الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: الحسن والقبح:
ومما يتعلق بمسألة الحكمة والتعليل، مسألة الحسن والقبح العقلي والشرعي.
فيذهب المعتزلة إلى أن في الأشياء حسن وقبح عقلي، يدرك بالعقل 1، وذهب الأشعرية إلى أنه لا يوجد في الأشياء حسن وقبح ذاتي يدرك بالعقل، بل الحسن ما حسنه الشرع والقبح ما قبحه الشرع، ولو عكس الشرع ذلك لانعكس ولصار القبيح حسناً والحسن قبيحاً 2.
وهناك قول ثالث ـ وهو الحق ـ وهو: أن الأفعال تتصف بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يُعاقِب أحداً إلا بعد بلوغ الرسالة لا بمجرد الدلالة العقلية.
قال شيخ الإسلام: "وهذا أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة، قبل مجيء الرسول إليهم، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم.."3.
1 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص:564)، وانظر: الشهرستاني: الملل والنحل (1/39)
2 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص:149 ـ 150) والإيجي: المواقف (ص:)
3 درء التعارض (8/493)
ويعرض الشيخ رشيد رضا هذه الآراء مشيراً إلى هذه المسألة ـ الحسن والقبح ـ بمسألتي الحكمة والتعليل، مشيراً إلى سبب افتراق المعتزلة والأشعرية في هذه المسألة وهو الغلو، فيقول:" غلت القدرية في مسألة الحكمة في الخلق والتكوين، والأمر والتشريع، وغلت الجبرية في مسألة المشيئة والإرادة، فهؤلاء جوزوا أن تخلو المشيئة عن الحكمة، وأولئك قيدوا مشيئة الرب بما يصل إليه أفهامهم من الحكمة، وإن كان كل منهما يؤمن بالصفتين كلتيهما.."1.
ثم يبين الشيخ رشيد أن النزاع في مسألة الحسن والقبح مبني على الخلاف في الحكمة والتعليل، مبيناً مذهب الفريقين، قائلاً: ".. ونزاعهم الطويل العريض في مسألة الحسن والقبح والتحسين والتقبيح مبني على ذلك، فالغلاة في إثباتها قالوا: إن في كل فعل يقع التكليف به فعلاً أو تركاً حسناً أو قبحاً ذاتياً يغرف بالعقل ويأتي بالشرع كاشفاً لحسن المأمور به، وبالنهي كاشفاً لقبح المنهي عنه، ولا يكون شيء حسناً بمجرد الأمر، ولا قبيحاً بمجرد النهي، والغلاة في نفيها قالوا: لا حسن ولا قبح ذاتياً في شيء من الأشياء يكون مناط التكليف، وسببه وسبب ما يترتب عليه من الثواب والعقاب وإنما ذلك بالشرع وحده
…
والقول الأول أقرب إلى المعقول والمنقول، ولكن وقع كثير من القائلين به في الإفراط والغلو
…
" 2.
ويظهر من هذا النقل أن الشيخ رشيد رضا يقول بالحسن والقبح العقلي. وهذا هو الواقع، فإن الشيخ رشيد يذهب إليه ويقول به صراحة ولكنه يشير إلى الفرق بين قول أهل السنة وقول المعتزلة المتفقين معاً في هذه المسألة خلافاً للأشعرية.
فأولاً: يعرف الشيخ رشيد المعروف والمنكر، قائلاً: "والمعروف ما تعرف العقول السليمة حسنه، وترتاح القلوب الطاهرة له، لنفعه وموافقته
1 تفسير المنار (8/ 54)
2 المصدر نفسه (8/ 55)
للفطرة والمصلحة بحيث لا يستطيع العاقل المