات الإسلاميين (1/ 290)
8 انظر:: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 227)، والرازي: أساس التقديس (ص: 117 ـ 119)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 109)، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 110)
وورد ذكر الوجه في آيات من الكتاب العزيز ولم يختلف السلف في شيء منها، إلا في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 فقد ورد عن بعض السلف تفسيرها بقبلة الله 2. ولكن هذا لا يعني إلا أنه قد وقع بينهم نزاع في معنى هذه الآية ولا يعني ذلك إنكارهم للصفة لأنها ثابتة في آيات أخر وأحاديث صحيحة 3.
والذي ظهر لي أن رشيد رضا قد أثبت صفة الوجه لله تعالى. وسوف أتناول نصوصه في ذلك متدرجاً من الواضح للأوضح من خلال تفسيره للآيات. فعند قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 4 فسر رشيد رضا الآية بما يدل على أنه لا يعدها من آيات الصفات، ولكنه بين لنا في تفسيره لها مذهب السلف والخلف في الصفات، وإن كان رأى أنه لا يظهر لها معنى على المذهبين. قال:"إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات، كأن نقول: إن الوجه صفة لله تعالى، أوأنها كناية عن الذات، حتى يكون المعنى على الأول: وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله تعالى التي سماها وجهاً، وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين ـ وعلى الثاني: وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله تعالى. هذا ما لا يظهر معه للآية معنى، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى، وقد رأيت أن الأستاذ الإمام اكتفى كالمفسرين بجعله معنى مرضاة الله، وهو صحيح"5. وكما هو واضح أن تفسير رشيد رضا لهذه الآية في حياة "الأستاذ الإمام"، وقد رأيت حكاية رشيد رضا لتفسيره الآية. ولم يكن من السهل الإعلان بمخالفة الأستاذ الإمام. إلا أنني أشير إلى بيان رشيد رضا لمذهبي السلف والخلف وفهمه لهما وقوله: "صفة الله تعالى التي سماها وجهاً وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات
1 سورة البقرة، الآية (115)
2 انظر: ابن كثير: التفسير (1/ 150)، وابن القيم:"مختصر الصواعق"(ص: 339)
3 انظر: ابن القيم: مختصر الصواعق (ص: 391 ـ 392)
4 سورة البقرة، الآية (272)
5 تفسير المنار (3/ 85)
المحدثين" وذكره لتأويل المتكلمين لها بالذات. مما يدل على فهم رشيد رضا للمذهبين، ولا أشك في أنه يرجح مذهب السلف وإن لم يصرح به، نظراً لما اختاره الأستاذ الإمام. ومهما يكن من شيء فلو لم يكن لله وجه على الحقيقة لما جاء استعمال هذا اللفظ في معنى الذات؛ فإن اللفظ الموضوع لمعنى لا يمكن أن يستعمل في معنى آخر إلا إذا كان المعنى الأصلي ثابتاً للموصوف، حتى يمكن للذهن أن ينتقل من الملزوم إلى لازمه 1. ويؤيد رأيي في ترجيح رشيد رضا لمذهب السلف، موقفه الذي يعلنه دائماً من اختياره لمذهب السلف وحياته عليه وموته عليه، لولا ما يجعله يشير إلى غيره أحياناً لعوارض ومناسبات أخرى 2.
النص الثاني الذي يلي هذا في الوضوح ـ حسب ما يظهر لي ـ تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3 فقد قال: "
…
وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة
…
" 4. ولا يخفى أن هذا التفسير كان في أثناء سورة يونس، أي بعد وفاة "الأستاذ الإمام" بزمن بعيد 5.
وفسر رشيد رضا حديث "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 6 فقال: "..ومعنى الجملة: أنه تعالى لو كشف عن وجهه حجاب النور المخلوق
…
لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره منهم
…
" 7.
1 انظر: محمد خليل هراس: شرح الواسطية (ص: 114) .
2 انظر: (ص: 354) من هذا البحث.
3 سورة يونس، الآية (26)
4 تفسير المنار (11/ 350)
5 وانظر: (ص:58) من هذا البحث.
6 سبق تخريجه قريباً
7 تفسير المنار (9/ 141)
والنص الثالث؛ فعند قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} 1 قال: "
…
أي يدعون ربهم بالغداة والعشي مريدين بهذا الدعاء وجهه سبحانه وتعالى
…
كما قال تعالى حكاية عن المطعمين الطعام على حبه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} 2، وكما قال في حق الأتقى الذي ينفق ماله ليتزكى به عند الله تعالى ويكون مقبولاً مرضياً لديه:{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 3 ولعل أصل ابتغاء الوجه بالعمل هو أن يعمل ليواجه به من عمل لأجله فيعتني بإتقانه
…
وأعلى الثواب رضوان الله تعالى، وكمال العرفان والعلم به المعبر عنه في الأحاديث الشريفة برؤية وجهه الكريم، بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل
…
" 4.
وأما قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5 فيرى رشيد رضا تبعاً لشيخه، أنها ليست من آيات الصفات 6. وهو رأي قد قال به بعض السلف رحمهم الله وقد ذكرت قبل قليل أن ذلك يعني أنهم مختلفون في دلالة هذه الآية على الصفة، ولا يعني نفي الصفة، فإنهم يثبتونها بآيات وأدلة أخرى.
والخلاصة أن رشيد رضا يثبت "وجه الله تعالى"" صفة لهمن غير تشبيه ولا تمثيل، ولا كيف، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، وأن إثباته للصفة بعد وفاة شيخه كان أشد وأوضح. والله أعلى وأعلم.
ثانياً: العين الإلهية:
قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 7 وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 8،
1 سورة الأنعام، الآية (52)
2 سورة الإنسان، الآية (9)
3 سورة الليل، الآية (20)
4 تفسير المنار (7/ 437)
5 سورة البقرة، الآية (115)
6 تفسير المنار (1/ 434)
7 سورة هود، الآية (37)
8 سورة القمر، الآية (14)
وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 1. وبناء على هذه الآيات يجب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من العين لا سيما وقد جاءت السنة موافقة للكتاب في ذلك. فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله {سَمِيعاً بَصِيراً} 2 ثم وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه 3 تحقيقاً للصفة. وفي أحاديث صفة الدجال "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" 4 وفي أحد رواياته "إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه" 5 وكان هذا كافياً عند أهل السنة لإثبات هذه الصفة 6. وتأولها الجهمية 7.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} ذهب الشيخ رشيد إلى إثبات هذه الصفة وما تلزمها من لوازم كالحفظ والعناية، فقال: " أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه حال كونك ملحوظاً ومراقباً بأعيننا من كل ناحية، وما يلزمه من حفظنا في كل آن وحالة
…
" 8.
1 سورة الطور، الآية (48)
2 سورة النساء، الآية (58)
3 رواه أبو داود: ك: السنة، باب في الجهمية، ح: ك 4728 (5/ 97 ـ الدعاس)، وعثمان الدارمي: الرد على المريسي (ص: 152)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 42 ـ43) ت: هراس.
4 ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، انظر: البخاري: الصحيح: ك: الفتن، ح: 7127 و7131 (13/ 96 ـ97) مع الفتح، ومسلم: الصحيح: ك الفتن، ح: 100 و101 (2933)[4/ 2247 ـ 2248]
5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب قول الله {ولتصنع على عيني} ح:7407. [13/401]
6 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 42 ـ 43 و48 و152)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 42)، والبخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب قول الله {ولتصنع على عيني} (13/ 401) مع الفتح، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 42)
7 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 2)، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 227)
8 تفسير المنار (12/ 73)
ويشير رشيد رضا إلى نكتة جمع العين في الآية على أن المراد به شدة العناية بالمراقبة والحفظ. قال: " جمع الأعين هنا لإفادة شدة العناية بالمراقبة والحفظ
…
فإن العرب تعبر برؤية العين الواحدة عن العناية وبالأعين عن المبالغة فيها
…
" 1. ثم قال: "وهذا التفسير هو الظاهر بل المتبادر من هذا التعبير، وليس تأويلاً صرف به عن الظاهر لإيهامه التشبيه، فإنما مرادهم بالتأويل حمل اللفظ على المعنى المرجوح من معنييه أو معانيه لمانع من حمله على المعنى الراجح، وهو لا ينحصر في الحقيقة اللغوية
…
" 2.
والحق أن الله تعالى له عينان لا أعين كثيرة 3، وقد شنع الجهمية على أهل السنة بمثل ذلك في اليد الإلهية، وربما أراد رشيد رضا الاحتراز عن ذلك، فذهب في مسألة الجمع هذا المذهب، مع إثباته للعين ولوازمها من الحفظ والعناية. هذا خلاف ما ذهب إليه المغراوي من أن رشيد رضا لم يثبت هذه الصفة 4.
ومما يؤكد ما ذهبت إليه من إثبات رشيد رضا لهذه الصفة قوله بعد أن نقل كلاماً للسعد في تأويل بعض الصفات منها العين والوجه واليد، قال: "ومثل هذه الصفات التي هي في الحادث أعضاء وحركات أعضاء، الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة فالسلف يمرونها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عن انفعالات المخلوقين
…
والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك
…
والحق أن جميع ما أطلق على الله تعالى فهو منقول مما أطلق على البشر، ولما كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله تعالى عن مشابهة البشر تعين أن نجمع بين النصوص فنقول: إن لله تعالى قدرة حقيقية ولكنها ليست
1 المصدر نفسه.
2 المصدر نفسه.
3 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 48)، والأشعري: الإبانة (ص: 22)، وابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 135 ـ 137)
4 انظر: المغراوي: المفسرون (ص: 271)
كقدرة البشر، وأن له رحمة ليست كرحمة البشر، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه تعالى جمعاً بين النصوص، ولا ندعي أن إطلاق بعضها حقيقي والبعض الآخر مجازي
…
" 1.
وتعليق رشيد رضا هذا على كلام السعد التفتازاني المتضمن كلامه على الاستواء والوجه واليد والتي أثبتها جميعاً رشيد رضا، وفي ضمنها أيضاً الحديث عن العين الإلهية وأدلتها، وسياق الكلام عليها سياقاً واحداً لهو دليل على إثباته هذه الصفة كما أثبت ما معها من الصفات وما أضافه في التعليق عليها كالرحمة.
ثالثاً: النفس الإلهية:
ذكر الله تعالى في غير ما آية في كتابه أن له نفساً، وكذلك جاء في السنة النبوية.
قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2 وقال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 3 وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 4 وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} 5. وفي الحديث: "يقول الله: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" 6. وفي الحديث أيضاً: "
…
سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه" 7.
1 تفسير المنار (3/ 197 ـ 199) ولم يهتد المغراوي إلى هذا الموضع أيضاً فقال ما قال.
2 سورة الأنعام، الآية (54)
3 سورة طه، الآية (41)
4 سورة آل عمران، الآية (30)
5 سورة المائدة، الآية (116)
6 البخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} ، ح: 7405 (13/395)
7 مسلم: الصحيح، ك: الذكر، ح: 79 (2726)(4/ 2090) ط. عبد الباقي.
ويقول أهل السنة: إن نفس الله تعالى لا تشبه نفس المخلوقين، كما ينزهونه عن ألا تكون له نفس كالعدم 1.
وكفرت الجهمية بهذه الآي والسنن، وزعم بعضهم أن الله تعالى أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه وزعم أن نفسه غيره كما أن خلقه غيره فهل يجوز على هذا التأويل أن يقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة أي كتب ربكم على غيره الرحمة؟! وهل يجوز: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، أي: ولا أعلم ما في غيرك؟! وهل يجوز أن يقول: واصطنعتك لنفسي: أي لغيري؟!
…
2 وقال بعضهم: نفسه ذاته 3.
وأثبت الشيخ رشيد النفس الإلهية مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس المخلوقين. وأنكر تأويلات المتأولين. فقال عند قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 4: "
…
قيل إن إضافة كلمة نفس إلى الله تعالى من باب المشاكلة، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك كقوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 5 {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 6 وقيل: إنها بمعنى الذات
…
وتنزيه الله عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه معروف بالنقل والعقل، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل
…
" 7.
وعند قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 8 قال: "
…
وذكر النفس
1 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 5 ـ 6)، وانظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 270)
2 انظر: ابن خزيمة: المصدر السابق (ص: 8)، وابن حجر: الفتح (13/ 396)
3 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 93)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 11)، والراغب: المفردات (ص: 818)
4 سورة المائدة، الآية (116)
5 سورة الأنعام، الآية (54)
6 سورة آل عمران، الآية (28، 30)
7 تفسير المنار (7/ 266)
8 سورة آل عمران، الآية (28، 30)
ليعلم أن الوعيد صادر منه، وهو القادر على إنفاذه
…
" 1.
ومن هذين النقلين يتضح لنا رأي الشيخ رشيد في النفس، فقد جرى فيه على منهج السلف الذي أعلن مراراً وتكراراً أنه عليه يحيا وعليه يموت 2.
رابعاً: يد الله تعالى:
ورد لفظ "اليد" في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع؛ وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية من الطي 3 والقبض 4 والبسط 5 والخلق باليدين 6 والإمساك 7 والحثيات 8 والكتابة بها 9، وغرس جنة عدن بها 10 واختيار آدم لليمين منها 11 وكلتا يديه تعالى يمين مباركة 12. وإن اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف الاستعمال يمنع المجاز 13.
وبناءً على ذلك أثبت أهل السنة صفة اليد لله تعالى، على ما يليق به
1 تفسير المنار (3/ 282)
2 انظر: المصدر نفسه (1/ 252 ـ 253)
3 سورة الزمر، الآية (67)
4 سورة البقرة، الآية (245) وسورة الزمر، الآية (67)
5 سورة البقرة، الآية (245) وسورة المائدة، الآية (64)
6 سورة ص، الآية (75)
7 مسلم: الصحيح، ك: صفات المنافقين، ح: 19 (2786)[4/ 2147] ط. عبد الباقي.
8 الترمذي: صفة القيامة، باب: 12، ح: 2437، وابن ماجه: السنن، ك: الزهد، باب: صفة أنه محمد (، ح: 4286، وصححه الألباني.
9 البخاري: ك: القدر، باب: تحاج آدم وموسى، ح: 6614 (11/ 513) .
10 الحاكم: المستدرك (2/ 392)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 47)
11 الترمذي: ك: التفسير، باب: 95، ح:(3368)(5/ 453) وقال: حسن غريب، وابن أبي عاصم: السنة (1/ 91)، والحاكم: المستدرك (1/ 64) وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
12 ابن القيم: الصواعق "المختصر"(ص: 334)
13 المصدر نفسه (ص: 323)
تعالى 1، وأولها المتكلمون بالقدرة أو القوة أو النعمة 2.
ولقد سار رشيد رضا في هذه الصفة على منهج أهل السنة، فقد أثبتها مستدلاً بالكتاب والسنة. فيرد الشيخ رشيد على المنكر لهذه الصفة بقوله: "ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين، قد قرأ أو سمع قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 3 وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4
…
" 5. ويحدد رشيد رضا الألفاظ الواردة في إثبات هذه الصفة، ويرد ما لم يرد منها في الكتاب والسنة، فيقول: "وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 6 وثبت في حديث مسلم 7 والنسائي 8: "وكلتا يديه يمين" والحديث في إثبات الشمال لا يصح
…
" 9.
وعند قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 10 قال: "أي بل هو صاحب الجود الكامل، والعطاء الشامل، عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه" 11 ثم
1 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 25)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 67)، والآجري: الشريعة (ص: 320)، وابن منده: التوحيد (3/ 118)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 43)، وقد أثبتها الأشعري: الإبانة (ص: 22)، والباقلاني: التمهيد (ص: 295)
2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 228)، والرازي: أساس التقديس (ص: 125) = =والبغدادي: أصول الدين (ص: 110)، وانظر: الأشعري: المقالات (1/ 290)
3 سورة الفتح، الآية (10)
4 سورة ص، الآية (75)
5 مجلة المنار (29/ 595)
6 سورة الزمر، الآية (67)
7 الصحيح: ك: الإمارة، ح: 18 (1827)[3/1458] .
8 السنن: ك: آداب القضاة، باب: فضل الإمام العادل (8/ 221) ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
9 مجلة المنار (29/ 595)، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 408) ط. الريان، مصر.
10 سورة المائدة، الآية (64)
11 تفسير المنار (6/ 455)
قال: "نعم إن التثنية ليست بمعنى الجمع، واليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك. وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية 1، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم
…
" 2 وفي مسألة "الكناية" يرى رشيد رضا: أن الكناية لا تنافي الحقيقة كما ينافيها المجاز 3.
ورغم أن رشيد رضا يوافق ابن جرير الطبري 4 على إثبات هذه الصفة لله تعالى وأنها يد إلهية ليست بجارحة 5 ويقول:: "ونحن معه في إثبات الصفات، ننعى على المؤولين النفاة
…
" 6 إلا أنه لم يوافق ابن جرير في استدلاله على هذه الصفة بالتثنية الواردة في الآية 7، ويذهب إلى أن التعبير من باب الكناية ولكنه يقول: "ليس في هذا القول المروي عن ابن عباس 8، تأويل ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى
…
" 9.
والذي يظهر من هذا أن رشيد رضا يثبت الصفة بلا ريب ولكنه يخالف في الاستدلال بالتثنية الواردة في الآية عليها. كما أنه استدل على هذه الصفة بآيات أخرى. ولا يعني ذلك إنكاره للصفة. على أن الاستدلال بالتثنية على عدم إرادة المجاز في الآية هو استدلال صحيح، استدل به غير واحد من أهل السنة وليس ابن جرير منفرداً في ذلك 10.
1 سيأتي تعريف الكناية والفرق بينها وبين المجاز. انظر (ص:409) من هذا البحث.
2 تفسير المنار (6/ 456)
3 انظر: مجلة المنار (17/ 827) و (ص:409) من هذا البحث.
4 هو: محمد بن جرير بن يزيد، الإمام العالم المجتهد، عالم العصر، صاحب التصانيف البديعة، كان من أفراد الدهر علماً ولقي النبلاء والفضلاء. قل أن ترى العيون مثله، ت: 310هـ. انظر: الذهبي: السير (14/ 267 ـ 282)
5 تفسير المنار (6/ 456)
6 المصدر نفسه (6 /455)
7 المصدر نفسه.
8 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 71 ـ 72) .
9 تفسير المنار (6/ 456)
10 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 86)، والأشعري: الإبانة (ص: 126 ـ 127)، والبيهقي: الاعتقاد (ص: 88) ت: أحمد عصام، وابن تيمية:"الرسالة المدنية"[ضمن مجموع الفتاوى (6/ 365 ـ 366) ]، وابن القيم: الصواعق "المختصر"(2/ 324)
وليس صحيحاً ما ذكره المغراوي من أن رشيد رضا ذهب في هذه الآية مذهب المؤولة، وأنه اختلط عليه الإثبات والتفويض 1.
خامساً: الصورة الإلهية:
الصُورة ـ بالضم ـ الشكل، جمعها: صُور وهي الشكل، والهيئة والحقيقة 2.
وكل موجود من الموجودات له صورة في الخارج، كما أن له صورة ذهنية 3. والصورة الإلهية وردت في أحاديث كثيرة لا يمكن دفعها ـ وإن لم ترد في الكتاب ـ إلا أنها وردت في السنة واشتهرت. منها حديث:
"خلق الله آدم على صورته" 4، وفي رواية:"على صورة الرحمن" 5، وصححه الأئمة 6.
وحديث: "رأيت ربي في أحسن صورة"7.
وقد أثبت أهل السنة ما دلت عليه هذه الأحاديث دون التصرف فيها بالتأويل فالصورة كالصفات الأخرى، ثبتت لله تعالى بالوحي فوجب الإيمان بها، مع التنزيه وعدم التشبيه 8.
1 انظر: المغراوي: المفسرون بين التأويل والإثبات (1/ 266) .
2 انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (3/ 320)، والزبيدي: تاج العروس (3/ 342)
3 ابن تيمية: نقض التأسيس (3/ 245 و275)[مخطوط]
4 البخاري: الصحيح، ك: الاستئذان، باب: بدء السلام، ح: 6227 (11/ 5)
5 ابن أبي عاصم: السنة (1/ 229)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 38) ت: هراس.
6 انظر: ابن تيمية: نقض التأسيس (3/ 222)[مخطوط] وابن حجر: فتح الباري (5/217)
7 الترمذي: السنن: ك: التفسير، تفسير سورة "ص"، ح:3288، (5/ 369) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل عن البخاري تصحيحه.
8 انظر: ابن تيمية نقض التأسيس [ج: 3 مخطوط (ص: 206 ـ 255) ]، وانظر: ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث (ص: 221)
وأولها الجهمية بالصفة، كما أنهم تلاعبوا في إرجاع الضمائر في الروايات المتقدمة 1.
وأما الشيخ رشيد فقد أشار إلى حديث البخاري: "خلق الله آدم على صورته" وقال: "قيل إن الضمير في صورته لآدم أي: صورته المعهودة لم يتغير من طور إلى طور آخر وقيل إنه قاله لمن ضرب عبده فالضمير للعبد، ولكن ورد في رواية أخرى "على صورة الرحمن""2.
فالشيخ رشيد قد أورد بعض التأويلات المذكورة، ثم أورد رواية أخرى تردها ولكنه لم يعلق عليها بشيء.
كما أنه أورد روايات أخرى فيها ذكر الصورة ونقل كلام الشراح عليها ثم قال: "ذكر النووي في شرحه لحديث أبي هريرة من صحيح مسلم مذهب السلف في أمثال هذه الألفاظ والصفات وهو الإيمان بها وحملها على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وتنزيهه كما تقدم
…
" 3.
وأما مذهب السلف فهو ما ذكرته قبل قليل من الإيمان بالصورة ومعناها اللغوي ـ مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ـ وإمرار الأحاديث على ظاهرها، وتفويض الكيفية لا المعنى، وأرجو أن يكون هذا هو مراد الشيخ رشيد. وهذا هو مذهب السلف في كل الصفات وكما قرره الشيخ رشيد غير مرة، ومن الممكن أن نتأول على ذلك قوله في معنى الصورة:
"وقد اختلفوا في معنى الصورة وأولوها أيضاً، والأظهر أنها عبارة عما يقع به التجلي من حجاب ومنه رداء الكبرياء الذي سبق الكلام فيه
…
" 4.
1 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 83) وما بعدها، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 5)
2 تفسير المنار (7/ 474) بالحاشية.
3 المصدر نفسه (9/ 146)
4 المصدر نفسه والصفحة، إلا إن كان الشيخ رشيد يريد بالتجلي أنه يتجلى في صورة كما ورد في بعض الروايات، يتجلى وتبدى. انظر: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 316 (191)[1/ 177 ـ 178]، والترمذي: السنن: ك: صفة الجنة، باب: ما جاء في أسواق الجنة، ح: 2549، وقال: هذا حديث غريب (4/ 686)، وابن ماجه: السنن: ك: الزهد، باب: صفة الجنة، ح: 4336، وضعفه الألباني.
وإن كان قوله "عبارة عن
…
" هو التأويل الذي رفضه السلف وأقرهم على ذلك الشيخ رشيد.
سادساً: الرؤية:
زعمت الجهمية والمعتزلة أن الله تعالى لا يُدرك ولن يُدرك بشيء من الحواس الخمس 1. ولذلك فقد نفوا رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة 2. وأما أهل السنة فإنهم يقولون بجواز الرؤية في الدنيا عقلاً ولكنها لم تقع لأحد قط، لا نبي ولا غير نبي، ولم يختلفوا في ذلك، إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم، وجوازها في الآخرة عقلاً، ووقوعها قطعاً 3. واستدلوا بالكتاب والسنة: فمن الكتاب: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4 وقوله تعالى: {كَلَاّّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 5. ومن السنة: أحاديث بلغت مبلغ المتواتر 6. منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته" 7، وهذا دليل واضح وضوح الشمس والقمر. وعلى ذلك مضى السلف. قال الإمام الدارمي: "فهذه الأحاديث كلها وأكثر
1 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 13 ـ 14)، وعبد الجبار: فضل الاعتزال (ص: 346)، وشرح الأصول (ص: 348) ، وابن تيمية: منهاج السنة (2/ 315 و363)، والأشعري: المقالات (1/ 238)، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 207)
2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 232) وما بعدها و (ص: 348) .
3 انظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 54)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 185 وص: 197) وما بعدها. وابن أبي عاصم: السنة (ص: 193)، وابن تيمية: منهاج السنة (2/ 329) وما بعدها، وابن القيم: حادي الأرواح (ص: 223) ط. مطبعة المدني، بمصر.
4 سورة القيامة، الآية (22ـ 23)
5 سورة المطففين، الآية (15)
6 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 59)، والآجري: الشريعة (ص: 57)، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 215) ط. التركي.
7 رواه البخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ، ح: 7434، (13/ 429) مع الفتح، وانظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 46)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 178) وما بعدها، وابن أبي عاصم: السنة (ص: 193)
منها قد رويت في الرؤية، على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والنظر من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديماً وحديثاً يروونها ويؤمنون بها، لا يستنكرونها ولا ينكرونها
…
" 1.
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعيني رأسه على ثلاثة أقوال، ثالثها التوقف 2. والحق أنه لم يرد في شيء من الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم رآه يقظة بعينه 3. وقد ورد النفي في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:"قلت يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه" 4 واختاره أحمد 5 والدارمي 6 الذي علل ذلك بضعف قدرة الإنسان على ذلك في الدنيا وأن الله تعالى ينشئهم نشأة أخرى في الآخرة تقوى على ذلك 7.
وقد اتخذ الشيخ رشيد موقفاً سديداً في هذه المسألة، فقد أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة. وذكر الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى في الدنيا وذهب إلى القول بالنفي.
فأما رؤية الله تعالى في الدنيا، فيقول بنفيها عموماً، للنبي صلى الله عليه وسلم، ولغيره بطريق الأولى، فيقول: "اختلف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج بين إثبات ونفي ووقف، واختلف المثبتون في الرؤية هل هي بعين البصر أم بعين القلب والبصيرة؟
…
والتحقيق أنه قد وردت أحاديث مرفوعة صحيحة في النفي دون الإثبات، كحديث:"نور أنى أراه" 8 وكحديث: "واعلموا أنكم
1 الرد على الجهمية (ص: 54)
2 انظر: القاضي عياض: الشفاء (1/ 152 ـ 156) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى 1416هـ.
3 انظر: عياض: الشفاء (1/ 152)، وابن تيمية: درء التعارض (2/ 106) ، ومنهاج السنة (2/ 316 و636 ـ 637)
4 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 291 (1/ 161)
5 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 637)
6 الرد على الجهمية (ص: 55)
7 المصدر نفسه (ص: 55 ـ56)، وانظر: ابن تيمية: المنهاج (2/ 331 ـ 333)
8 سبق تخريجه.
لن تروا ربكم حتى تموتوا" 1...." 2 ويرجح رشيد رضا رأي أم المؤمنين عائشة في النفي 3 لأنه " أصح سنداً وأقوى دليلاً" 4 وأما رأي ابن عباس 5 رضي الله عنهما فهو بالاستنباط من الأدلة ولم يكن عنده حديث مرفوع 6.
وهذا الذي ذهب إليه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعين رأسه يقظة في الدنيا هو الراجح عند جمهور أهل السنة كما سبق. وهو مذهب أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما 7.
وأما الرؤية في الآخرة، فبعد أن ذكر الشيخ رشيد تعارض أدلة المثبتين والنافين لها من القرآن يقول: "وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصاً قاطعاً في مذهبه ففي الأحاديث المتفق عليها ما هو نص قاطع لا يحتمل التأويل في الرؤية وتشبيهها برؤية البدر والشمس في الجلاء والظهور وكونها لا مضارة فيها ولا تضام ولا ازدحام
…
" 8.
غير أن الشيخ رشيد لا يترك الاستدلال بأدلة القرآن بل يستدل بها ويبين وجه دلالتها، فلقد ذكر استدلال أهل الإثبات بقوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 9، وقال: ".. فنفي الإدراك يستلزم إثبات رؤية لا إدراك فيها، فكأنه قال: لا تدركه الأبصار التي تراه وهو يدرك الأبصار التي يراها ويحيط بها. ونظيره قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
1 رواه مسلم: الصحيح: ك: الفتن وأشراط الساعة، ح: 95 (2930)[4/ 2245]، وانظر: ابن ماجه: السنن، ك: الفتن، باب: فتنة الدجال، ح:4077.
2 تفسير المنار (9/ 147)
3 انظر: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 287 (177) وما بعده (1/ 159)
4 تفسير المنار (9/ 147)
5 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 285 (176)(1/ 158)، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (1/79)
6 تفسير المنار (9/ 148)
7 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 283 (175) وح:287 (177)[1/ 158 ـ 159]
8 تفسير المنار (9/152)
9 سورة الأنعام: الآية (104)
وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 1 أي هو يحيط بهم علماً لأنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} 2، وهم لا يحيطون به علماً لأن إحاطة المحاط به بالمحيط محال، وهو يستلزم إثبات أصل العلم به لا نفيه كآية نفي الإدراك بالأبصار، وكل منهما جار على قاعدة معروفة في اللغة؛ وهي أن نفي المقيد يقصد به إلى القيد، وإن نفى وصف خاص لمعنى عام يستلزم إثبات ذلك العام، كقولك: فلان لا يشبع ـ فإنه إثبات للأكل ونفي للشبع.." 3.
وأما ما يستدل به النفاة من كلام السيدة عائشة رضي الله عنها، فيجيب عنه الشيخ بما يأتي:"وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عن المثبتين، أن يقال: إنها تريد نفي الرؤية في الدنيا، كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شؤون البشر في الآخرة على شؤونهم في الدنيا، لأن لذلك العالم سنناً ونواميس تخالف هذا العالم.."4.
ويلخص الشيخ رشيد رأيه في هذه المسألة فيقول: "خلاصة الخلاصة أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل النعيم الروحاني الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة والرضوان، وأنها أحق ما يصدق عليه قوله تعالى في كتابه المجيد: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 5،.. وأن هذا وذلك مما يدل على مذهب السلف الذي عبر بعضهم عنه بأوجز عبارة اتفق عليها جميعهم، وهي: "رؤية بلا كيف"
…
6".
وما ذهب إليه الشيخ رشيد في هذه المسألة أيضاً هو اعتقاد أهل السنة رحمهم الله 7.
1 سورة طه: الآية (110)
2 سورة البروج: الآية (20)
3 تفسير المنار (9/136)
4 المصدر نفسه (9/ 154)
5 سورة السجدة: الآية (17)
6 تفسير المنار (9/ 177) وانظر: المجلة (19/282) والوحي المحمدي (ص:183)
7 كما أثبتها: الأشعري: الإبانة (ص: 35) والباقلاني: التميهد (ص:301)
الفصل الرابع: منهج رشيد رضا في إثبات الألوهية ونفي الشرك والبدع
تمهيد
…
تمهيد
إثبات الألوهية لله تعالى، أو: توحيد الألوهية، أو: توحيد العبادة، أو: توحيد القصد والطلب والإرادة، هي كلها أسماء لمسمى واحد.
وهذا الفصل قسيم الفصلين السابقين من أقسام الإيمان بالله تعالى إذ الإيمان به تعالى يتضمن الإيمان بربوبيته وصفاته وألوهيته، ومعنى الإلهية: كون العباد يتخذونه سبحانه محبوبا مألوها ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات والتوبة والنذر والطاعة والتوكل والطلب1.
وبعبارة أخرى نقول: إن توحيد الألوهية -يعني- وهو ما تدل عليه مسمياته السابقة-: إفراد الله تعالى بأفعال عباده وأقوالهم التي تعبدهم بها من عبادات قلبية: كالخوف والحب والرجاء، أو بدنية: كالصلاة والطواف، أو مالية: كالزكاة وسائر الصدقات أو ما يجمع ذلك أو بعضه كالحج.
فهذه العبادات لا تصرف إلا لله تعالى وحده، فإن صرفت لغيره كانت شركا لا يغفر.
والأدلة على وجوب إفراد الله تعالى بأنواع العبادات كثيرة، منها: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} 2. وقوله عز وجل: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا
1 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:5) .
2 سورة الانعام، الآية (162-163)، وقال الشيخ رشيد:"هذا بيان إجمالي لتوحيد الألوهية بالعمل.." تفسير المنار (8/241)
هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1. وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 3. وقوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 4.
وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تقرر أن الله هو المستحق للعبادة بجميع أنواعها الاعتقادية والقولية والفعلية وليس لأحد سواه، كائنا من كان، أي شيء من أنواع العبادة.
ولقد قرر الشيخ رشيد – رحمه الله تعالى – هذا المعنى أتم تقرير، وبينه أوضح البيان، فلقد فسر الإله بالمعبود، وبين معنى العبادة وحقيقتها وذكر بعض أنواعها وكيف تسرب الشرك إليها، وذكر الشرك ومعناه ومظاهره، والبدعة وأنوعها وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذا الفصل.
وفيما يلي نعرض لآرائه في مسائل هذا الفصل لتقف على منهجه التفصيلي فيه، والله تعالى ولي التوفيق.
1 سورة غافر، الآية (65) .
2 سورة البينة، الآية (5) .
3 سورة الإسراء، الآية (23) .
4 سورة النساء، الآية (36) .
المبحث الأول: إثبات الألوهية
المطلب الأول: تعريف الإله
…
المطلب الأول: تعريف الإله
لقد وقع خطأ كبير – وكان له أثر بعيد – في معنى الإله، وأقول – وبكل لأسى – إن هذا الخطأ لم يقع فيه عامة الناس فقط، بل وقع فيه النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام والجدل، ومنشأ هذا الخطأ هو الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن الكريم واستعمالها بلوازم معناها، وسبب آخر: هو امتلاء الرؤوس بالأفكار والنظريات والاصطلاحات الفلسفية الحادثة1.
لقد وقع الخلط بين معنى "الرب" و"الإله". هذا ما بينه الشيخ رشيد رحمه الله وبين معنى "الإله" الذي تدل عليه ألفاظ القرآن ولغة العرب، فقال مبينا منشأ هذا الخطأ:
"
…
ومنشأ هذا الخطأ هو الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن في اللغة العربية، واستعمالها بلوازم معناها العرفية كلفظ "الإله" فإن معناه في اللغة: المعبود مطلقا لا الخالق ولا المدبر لأمر العالم كله ولا بعضه، ولم يكن
1 محمد رشيد رضا: تفسر المنار (9/112-113) بتصرف.
أحد من العرب الذين سموا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة يعتقدون أن اللات أو العزى أو هبلاً خلق شيئا من العالم أو يدبر أمرا من أموره، وإنما تدبير أمور العالم يدخل في معنى لفظ الرب،
…
ولذلك يحتج القرآن عليهم في مواضع بأن غير الخالق المدبر لا يصح أن يكون إلهاً يعبد مطلقا وهو معنى قول بعض المحققين إنه يحتج بما يعترفون به من توحيد الربوبية، على ما ينكرونه من توحيد الألوهية
…
فإن الإله في هذه اللغة هو المعبود بالذات أو بالواسطة وإن كان مصنوعاً
…
"1.
فيقرر الشيخ رشيد أن الإله هو المعبود مطلقا، أي بحق أم بغير حق، وكل معبود هو إله- وليس معناه الخالق. ~أو القادر على الاختراع. ويكرر الشيخ رشيد هذا المعنى كثيرا.
فعند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 2.
قال: "الرب هو السيد والمالك والمدبر المربي، والإله هو المعبود، أي: الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه
…
"3.
وفي هذا النص أيضا يقرر الشيخ رشيد معنى الإله مفرقا بينه وبين معنى الرب، إذ أنه المعبود المتقرب إليه والملتجأ إليه، وحده أو مع غيره. فهذا هو معنى الإله مطلقا.
1 تفسير المنار (9/112-113) وقارن مع: ابن تيمية: درء التعارض (1/174)، وابن القيم: مدارج السالكين (3/19)، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:8)، ومحمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات (ص:219) ضمن الجامع الفريد.
2 سورة الأعراف، الآية (54) .
3 تفسير المنار (8/444-445) .
ويقول في موضع آخر: "ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أرباباً آلهة، فالإله هو المعبود، فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلهاً
…
فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي
…
"1.
وإذا كان ذلك صحيحا فكيف يدخل الشرك في عبادة الله تعالى؟ هذا ما يبينه الشيخ محمد رشيد بقوله: "والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران:
أحدهما: أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق.... ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
ثانيهما: اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه
…
"2.
فبين الشيخ هنا أن دخول الشرك في العبادة من هاتين الجهتين، التعظيم، والواسطة. وأن الأولى هي عبادة بعض المخلوقات نفسها كوثنية: من يعبد الكواكب أو النار لذاتها، وهي وثنية متأخرة سافلة، والثانية: وثنية من يعبدها أو يعبد الأنبياء أو الملائكة لتقربه إلى الله زلفى، وهي وثنية أرقى من تلك، ومثالها وثنية العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد في معنى "الإله" من أنه "المعبود" هو الصحيح بإجماع أهل العلم. فمن عبد شيئاً فقد اتخذه إلهاًُ من دون الله3. فتوحيد الألوهية: هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، كالدعاء والرجاء والخوف والخشية
…
إلخ4.
1 المصدر نفسه (7/568) .
2 تفسير المنار (7/568) .
3 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:5)، ومحمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/103-104) .
4 محمد بن عبد الوهاب: المصدر السابق (2/67-68) .
فيقوم هذا التوحيد على صرف جميع العبادات لله تعالى والإخلاص له فيها، فتوحيد الله معناه: اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له والتوجه إليه وحده بالعبادة1. يقول الشيخ رشيد: "فالإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جداً، وهي غير آلهة في الحقيقة ولكن في الدعوة الباطلة التي يثيرها الوهم"2.
فمعنى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 3 – كما يقول الشيخ رشيد -: "
…
وإلهكم الحق الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحق لها إلا هو، فلا تشركوا به أحداً"4.
والشرك في الألوهية أو في العبادة -معناه- وكما يقول الشيخ رشيد: "عبادة غير الله تعالى بالدعاء ونحوه
…
"5.
وفي معنى قوله تعالى: {
…
إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6: قال: "كائنين من دون الله
…
أو: حال كونهم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة
…
سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال – وهو نادر – أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه
…
"7.
ويقرر الشيخ رشيد أن هذا المعنى لتوحيد الألوهية هو المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 8، فيقول: "فالتوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية هو غاية ما يرتقي إليه عرفان البشر،
1 محمد خليل هراس: دعوة التوحيد (ص:11) .
2 تفسير المنار (3/23) .
3 سورة البقرة، الآية (163) .
4 تفسير المنار (2/55) .
5 مجلة المنار (11/943) .
6 سورة المائدة، الآية (116) .
7 تفسير المنار (7/261) .
8 سورة الذاريات، الآية (56) .
وهو المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} على القول بأن اللام للغاية، وهو لا يقتضي حصوله لكل فرد منهم
…
"1.
ويبين الشيخ رشيد أهمية هذا التوحيد، وأثره في النفس فيقول: "إن عقيدة التوحيد القرآني هي أعلى المعارف التي ترقي الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا من الكمال الروحي والعقلي والمدني، وقد صرح كثير من العلماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم لها
…
قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذي أزكى أنفسهم وأعلى هممهم وكمّلهم بعزة النفس وشدة البأس وإقامة الحق والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم
…
"2.
ولكن –ومع الأسى أيضا – إن وضوح هذه العقيدة وسهولتها قد طمسته فلسفة المتكلمين حتى في معاهد التعليم الكبرى، يقول الشيخ رشيد: "أليس من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى إخفاء عقيدة التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات علماء الكلام المعقدة؟
…
"3. ويضرب الشيخ رشيد مثالاً على ذلك بتفسير التوحيد بأنه نفي الكموم الخمس: الكم المتصل، والكم المنفصل في صفاته تعالى، والكم المنفصل في أفعاله
…
ثم يقول: "إن هذه الكموم الخمسة فلسفة كلامية ما أنزل الله بها في كتابه من سلطان
…
"4.
1 تفسير المنار (9/108) وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (6/40-41) وانظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:19-20) ط. دار الكر، 1409هـ، ت: حامد الفقي.
2 الوحي المحمدي (ص:174) .
3 مجلة المنار (33/124) .
4 المصدر نفسه والصفحة. والكم هو المقدار، وهو ما قبل القياس. وقال: إنه عرض يقبل لذاته القسمة والمساواة واللامساواة والزيادة النقصان، وهو: إما متصل، وإما منفصل. فالمتصل هو: الذي يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحدد به كالنقطة للخط، والمنفصل هو: الذي لا يوجد لأجزائه بالقوة ولا بالفعل حد مشترك، كالعدد، فإنك إذا انتقلت من عدد إلى آخر يليه لم تجد بينهما حداً مشتركاً، بخلاف النقطة في الخط فإنها مشتركة بين قسميه. انظر: جميل صليبا: المعجم الفلسفي (ص:240/241) .
ويدل على أهمية هذا التوحيد أن مسائله أكثر المسائل تكراراً في القرآن الكريم، وأن ما يذكره الله تعالى فيه من دلائل ربوبيته إنما هو للاستدلال على ألوهيته.
يقول الشيخ رشيد: "لذلك كان أكثر المسائل تكراراً في القرآن مسألة توحيد الله عز وجل في ألوهيته بعبادته وحده، واعتقاد أن كل ما سواه من الموجودات سواء في كونهم ملكاً وعبيداً به، لا يملكون من دونه نفعاً ولا ضراً لأحد ولا لأنفسهم إلا فيما سخره الله من الأسباب المشتركة بين الخلق
…
"1.
ويقرر الشيخ رشيد أن توحيد الألوهية هو الأساس الأعظم للدين فيقول: "ثم ذكر الأساس الأعظم للدين وهو: توحيد الألوهية، بتخصيص الخالق سبحانه بالعبودية، وقوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقرن ذلك بالتذكير بآياته الكثيرة الدالة عليه في السماوات والأرض وما بينهما ثم ذكر ما يقابل هذا التوحيد مقابلة التضاد، وهو الشرك باتخاذ الأنداد والاعتماد فيه على تقليد الآباء والأجداد
…
"3.
ومما يدل على مكانة هذا التوحيد كذلك – أنه أول شيء دعا إليه الرسل جميعاً، فكانت دعوتهم دائماً تبدأ بقولهم: {
…
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4 يقول الشيخ رشيد: "وبدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده هو سنة جميع المرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ
1 الوحي المحمدي (ص: 170) .
2 سورة البقرة، الآية (163) .
3 تفسير المنار (1/108) .
4 انظر: سورة هود، الآية (50 و61 و84) .
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 فكان كل رسول يبدأ دعوته بقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وذلك أن جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأن الله خالق الخلق وهو ربهم ومدبر أمورهم، وإنما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر، وبغير الدعاء والاستعانة من العبادات العرفية كالتقرب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف أو التمسح به
…
لما كانوا كذلك احتج على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ "رب" مضافا إليهم فقالوا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}
…
يعني: إذا كان ربكم هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم
…
فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحداً
…
"2.
ويقول أيضا: "وأما تكرار توحيد الربوبية –وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير، فليس لإقناع المشركين بربوبيته تعالى فقط – بل أكثره لإقامة الحجة على بطلان شرك العبادة
…
"3.
وما ذهب إليه الشيخ هو الحق، فتوحيد الربوبية هو الذي اتفقت عليه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الألوهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين ولهذا كانت كلمة الإسلام "لا إله إلا الله" فتوحيد الإلهية هو المطلوب من العباد، وأما المشركون فكانوا مقرين بربوبية الله تعالى، لذلك احتج عليهم بها دائما كما في قوله تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 4.
وعموماً: فهو تعالى يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية5.
1 سورة النحل، الآية (36) .
2 تفسير المنار (1/184) .
3 الوحي المحمدي (ص: 170) .
4 سورة النمل، الآية (59-60) .
5 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 8 و9) .
المطلب الثاني: العبادة
أولاً: تعريف العبادة:
إذا كان معنى توحيد الألوهية هو: عبادة الله وحده وهو ما قرره الشيخ رشيد موافقا لمنهج السلف1 فما هي العبادة؟
لقد تنوعت أقوال السلف في التعبير والتعريف بالعبادة، ولكن أشمل تعريف لها هو تعريف شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إذ يقول:"العبادة اسم جامع لما يحبه اله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه إخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة"2.ويعرف الشيخ رشيد العبادة تعريفاً لغوياً فيقول: "العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود
…
"3.
فإذا كان معنى العبادة لغة: الخضوع والتذلل4، فإنها في الشرع يضاف إليها عنصر آخر هو "التعظيم الناشئ عن الشعور بأن للمعظم سلطة
1 تفسير المنار (8/442) .
2 العبودية (ص:38) ط. المكتب الإسلامي، الخامسة، 1399هـ، وانظر: المقريزي تجريد التوحيد (ص:22)، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:14) .
3 تفسير المنار (1/56) .
4 انظر: الراغب: المفردات (ص/542)، والرازي: مختار الصحاح (ص: 172) .
غيبية وأسراراً معنوية وراء الأسباب الظاهرة
…
"1. والدليل على ذلك: "أنهم لا يطلقون لفظ العبادة على الخضوع والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو
…
"2.
وهذه ملاحظة دقيقة من الشيخ رشيد، فإن العبادة شيء زائد عن مجرد الخضوع والتذلل، وأما المعنى الشرعي للعبادة، فيعرفها الشيخ رشيد أكثر من مرة وفي غير مناسبة، فيقول: "إن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب وما هو فوق الأسباب
…
"3. ويقول في موضع آخر: "
…
وكل تعظيم واحترام ودعاء ونداء يصدر عن هذا الاعتقاد فهو عبادة حقيقية أي: ليس له هذا السلطان الذي اعتقده له العابد لا بالذات ولا بالتوسط
…
"4.
ويفصل الشيخ هذا المعنى أكثر فبقول: "
…
ذلك أن عبادة الشيء عبارة عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أم دفع الضرر عنه، والخوف ممن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود، مستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له، بأن يعتقد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له سلطة ذاتية
…
"5.
وقد ذكرت قبلاً - نقلاً عن الشيخ رشيد - تقسيم الشرك في العبادة من جهتين: التعظيم والواسطة وأن الأول هو ما سماه الوثنية السافلة، ومثلت لها بقوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الكواكب لذاتها، وأن الثاني: هو الوثنية
1 مجلة المنار (6272) .
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 تفسير المنار (7/568) .
4 تفسير المنار (3/23) .
5 مجلة المنار (16/677) .
الراقية التي كان عليها العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم1. فهذا تأييد لما هناك.
وعن صور هذه العبادة المجملة ومفرداتها، يقول الشيخ - رحمه الله تعالى - مبينا بعض هذه الصور: "وصور العبادة تختلف عند الأمم اختلافا عظيما، وأعلاها عند المسلمين: الأركان الخمسة والدعاء. وقالوا: كل عمل غير محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة. كأن المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة هو التوجه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته
…
والمؤولون يخصون هذه الصور بالله تعالى وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمونها باسم آخر يستحلونها بل يستحبونها، ولكنهم لا يخرجون بالتسمية والتأويل عن حيز من يتخذ من دون الله أنداداً
…
"2.
ونأخذ من هذا النص أن عند الشيخ رشيد مفهومين للعبادة، أحدهما أوسع من الآخر. فالأول: هو الأركان الخمسة: الشهادة والصلاة والصيام والحج والزكاة والدعاء، وهي عبادات مطلوبة شرعاً، والآخر وهو الأوسع: أنها تشمل كل حركة أو فعل أو قول يقوم به الإنسان ابتغاء وجه الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3.
ومن هذا النص أيضا يظهر رأي الشيخ في أن صور العبادة التي شرعت لله، إذا صرفت لغيره كانت شركا ولو تغير اسمها4.
ثانياً: شرط صحة العبادة:
ولا تقبل العبادة إلا بشرطين مجتمعين، إذا فقد أحدهما أو كلاهما، لم تقبل العبادة، هما: الإخلاص والمتابعة5.
1 انظر: (ص 469) من هذا البحث.
2 تفسير المنار (1! /189) .
3 سورة الأنعام، الآية (162) .
4 وانظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 21-23)، والشيخ محمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/411) .
5 انظر: ابن القيم: إعلام الموقعين (1/83) ، ط. دار الكتب الحديثة، مصر. ت: عبد الرحمن الوكيل. ابن رجب: جامع العلوم (ص:11)، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:42) .
ولقد قرر الشيخ رشيد رحمه الله هذين الشرطين، فقال عن الشرط الأول وهو الإخلاص:
"
…
العبادة الصحيحة لله تعالى لا تتحقق إلا إذا خلصت له وحده فلم تشبها شائبة ما من التوجه إلى غيره كما قال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 1 وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2 والآيات في هذا المعنى كثيرة
…
ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} 3 الآية
…
ويدل عليها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه - وفي رواية - فأنا منه بريء، هو للذي عمل له
…
" 4.
وهذا الذي ذهب إليه الشيخ مستدلاً بالكتاب والسنة هو الحق، فكل عمل من الأعمال وطاعة من الطاعات إذا لم تصدر عن إخلاص نية وحسن طوية لا اعتداد بها ولا التفات إليها.
الشرط الثاني لصحة العبادة: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الشرط يقول الشيخ رشيد: "اعلم أيها الأخ المستفهم أن أصول دين الله تعالى وفروعه مبنية على أساسين: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله تعالى. وثانيهما: ألا يعبد إلا بما شرع
…
فعبادات الدين لا تثبت إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يزيد فيها برأيه شيئاً فإن الله تعالى قد أكمل دينه على لسان رسوله بنص الآية المشهورة5
…
"6.
1 سورة الزمر، الآية (14) .
2 سورة البينة، الآية (5) .
3 سورة الزمر، الآيتين (2 و3) .
4 مسلم: الصحيح، ك: الزهد، ح: 46 (2985)(4/2289) .
5 يعني قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} سورة المائدة، الآية (3) .
6 مجلة المنار (23/476) .
وعند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1 قال الشيخ: "قوله هنا {وَاتَّبِعُوهُ} أعم من قوله في الآية التي قبلها {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} 2 فتلك في اتباع القرآن خاصة وهذه تشمل اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه، على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك وأذن له به، واتباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعاً
…
"3.
وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هنا أيضا هو الصواب، فيجب أن تكون العبادة موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 5.
1 سورة الأعراف، الآية (158) .
2 سورة الأعراف، الآية (158) .
3 تفسير المنار (9/303) .
4 سورة الحشر، الآية (7) .
5 سورة آل عمران، الآية (31-32)، وانظر: ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم (ص:56-57)، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:42) .
المطلب الثالث: بعض أنواع العبادة التي ذكرها رشيد رضا
لقد سبق أن ذكرت تعريف الشيخ رشيد للعبادة، حقيقتها، وصورها، وذكرت أن له مفهومين للعبادة، أحدهما أوسع من الآخر.
وهنا أود أن أقف عند بعض العبادات التي تكلم عنها الشيخ رشيد –رحمه الله وأبين منهجه فيها، فمنها:
أولاً: الدعاء:
يقرر الشيخ رشيد أن الدعاء صورة من صور العبادة1، بل هو أعظم مظاهر العبادة2، وهو العبادة الفطرية الوحيدة، وما سواه فعبادات تشريعية وضعية3.
لقد عرف الشيخ رشيد الدعاء لغة فقال: "وأصل الدعاء: النداء والطلب مطلقا أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب منه
…
"4.
ولكن ليس كل نداء وطلب عبادة، إلا "إذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب الظاهرة أو طلب منه ما لا ينال بالكسب، سواء كان اعتقاد السلطة له لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى. ولا يخرجه عن معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع
…
فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء
…
" كما يقول الشيخ رشيد –رحمه الله-5.
ويستدل الشيخ رشيد على كون الدعاء عبادة بالكتاب والسنة، فيقول: "وقد ذكر الدعاء في القرآن أكثر من سبعين مرة، بل زهاء سبعين مرة بعد سبعين مرة
…
"6.
وهذه الآيات الكثيرة جاءت على صور مختلفة يبينها الشيخ بقوله: "بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى وحده7، وبعضها نهي عن دعاء غيره مطلقاً8، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد9، ومنها أمثال تصور
1 مجلة المنار (12/632) .
2 المصدر نفسه (12/395) .
3 الوحي المحمدي (ص:171 وص: 239-240) .
4 مجلة المنار (2/632) .
5 المصر نفسه.
6 الوحي المحمدي (ص:171) .
7 انظر: مثلاً: سورة الأعراف، الآية (55 و80 و131) .
8 انظر: سورة يونس، الآية (197) .
9 انظر: مثلاً: سورة الأعراف، الآية (197) .
كلا منها بالصور اللائقة المؤثرة1، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب2، وأن كل ما يدعى من دونه تعالى فهو عبد له3، وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه4
…
"5.
كما أن الشيخ يستدل بالسنة كذلك فيورد بعض الأحاديث التي تدل على أن الدعاء عبادة. فيقول: و"الدعاء هو العبادة" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم6.... والمعنى أنه الركن الأعظم في العبادة على نحو "الحج عرفة" 7 وفي معنى هذا التفسير حديث أنس عند الترمذي مرفوعاً "الدعاء مخ العبادة" 8 وإسناده ضعيف يقويه تفسير للصحيح، وقد يفسرونه بالعبادة في جملتها دون أفرادها
…
"9.
أنواع الدعاء:
يقسم الشيخ رشيد الدعاء إلى قسمين: اضطراري واختياري. فالاضطراري هو ما يكون من الإنسان حال الضرورة وشدة الفزع واشتداد
1 انظر: سورة الحج، الآية (73) .
2 انظر: سورة فاطر، الآية (13/14) .
3 انظر: سورة الأعراف، الآية (194) .
4 انظر: سورة الإسراء، الآية (56-57) .
5 الوحي المحمدي (ص: 171) .
6 رواه أبو داود: الصلاة، باب: الدعاء، ح: 1479 (2/161) والترمذي: التفسير، باب: ومن سورة المؤمن، ح:/ 3247 (5/374) وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك (1/491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
7 رواه الترمذي، ك: التفسير، باب: سورة البقرة، ح: 2975 (5/214) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: ك: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح: 3015 (2/1003)، ورواه أبو داود: ك: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، ح: 1914 (2/485) .
8 الترمذي: الدعوات، باب:؛ فضل الدعاء، ح: 3371 (5/456) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. قلت: وابن لهيعة صحيح الحديث. انظر: أحمد شاكر: شرح الترمذي (1/16) حاشية.
9 تفسير المنار (/458) .
البأس والإشراف على البأس، ويعتبر الشيخ رشيد أن هذا النوع هو مقياس ومعيار الإيمان والاعتقاد بالإله. فيقول: "وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص،
…
وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معياراً للإيمان لأن من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليها في تلك الحالة بطبعه وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه، ولا توجد إمارة على الشرك أظهر من هذه الإمارة
…
"1.
ومن هذا يتبين أن شرك المتأخرين أغلظ من شرك الأولين، لأن الأولين كانوا إذا مسهم الضر والخوف دعوا الله تعالى مخلصين له الدين، وإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم. فهم لا يشركون في حالة البأس، وإنما يشركون حال الرخاء.
أما المتأخرون فإنهم يدعون الأموات حال البأس وحال الرخاء جميعاً2.
وأما القسم الثاني من الدعاء فهو الاختياري، فيقول عنه الشيخ رشيد: "
…
فإنه من الأعمال التي تزيد في الإيمان وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين
…
"3. وهذا النوع من الدعاء هو الذي يسميه السلف دعاء العبادة4.
الشرك في الدعاء:
ويقرر الشيخ رشيد أن دعاء غير الله تعالى شرك، وأن المدعو بهذا الدعاء قد اتخذ إلهاً من دون الله.
فيقول: "وشر أنواع الاعتداء في الدعاء التوجه فيه إلى غير الله ولو
1 مجلة المنار (6/408) .
انظر: محمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/24-26)، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:175)
3 مجلة المنار (6/408-409) .
4 عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد.
ليشفع عنده، لأن الحنيف من يدعو الله تعالى وحده، فلا يدعو معه غيره، كما قال:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 أي لا ملكاً ولا نبياً ولا ولياً
…
ومن دعا غير الله فيما يعجز هو وأمثاله عنه من طريق الأسباب كالشفاء من المرض بغير التداوي وتسخير قلوب الأعداء والإنقاذ من النار ودخول الجنة وما أشبه ذلك من المنافع ودفع المضار، فقد اتخذه إلهاً لأن الإله هو المعبود، والدعاء هو العبادة
…
"2. ويقول: "وكل من يدعى مثل هذا الدعاء فقد اتخذ معبوداً وإلهاً
…
"3.
ومن هذا الشرك ما نراه كثيرا من دعاء الأموات والمقبورين، زطلب الحاجات منهم، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ولا ريب أن ذلك شرك صريح، يقول الشيخ رشيد مبينا هذه البلوى: "
…
وهل يكابر أحد في دعاء الألوف والملايين من عامتنا للموتى من الصالحين، إلا إذا كان لا يخجل من إنكار المحسوسات، ألا إنهم لا ينكرونه ولكنهم يؤولونه لهم بأنهم لا يقصدون به العبادة وإنما يقصدون التوسل!! ألفلظ يلوكونها ولا يفهمونها. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"الدعاء هو العبادة" 4 أي هو الفرد الأعظم من أفرادها والركن ال: مل من أركانها، كقوله:"الحج عرفة" 5 فتجويز دعاء غير الله كتجويز الصلاة لغير الله بدعوى عدم قصد العبادة وتسميتها توسلاً أو ما يشاء أهل التأويل من الأسماء
…
"6
ولا ريب أن هذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد رأي سديد لا يخالفه فيه أحد من أهل السنة7.
1 سورة الجن، الآية (18) .
2 تفسير المنار (8/485) .
3 المصدر نفسه (8/442) .
4 سبق تخريجه.
5 سبق تخريجه.
6 مجلة المنار (12/395) .
7 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص:95 وص286) ط. الدار العلمية، الهند، والتوسل، له (ص:264) ، والعبودية، له (ص: 4) ط. مكتبة المعارف بالرياض، 1402هـ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:22)، وعبد الرحمن حسن: فتح المجيد (ص: 176) .
ثانياً: التوكل:
التوكل عمل كمن أعمال القلب، ليس بقول لسان ولا عمل جوارح. وورد في تعريفه أقوال متعددة1. والحق: أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وأول درجاته: معرفة الرب بصفاته. فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أصح وأقوى2.
والتوكل من خصائص الإلهية، فمن توكل على غير الله فقد شبه هذا المتوكل عليه بالله تبارك وتعالى3.
وقد فرض الله عز وجل هذه العبادة على عباده فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 وقال: {عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5 وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ....} 6.
وقد تناول الشيخ رشيد هذه العبارة في تفسيره وبين علاقة التوكل بالأسباب، وبين أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
فعند قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 7 وقال: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ولا يتوكلوا على غيره، لأن النصر بيده وهو الموفق لأسبابه
…
"8 وقال مبينا أن التوكل عمل قلبي: "
…
فالتوكل محله القلب"9.
1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (2/114-117) .
2 المصدر نفسه (2/117) .
3 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:27)، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:361) .
4 سورة المائدة، الآية (23) .
5 سورة آل عمران، الآية (122) .
6 الفرقان: من الآية58.
7 سورة آل عمران، الآية (122) .
8 تفسير المنار (4/207) .
9 المصدر نفسه والصفحة.
وعند قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} 1 قال: "أي إليه وحده وكلنا أمرنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا
…
وذلك أن من أصول المعرفة بالله عز وجل التي يعرفها جميع رسله أن من توكل على الله كفاه {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2
…
"3.
والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، كما يظهر - بادئ الرأي - بل إن التوكل من أقوى الأسباب لحصول المتوكل فيه، كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به4.
فيربط الشيخ رشيد بين التوكل والأخذ بالأسباب، ولا يرى تعارضا بين الأمرين لأنه كما يقول: "فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح
…
"5. ويقول الشيخ رشيد: "
…
وإن من شروط التوكل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعية ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونية والاجتماعية. فمن يترك العمل بالأسباب فهو جاهل مغرور، لا متوكل منصور ولا مأجور
…
"6.
والأخذ بالأسباب هو هدي القرآن وسنة الأنبياء. وهذا ما يبينه الشيخ رشيد مستدلاً بآيات منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} 7. وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} 8. وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 9. وقوله: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
1 سورة الأعراف، الآية (89) .
2 سورة الطلاق، الآية (3) .
3 تفسير المنار (9/7-8) .
4 ابن القيم: مدارج السالكين (2/118) .
5 تفسير المنار (4/207) .
6 المصدر نفسه (9/80) .
7 سورة النساء، الآية (71) .
8 سورة الأنفال، الآية (60) .
9 سورة البقرة، الآية (197) .
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1. قال الشيخ رشيد: "فأمرهم بالحذر مع التنبيه على أنه متوكل على الله والتذكير بوجوب التوكل عليه، فجمع بين الواجبين، وبين أنه لا ينافي بينهما
…
"2.
ويستدل الشيخ رشيد أيضا بالسنة على وجوب التوكل، وعلى عدم منافاته للأسباب. فيقول: "وأما الأحاديث الشريفة فأصح ما ورد في التوكل منها حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب
…
وقد روي بعدة ألفاظ منها "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" 3
…
وأنت ترى أنه قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرهما
…
ويلي هذا الحديث حديث "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً" 4
…
وقد استدل به على أن التوكل يكون مع السعي لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق وهي خماص البطون لفراغها وترجع ممتلئة البطون، ولم يقل أنها تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه
…
وفي الباب حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته، وفي رواية أنه قال: أأعقلها وأتوكل؟ أم أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل" 5
…
"6.
1 سورة يوسف، الآية (67) .
2 تفسير المنار (4/208) .
3 البخاري: الصحيح، ك: الطب: باب: من اكتوى
…
، ح: 5705 (10/165) مع الفتح.
4 ابن ماجه: ك: الزهد، باب: التوكل واليقين، ح:4146 (2/1394) عبد الباقي، وصححه الألباني.
5 الترمذي: ك: صفة القيامة، باب: 60، ح: 2518 (4/668) وقال: "هذا حديث غريب" وفي الباب عن عمرو بن أمية، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (10/291)، وقال: رواه الطبراني بإسنادين وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
6 تفسير المنار (4/209) .
وثمرة التوكل على الله تعالى هي الرضا وهي أعظم فوائده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي بعده فقد قام بالعبودية1.
ثالثاً: الحب:
حب الله تعالى هو حقيقة "لا إله إلا الله"2، ومن محاسن دين الإسلام - أن حب الله تعالى فيه عبادة، يتقرب بها إليه عز وجل قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3.
فأثبتت هذه الآية حب المؤمنين لربهم، وأن من أحب شيئاً من دون الله كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً في المحبة يحبهم كحبه تعالى4. ولقد بسط الشيخ رشيد القول في المحبة عند تفسير هذه الآية. فبين أن للمحبة أسباب منها: اعتقاد المحب في المحبوب صفات عالية تجذبه إليه، فيحب المؤمنون ربهم لما فيه من صفات الكمال والجلال والجمال كالقوة والقدرة والرحمة الشاملة. يقول: الشيخ رشيد: "
…
فذلك مما يجعل حبه تعالى أعلى من كل ما يحب للرجاء فيه وانتظار الاستفادة منه ولغير ذلك"5.
ويبين أن هذا الحب لا ينبغي إلا لله تعالى، فلا يلجأ إلا إليه فيقول:"ولكن متخذي الأنداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحب، فحبهم إياهم من نوع حبهم إياه جل ثناؤه.."6.
1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (2/122) .
2 انظر: ابن تيمية: العبودية (ص:4، 6) وما بعده وابن القيم: مدارج السالكين (3/18) والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:25، 26) .
3 سورة البقرة، الآية (165) .
4 ابن القيم: مدارج السالكين (3/20) .
5 تفسير المنار (3/68) وقارن: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:8) وانظر: ابن تيمية: العبودية (ص:6) وما بعدها.
6 تفير المنار (2/69) .
ويبين الشيخ الفرق بين حب المؤمنين لله تعالى وحب المشركين لأندادهم، فحب المؤمنين ثابت كامل لأنه متعلقة هو الكمال المطلق، وأما حب المشركين فموزع مزعزع لا ثبات ولا استقرار.
،أيضا فإن المؤمن الموحد محبوبا واحدا فقلبه مجتمع عليه، وشمله مؤتلف على هذا المحبوب المتصف بصفات الكمال والجلال، وأما المشرك – فيقول الشيخ رشيد عنه: "وللمشرك أنداد متعددون وأرباب متفرقون إذا حزبه أمر أو نزل به ضر لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر، أو استشفع بزيد أو عمرو، ولا يدري أيهم يسمع ويسمع ويشفع فيشفع، فهو دائما مبلل البال، لا يستقر من القلق على حال
…
"1.
ويشهد لهذا الكلام قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. أي مثل المشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء لمعبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويعاورونه في تحييره وتوزع قلبه بينهم، أما الموحد فهو الخالص لمعبوده فقلبه مجتمع عليه"3.
ومن أسباب المحبة التي يشير إليها الشيخ رشيد: الإحسان السابق، وأكبر نعمة وأعظم إحسان منّ الله به على الإنسان هي نعمة الدين، والوحي الهادي لأقوم طريق، يقول الشيخ رشيد: "فيجب أن يحب صاحب هذا الإحسان سبحانه وتعالى حبا لا يشرك به معه أحد
…
"4.
والمؤمنون يخصون الله تعالى بهذا الحب أيضا، بينما يشرك به المشركون أندادهم فيه، كما أشركوا به في الحب الذي سببه الإحسان
1 المصدر نفسه (2/69) .
2 سورة الزمر، الآية (29) .
3 انظر: أبو مسعود: إرشاد العقل السليم (7/253) .
4 تفسير المنار (2/70) .
اللاحق1. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هو المذهب الحق وعليه أهللعبادة محبة الله، بل إفراده تعالى بالمحبة، فلا يحب معه سواه وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه.."2.
رابعا: الذبح:
الذبح لله تعالى عبادة، وهو من خصائص الإلهية، فمن ذبح لغير الله تعالى فقد شبهه به وأشرك معه غيره في عبادته3. ولقد دلت على ذلك نصوص كثيرة منها قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4، فهذه الآية تعبد الله تعالى عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته ولذلك قال:{لا شَرِيكَ لَهُ} 5.
يقول الشيخ رشيد عند تفسيره لهذه الآية: "والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقرباً إليه وتعظيماً له وطلبا لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له
…
"6. ويقول مبينا كيفية تسرب الشرك في هذه العبادة، إلى أهل الكتاب والمسلمين: "وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا
1 المصدر نفسه (2م70) وقارن: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:61-62) وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:339) وعبد الرحمن بن ناصر السعدي: القول السديد (ص:95) .
2 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:61) ولنظر: أيضا: ابن تيمية: العبودية (ص:6 و35) .
3 المقريزي: تجريد التوحيد،) ص:(ص:28) .
4 سورة الأنعام، الآيتان (162 و163) .
5 عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:148) (
6 تفسير المنار (7/243) .
بقرابينهم مما شرعت له من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين وينذرونها لأولئك القديسين، وذلك كله من عبادة الشرك فمن فعلها من المسلمون1 فله حكم من فعلها من أولئك المشركين"2.
وعند قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 3، قال: "وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك
…
"4.
وقد يتوهم البعض أن النهي عن الذبح لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي التحريم للذبح تعظيما لأولياء المسلمين. وجواب هذه الشبهة من وجوه: أحدها: أن ما كان يذبح في الجاهلية أنواع: منها ما يذبح عند الأصنام، ومنها ما يذبح عند النصب، وهي حجارة مجتمعة ليس لها صورة، ومنها ما يذبح بعيداً عنها. يقول الشيخ رشيد في ذلك: "فعلم من هذه النصوص أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهل به لغير الله من حيث أنه يذبح بقصد العبادة لغير الله.. خص ما ذبح على النصب بالذكر لإزالة وهم من توهم أنه قد يحل بقصد تعظيم بيت الحرام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وحسبك أنه من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها
…
"5.
وبين الشيخ رشيد وجها آخر يرد به على هذه الشبهة فيقول: "الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة
…
ثانياً: أن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى
…
"6. يعني
1 كذا والصواب: المسلمين.
2 تفسير المنار (8/243) .
3 سورة البقرة، الآية (173) .
4 تفسير المنار (2/98) .
5 المصدر نفسه (6/146) .
6 مجلة المنار (8/193) .
وذلك موجود في الذبح للأولياء وغيرهم، وهو ينافي هذه الحكمة وهذا الإجماع.
ويستدل الشيخ رشيد رحمه الله تعالى بالأحاديث النبوية على ذلك فمنها حديث "لعن الله من ذبح لغير الله" 1، وحديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال:"كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوفِ بنذرك فإن لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم"2.
وفي هذا الحديث زيادة هي بيان عدم مشروعية الذبح في مكان كان يذبح فيه لغير الله تعالى سداً لذريعة الشرك3.
ويعد الشيخ رشيد الذبح باسم الرسول أو الولي داخلا في هذا الشرك فيقول: "
…
وقع كثير من المسلمين فيما كان عليه أولئك الضالون من مشركي العرب وغيرهم حتى الذبح لبعض الصالحين، وتسييب السوائب لهم كعجل البدوي المشهور أمره في أرياف مصر
…
"4. ويقول أيضا: "وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عنه الذبح –لا سيما النذور- باسم الله، الله أكبر ياسيد، يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه
…
ومثل ذلك السيد ذكر الرسول أو المسيح إذا لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا يشاركه في ذلك سواه، ولا يتقرب بها إلى من عداه
…
"5.
1 انظر: مجلة المنار (8/191) والحديث رواه مسلم: الصحيح: ك: الأضاحي، ح: 43 (1978)(3/1567) .
2 مجلة المنار (8/191) والحديث رواه أبو داود: ك: الأيمان والنذور، باب: ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ح: 3313 (3/607) وصححه الحافظ في التلخيص الحبير (4/180) ط. شركة الطباعة، القاهرة، ت: عبد الله اليماني، 1384هـ.
3 انظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:161) .
4 تفسير المنار (8/18) .
5 المصدر نفسه (3/98) وأيضا (6/137) .
وقد قرن الله تعالى ذكر الصلاة والأمر بها والإخلاص فيها بذكر النسك وهو الذبح واقتصر على ذلك في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
…
} 1 وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2، وجمع بينهما واقتصر عليه والسبب في ذلك –كما يقول الشيخ رشيد-: "هو كونها أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم توجه القلب إلى المعبود، والخوف منه والرجاء فيه؟، وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر
…
إن كون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضروريات الدين
…
"3.
وأما أحسن ما قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى فلا ريب أن الصلاة والذبح لا يكونان في الدين الحق –إلا لله وحده- فلا جرم أن يكون إخلاصهما توحيدا والشرك فيهما هو الشرك.
خامسا: التوسل.
معنى الوسيلة:
تدل الواو السين واللام على الرغبة والطلب4 والحاجة5
قال عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة، أي: حاجة6.
وقال لبيد: بلى كل ذي دين إلى الله واسل7، أي: راغب.
1 سورة الأنعام، الآية (162) .
2 سورة الكوثر، الآية (2) .
3 تفسير المنار (8/242-243) .
4 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (6/110) ت: عبد السلام هارون.
5 انظر: أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن (1/165) ت: سزكين.
6 نسب هذا البيت لعنترة: انظر: ديوانه: ضمن أشعار الستة الجاهليين (ص:396) ، وأبو عبيدة (1/165) .
7 البيت للبيد: ديوان لبيد (ص:28) ط. 1881 واللسان: وسل (48/724) .
وتوسل إليه بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل. وتوسّل إليه بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرةٍ تعطفه عليه 1، والجمع: وسائل. قال:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل 2
والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به 3. فعيلة من الوسل 4.
وقد ورد هذا اللفظ: "الوسيلة" في القرآن الكريم في آيتين منه: الأولى: قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5
ومعنى الآية: اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه 6.
الثانية: قوله تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
…
} 7.
والمعنى: يبتغي أيهم هو أقرب الوسيلة إلى الله، أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح 8.
فالوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها هي ما يتقرب به إليه من العبادات، واجبات أو مستحبات 9.
1 ابن منظور: اللسان (48/ 724)
2 لم يعرف قائله. انظر: محمود شاكر: حاشية الطبري (10/ 290)
3 ابن الأثير: النهاية (5/ 185)، والراغب: وسل (ص: 871)
4 انظر: الطبري: التفسير (10/ 290)
5 سورة المائدة، الآية (35)
6 الطبري (10/ 290) ت: محمود شاكر، والنحاس: معاني القرآن (2/ 303)، والزجاج: معاني القرآن (2/ 171)
7 سورة الإسراء، الآية (75)
8 انظر: الزجاج: معاني القرآن (3/ 246)، وابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79)
9 ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79) ت: د. ربيع بن هادي.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يستخدمون هذا اللفظ بهذا المعنى، كما في قول حذيفة يصف ابن مسعود رضي الله عنهما: أنه أرقب إلى الله عزوجل وسيلة 1. وفي رواية زلفى 2، وهما بمعنى واحد.
فالوسيلة إذن هي ما يتقرب به إلى الله تعالى من أنواع العبادات المشروعة، الواجبات والمستحبات، وهذا هو ما دل عليه الكتاب وهو المعروف من لغة العرب ولغة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن لقد وقع غلط وتعبير في هذا الاستعمال واصطلح فيه على معنى جديد لم يكن معروفاً عند العرب لا قبل الإسلام ولا بعده. فلقد اختصر هذا المعنى الذي دل عليه الكتاب واصطلح على أن يكون بمعنى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والقسم به علىالله تعالى، وبغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيهم الصلاح، من الأحياء وحتى من الموتى 3.
وهذا المعنى الجديد لم يكن معروفاً عند الصحابة رضي الله عنهم وإنما كانوا يفهمون من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم التوسل بدعائه وشفاعته 4.
فقد وقع في هذا اللفظ "التوسل" و "الوسيلة" إجمال واشتباه، نتيجة لهذا الاصطلاح الجديد، ووقع اشتراك في معناه بين ما كانت تفعله الصحابة وتفهمه، وبين ما لم يكونوا يفهمونه منه، ولا يفعلونه من هذا الاصطلاح الحادث 5.
وبناءً على ذلك قسم التوسل إلى مشروع، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة من الأعمال التي يتوسل بها إلى الله تعالى، وممنوع وهو ما يأذن به الله ولا رسوله مما ابتدع ولم يرد فيه نص.
فالتوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ومعنى ثالث لم ترد
1 أحمد: المسند (5/ 395)
2 المصدر نفسه (5/ 389)
3 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 80، 152، 158، 197)
4 المصدر نفسه (ص: 80، 297) وانظر أيضاً (ص: 118)
5 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79 و152 و297)
به السنة: الأول: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبطاعته. وهو أصل الدين.
والثاني: دعاؤه وشفاعته كما في قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا 1 أي بدعائه وشفاعته 2.
وأما القسم الثالث: وهو الممنوع، وهو الإقسام على الله تعالى بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم وذواتهم، فلا يدل عليه دليل من الكتاب ولا من السنة. فالقسم على الله تعالى بالمخلوق غير جائز 3. والسؤال من غير قسم ترده أدلة الكتاب والسنة 4.
تعريف الشيخ رشيد للوسيلة لغة وشرعاً:
ولقد عُني الشيخ محمد رشيد رحمه الله تعالى بمسألة التوسل ـ كل العناية ـ وبين وفصّل معانيها المشروعة والممنوعة، وأجاب على شبهات المتوسلين التي تمسكوا بها واستدلوا بمعناها على توسلهم المصطلح عليه.
فعرف الشيخ رشيد الوسيلة في اللغة مستنداً لأقوال أهلها ومحتجاً بشواهد من شعر العرب، وكلام السلف.
فعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5 قال الشيخ رشيد: "والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه، أي ما يرجى أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق المثوبة في دار كرامته. ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم
…
" 6.. ونقل المعنى اللغوي
1 البخاري: ك: الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء
…
، ح:1010.
2 ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 81)
3 المصدر نفسه (ص: 84، 212) وما بعدها.
4 المصدر نفسه (ص: 212)
5 سورة المائدة، الآية (35)
6 تفسير المنار (6/ 369)
عن المفردات ولسان العرب، بنحو ما نقلت في أول المبحث، وذكر المعاني التي أوردوها ومنها القربة والمنزلة عند الملك والحاجة وأورد ما استدلوا به من الشعر. ثم قال:"وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ويرجح به بعض التفسير بالمأثور على بعض"1.
وذكر الشيخ معنى آخر للوسيلة، الوارد في حديث الأذان من قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة" 2 وقال: "وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة. أن من معانيها المنزلة عند الملك. فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة
…
" 3. ثم بين الفرق بين معنى الوسيلة في القرآن ومعناها في السنة فقال: "فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من لعم وعمل" 4.
وربط الشيخ رشيد المعاني التي أوردها علماء اللغة بالمعاني الشرعية التي رويت عن السلف. وبين أنه لا تعارض بين الروايات المروية عن السلف في هذا. فقال معلقاً على قول الشاعر: إن الرجال لهم إليه وسيلة ـ السابق ـ: " واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة. على أنه لا ينافيه، كما لا ينافيه تفسيرها بالمحبة، فإن طلب الحاجة من الله ومحبة الله مما يتقرب به إليه. وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم وهو المطابق للغة
…
" 5.
الانحراف في معنى الوسيلة والتوسل:
وبعد ما بين الشيخ رشيد المعنى الصحيح للوسيلة لغة وشرعاً أشار
1 المصدر نفسه (6/ 370)، وانظر: المفردات: للراغب (ص: 870) ، ولسان العرب لابن منظور (48/ 724)
2 انظر: البخاري: ك: الأذان، باب: الدعاء عند النداء، ح: 614 (2/ 112) مع الفتح.
3 المصدر نفسه (6/ 370)
4 تفسير المنار (6/ 370)
5 المصدر نفسه (6/ 369)
إلى أنه قد وقع في تفسير هذا المعنى بدءاً من القرون الوسطى ـ وإن لم يحدد لنا متى حدث ذلك بالتحديد ـ إلا أنه قال: "
…
وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين المتقين، أي: تسميتهم وسائل إلى الله تعالى، والإقسام على الله بهم، وطلب الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو في حال البعد عنها. وشاع وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم مع الله تعالى أو يدعونهم من دون الله تعالى والدعاء هو العبادة
…
" 1.
ويعتبر الشيخ رشيد هذا المعنى إلحاد في أسماء الله تعالى من جهة المعنى، إذ أن الوسيلة هنا ـ في هذا الاصطلاح ـ بمعنى الإله؛ إذ معناه المعبود، أو بمعنى الرب المدبر للأمر، ويقول: فهذا إلحاد في معاني أسماء الله تعالى لا في ألفاظها
…
" 2.
ويبين الشيخ أيضاً انحراف العامة في معنى التوسل فيقول: "
…
المعروف عند عامة أهل عصرنا من معنى التوسل أن يعتمد المرء في قضاء حاجاته من جلب نفع أو دفع ضر أو نجاة في الآخرة من عذاب الله أو فوز بنعيم على أشخاص الأنبياء والصالحين، وسؤالهم ذلك أو سؤال الله تعالى بأشخاصهم أن يعطيه إياه دون العمل بما جاء به الرسل عن الله من علم اعتقادي وعمل صالح
…
وهذا التوسل مخالف لأصول الإسلام وهداية القرآن، وجارٍ على قواعد الوثنية
…
" 3.
ثانياً: في بيان الشيخ رشيد للتوسل المشروع:
ويبين الشيخ رشيد التوسل المشروع بقوله: "وإنما التوسل الصحيح هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من العلم والعمل الصالح، والتوسل بالصالحين من سلف الأمة باتباع طريقتهم في الورع والتقوى، وتحري العمل
1 المصدر نفسه (6/ 371)
2 المصدر نفسه (9/ 448)
3 مجلة المنار (27/ 421)
بالكتاب والسنة
…
" 1.
ويقول في موضع آخر: "وجملة القول أن التوسل هو التقرب، وإنما يتقرب إلى الله بما شرعه على ألسنة رسله لا بأشخاصهم، وباتباع الصالحين في ذلك لا بذواتهم، وأن غير ذل غير مشروع ومنه ما هو شرك بالله كدعاء غيره بما لا يدعى به غيره
…
ومنه ما هو ذريعة للشرك، ومنه ما هو معصية
…
" 2.
ويعتمد الشيخ رشيد على شيخ الإسلام ابن تيمية في بيانه المعاني المرادة بلفظ التوسل، وما هو صحيح منها وما هو باطل، فينقل عن قاعدة جليلة ـ والذي طبعه الشيخ مرتين 3 ـ نقلاً طويلاً أقتصر منه على قوله: "فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معانٍ:
أحدها: التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياتهن ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ولا في حياته ولا بعد مماته؛ لا عند قبره ولا عند غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة
…
" 4.
وننتقل من قول شيخ الإسلام في أدلة وشبهات المجوزين للتوسل الممنوع، إلى عرض الشيخ رشيد لهذه الشبهات وجوابه عليها.
1 المصدر نفسه (6/ 907)
2 المصدر نفسه (27/ 421)
3 انظر: تفسير المنار (6/ 371) وأيضاً: مجلة المنار (12/ 624)
4 تفسير المنار (6/ 372) وقارن مع ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 81) وما بعدها.
ثالثاً: حجج المتوسلين:
اعتمد أهل التوسل الممنوع على شبهات وروايات إما صحيحة لا تدل على ما ذهبوا إليه، أو تدل عليه ولكنها ضعيفة لا تقوم بها حجة. ومن هذه الأحاديث:
حديث عثمان بن حنيف؛ "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك" فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ن ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ وشفعني فيه. قال: ففعل الرجل، فبرأ"1. فاستدلوا به على التوسل بالذوات 2.
وقد أجاب الشيخ رشيد عن هذا الاستدلال بعد أن ذكر مخرجيه، فقال: "
…
والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بشخصه ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته، فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته دعاء لم يصح عند أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، إذ قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا 3
…
ولو كان التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعاً معروفاً عندهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس رضي الله عنه
…
" 4.
1 أحمد: المسند (4/ 138)، والحاكم: المستدرك (1/ 313)، والترمذي: ك: الدعوات، باب: 119، ح: 3578، وقال: حسن صحيح غريب.
2 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 129و 262)،وقاعدة جليلة (ص: 115 و258)
3 سبق تخريجه (ص:) من هذا البحث.
4 مجلة المنار (30/ 110)
وهذا الجواب جواب صحيح، فالمراد من حديث الأعمى هو المراد في حديث الاستسقاء بالعباس، وهو التوسل بالدعاء، وهو من التوسل الجائز المشروع. قال شيخ الإسلام: "
…
إنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وقال في آخره: اللهم فشفعه فيّ، فعلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته
…
"1.
ولو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائزاً بعد موته لما عدل الصحابة عن التوسل به إلى التوسل بمن دونه كالعباس وغيره. فعلم أنهم إنما كانوا يتوسلون بدعاء النبي وشفاعته، ولذلك فإنه يجوز التوسل بدعاء من دون النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم.
حديث خطيئة آدم:
ومن الحجج التي يرددها أهل التوسل الممنوع، الحديث الموضوع الذي يروى أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وجرى ما جرى استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله
…
الحديث 2.
والحق أن هذا الحديث موضوع ولم يخرج في كتب السنة التي تعتمد الصحيح أو ما يقاربه، وإنما روي وحكم عليه المحدثون بالوضع.
وهذا ما قاله الشيخ رشيد فيه: "
…
منها الحديث الموضوع الذي يتخذه هذا الشيخ 3 وأمثاله من القبوريين حجة على ما يسمونه التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وسؤال الله تعالى بحقهم عليه وبأشخاصهم وهو ما رواه الحاكم في مستدركه عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً أنه "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي،
1 الرد على البكري (ص: 263)
2 المصدر نفسه (ص 4) وما بعدها، وانظر: مجلة المنار (32/ 312)
3 يريد أحد المشايخ المجيزين للتوسل وقد أشار إليه السائل.
قال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" 1.
وقد أطال الشيخ رشيد في الرد على من احتج بهذا الحديث وزعم صحته، بناءً على تصحيح الحاكم له، وإن تعقبه الذهبي وحكم بوضعه. فقال:"قال الدجوي 2 إن الذهبي في التلخيص لم يزد على قوله: "بل هو موضوع وعبد الرحمن بن زيد واه" وأقول: بل زاد على ذلك أن قال بعده: رواه عبد الله من مسلم الفهري ولا أدري من ذا؟...."3.
وقال أيضاً: "
…
ذكر الدجوي أهون ما قال أهل الجرح والتعديل في جرح عبد الرحمن بن زيد واحتج به على أن حديثه غير موضوع، وأنه قد يكون صحيحاً إذ قال: معلوم أن الذي يغلب عليه الوهم قد يصح حديثه إلخ، وأقول في تفنيد قوله هذا: إن عبد الرحمن ليست علة ضعفه غلبة الوهم عليه كما زعم، بل أهون ما قالوا فيه أنه واه وضعيف جداً وأنه لا يعقل ما يروي، وكان الشافعي يهزأ بخرافاته عن أبيه ويجعلها مضرب المثل في الكذب
…
" 4.
وأيضاً من أوجه الطعن التي ذكرها الشيخ رشيد في سند هذا الحديث قوله: "إن القاضي عياض 5قد ذكر حديث آدم هذا في الفصل الأول من
1 الحاكم: المستدرك ()، وانظر: مجلة المنار (32/ 310 ـ311)
2 هو الشيخ يوسف الدجوي، محرر باب الفتوى في مجلة الأزهر "نور الإسلام".
3 مجلة المنار (32/ 312)
4 المصدر نفسه (32/ 313)
5 هو: عياض بن موسى اليحصبي، الإمام العلامة شيخ الإسلام، توفي: 544هـ. انظر: السير (20/ 212)
الجزء الأول من الشفاء 1 حكاية عن أبي محمد المكي 2 وأبي الليث السمرقندي 3 وهما من الذين يكثرون من حكاية الموضوعات لم يروه عن أحد من أهل الحديث ولا عزاه إلى كتبهم." 4.
والطعن في سند هذا الحديث ـ بحق ـ هو أحد السبل في الجواب عما ادعاه المتوسلون، وفي الجواب عنه أيضاً أوجه أخرى منها: أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي التي تيب عليه بها كما قال تعالى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ
…
} 5 الآية.
وقد قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
…
} الآية 6.فأخبر الله تعالى أنه أمرهم بالهبوط بعد هذه الكلمات التي تيب بها عليه، فمن ذكر أو ادعى أن هذه الكلمات غير التي ذكرها الله في القرآن لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن 7.
ووجه آخر وهو: أن قولهما {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 8 يتضمن الإقرار والاستغفار ومن ندم واستغفر وتاب غفر له وإن كان دون آدم عليه السلام. فحصل بها المقصود ولم
1 انظر: الشفا: الجزء الأول (ص: 138) وهو في الباب الثالث. ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1995م.
2
3 الإمام الفقيه المحدث الزاهد: نصر بن محمد بن إبراهيم، توفي 375هـ. السير (16/ 322)
4 مجلة المنار (32/ 313)
5 سورة البقرة، الآية (37)
6 سورة الأعراف، الآية (23)
7 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 10)
8 سورة الأعراف، الآية (23)
يحتج لغيرها 1.
حديث آخر وجواب الشيخ رشيد عليه:
ومما احتج به أهل التوسل الممنوع ـ ولا حجة لهم فيه ـ الحديث الذي رواه أحمد 2 وابن ماجه 3 وفيه: "من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا
…
" الحديث.
وهذا الحديث ضعيف الإسناد 4 كما أن لفظه ليس فيه حجة على ما ادعوه، فإنه سؤال بحق السائلين، وحقهم على الله تعالى أن يجيب من سأله ودعاه كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 5 فهذا حقهم أوجبه الله تعالى على نفسه.
وأما حق المشي إلى الصلاة فهو حق العابدين على الله تعالى أن يثيبهم، فهذا سؤال وتوسل بالعمل الصالح وهو جائز لا ريب، فهو من التوسل المشروع لا الممنوع 6.
ولقد أجاب الشيخ رشيد عن هذا الحديث نحو ما ذكرته فقال بعد ذكره للفظ الحديث: "
…
وهو من طريق عطية العوفي 7 وقد ضعفه أ؛ مد والجمهور
…
على أن معنى الدعاء المذكور لو صح لا يدل على توسل بالأشخاص، فإن حق السائلين على الله تعالى أن يستجيب دعاءهم كما وعد بقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 8 فكأنه يقول: أسألك بوعدك
1 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 10ـ 11)
2 المسند (3/ 21)
3 ابن ماجه: السنن، ك: المساجد، باب: المشي إلى الصلاة، ح: 778 (1/ 256) عبد الباقي، وضعفه الألباني: الضعيفة (ص: 24)
4 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 215) ت: د. ربيع المدخلي.
5 سورة البقرة، الآية (186)
6 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 215، 277) وما بعدها.
7 انظر ترجمته في تقريب التهذيب (2/ 24) ، والميزان (3/ 79 ـ 80)
8 سورة غافر، الآية (60)
الحق أن تستجيب دعائي، وحق الصالحين عليه 1 أن يثيبهم على صلاحهم كما وعد في آيات كثيرة ومنه توسله بممشاه إلى الصلاة بالصفة التي ذكرها فهو توسل بعمل صالح من أعماله لا بشخص عامل آخر" 2.
وهذا الحديث هو كحديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله تعالى بصالح عملهم بعدما أطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار 3 فكل توسل بعمل صالح عَمِلَه، وهو جائز لا ريب.
التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم:
ويحتج المتوسلون بحديث موضع آخر هو "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" 4 ومع أن جاهه صلى الله عليه وسلم أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، إلا أن هذا الحديث كذب وليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث. قال شيخ الإسلام ـ بعد إثباته وجاهة النبي وقدره صلى الله عليه وسلم: "
…
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه
…
" 5.
قال الشيخ رشيد: "هذا الحديث موضوع لا أصل له، ولا يمكن أن تجده في شيء من دواوين السنة لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد، ويذكر بلفظ "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة وغيره: هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث
…
"
1 ليس هذا في روايتي أحمد ولا ابن ماجه، وإنما هو لفظ السؤال الموجه إلى الشيخ رشيد فلعله أجاب عنه احتمالاً ورداً لكل وجه.
2 مجلة المنار (27/ 423)
3 انظر: البخاري، ك: الإجارة، باب: من استأجر أجيراً فترك أجره، ح:2272.
4 لا يوجد هذا الحديث في شيء من كتب السنة. انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 11 وص: 45)
5 قاعدة جليلة (ص: 254)
ونقل الشيخ رشيد النص الذي نقلته آنفاً عن شيخ الإسلام 1.
ومثل السؤال بجاه النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بحقه، فلا حق لأحد على الله تعالى إلا ما كتبه على نفسه، وهذا ما يقرره الشيخ رشيد: فعند قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} 2 قال الشيخ رشيد: "
…
وكانت اليهود تستفتح على مشركي العرب بالنبي المنتظر يقولون: إنه سيظهر فينصر كتابه التوحيد الذي نحن عليه ويخذل الوثنية التي تنتحلونها
…
وشذ بعضهم
…
فقال: إنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة والإنجيل ـ فكانوا ينصرون وفيه روايات ضعيفة عن ابن عباس 3 لم يعرج ابن كثير على شيء منها ولعله لأنها على ضعف روايتها ومخالفتها للروايات المعقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدعى به
…
" 4.
ومن الجهود التي بذلها الشيخ رشيد ـ رحمه الله تعالى ـ في محاربة التوسل الممنوع، نشر الكتب السلفية التي تتناول هذه المسألة معتمدة على الكتاب والسنة، ولقد سبق أن ذكرت أن الشيخ رشيد طبع كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام مرتين، وطبع أيضاً سنة 1324هـ الموافق 1906م كتاب "فصل المقال في توسل الجهال" الذي ألفه الشيخ الموحد أبو بكر خوقير الكتبي أحد علماء مكة المكرمة 5.
وكذلك طبع الشيخ رشيد كتاباً لأحد الطلبة النجديين بالأزهر يرد فيه
1 مجلة المنار (27/ 421)
2 سورة البقرة، الآية (89)
3 انظر: الدر المنثور ()
4 تفسير المنار (1/ 380 ـ 381)
5 انظر: مجلة المنار (9/ 824) ، وللشيخ أبي بكر خوقير جهاد معروف في سبيل دعوة التوحيد، أوذي بسببها وأودع السجن بسبب مؤلفاته التي تنشر دعوة التوحيد وتؤيدها. انظر: مجلة المنار (31/ 240 و320)
على أحد كبار علماء الأزهر المجيزين للتوسل، واسم الكتاب "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية" لمؤلفه الشيخ عبد الله بن علي النجدي القصيمي. وطبع سنة 1350هـ.
ويتكون من مقدمة وأربعة أبواب، وفي المقدمة تعريف كلمة الوسيلة، وتقسيم التوسل إلى ممنوع ومشروع، وهو أحد عشر نوعاً.
والباب الأول في الرد على ما استدل به المتوسلون التوسل الممنوع من أدلة القرآن. والثاني: في إبطال ما ادعي من أدلة السنة، والثالث: في الأدلة العقلية، والرابع: في أقوال العلماء 1.
وبهذا يكون الشيخ رشيد قد أحسن في بيان توحيد الألوهية عموماً ووضّح العبادة وحقيقتها ووجوب إخلاصها لله تعالى وحده، ومن أهم مظاهرها الدعاء والتوسل. وقد سلك كل سبيل لنشر هذه الدعوة معتمداً على كتب السلف لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته.
1 انظر: مجلة المنار (32/ 308) وما بعدها.
المبحث الثاني: نفي الشرك ومظاهره
تميهد
…
تمهيد:
الشرك بالله تعالى جامع المساوئ وكلية الرذائل، فهو معصية لا تجدي معها طاعة، ومنقصة لا يجزي عنها كمال، وضعة لا يقوم منها عز وسفه لا ترشد به النفس، ولولا الجهل ما نجم له قرن، ولولا الوهم ما قام له عود.
والباحث في أسباب رقي الأمم وانحطاطها، لن يجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول وأقوم للأخلاق، وأحفظ للحياة وأضمن للسيادة، وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة وتحقيقاً للمدنية الفاضلة.
ولن يجد كالشرك أدل على ظلمة النفوس والقلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولا شيء كهذه النقائص أذهب للبأس، وأضر بالاتحاد وأضعف للقوة وأذل للشعوب.
ولن أحيلك في المثال على الماضي البعيد أو القريب ولكن أحيلك على الواقع المشاهد، حيث أصاب الأمة ما أصابها، بسبب الشرك وانتشاره، فتداعت عليها الأمم، وأطبقت عليها الظُلَم، ولم يسلم منها إلا الأرض التي خلت من الشرك فعزت، وقامت بالتوحيد فبزت 1.
1 عز فبز: أي غلب فسلب. مختار الصحاح (ص: 21) ، وأشير بذلك إلى جزيرة العرب.
ولذلك فقد بين الله تعالى لنا في كتابه أن أول ما يدعو إليه الأنبياء والمرسلون هو توحيد الله، وأول ما ينكرونه على قومهم الشرك ومظاهره.
وبيان العلماء لمسائل الشرك آداء للأمانة، ورجاء لصلاح حال المسلمين، وفائدة ذلك للموحدين مخافة أن يدركهم، فهو من النصيحة المفيدة الحميدة، وليس الإرشاد إلى الخير بأولى من التنبيه على الباطل الضار، وبضدها تتبين الأشياء، والضد يظهر حسنة الضد.
ولقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الشرك به في كثير من الآيات كقوله تعالى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 1 أي: شيئاً من الأشياء أو شيئاً من الإشراك 2.
وقوله سبحانه:
فبيان العلماء للشرك ومظاهره، من الميثاق الذي أخذه الله عليهم، كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ
…
} 4.
وكان من هؤلاء العلماء الذين بينوا الشرك وخطورته وعرفوا حقيقته وحذروا من مظاهره الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى.
1 سورة النساء، الآية (36)
2 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (5/ 82)
3 سورة الكهف، الآية (110)
4 سورة آل عمران، الآية (187)
والشرك: كالشريك، والجمع: أشراك وشركاء" 1.
ويطلق أيضاً على النصيب، قال الأزهري:"الشرك بمعنى الشريك، وهو بمعنى النصيب، وجمعه: أشراك، كشبر وأشبار"2.
وقال الراغب: "الشركة والمشاركة خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعداً، عيناً كان ذلك الشيء أو معنى
…
" 3.
وكما لا تقتضي الشركة لغة تساوي الشركاء في الحصص، لا يقتضي الشرك شرعاً مساواة الشريك في جميع صفاته أو في صفة منها، بل يكون الشرك بإثبات الشريك لله تعالى ولو كان دونه في القدرة والعلم مثلاً 4.
وشرعاً هو: صرف شيء من خصائص الألوهية والربوبية لغير الله تعالى 5.
حقيقة الشرك:
ويبين الشيخ رشيد حقيقة الشرك بأنه: "الخضوع لسلطة غيبية وراء الأسباب والسنن المعروفة في الخلق بأن يرجى صاحبها ويخشى منه ما يعجز المخلوقات عن مثله، وهذه السلطة لا تكون لغيره تعالى فلا يرجى غيره ولا يخشى سواه
…
" 6.
ويفرق الشيخ رشيد بين الشرك والتعطيل، أي الإلحاد، فالشرك بالله يكون مع الإيمان به تعالى: أما التعطيل فهو إنكار وجود الإله أصلاً، والنهي عن الشرك يستلزم النهي عن التعطيل بطريق الأولى 7.
1 ابن منظور: لسان العرب (10/ 448) مادة: شرك.
2 تهذيب اللغة (10/ 17) مادة: شرك.
3 المفردات (ص: 451) مادة: شرك.
4 الميلي: الشرك ومظاهره (ص: 64)
5 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 27)
6 تفسير المنار (5/ 82)
7 المصدر نفسه والصقحة، وقارن مع المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 24 ـ 25)
المطلب الأول: تعريف الشرك:
يطلق الشرك في اللغة على المخالطة والمصاحبة، قال في اللسان: "الشِرْكة والشَرِكة سواء مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر، والشريك: المشارك،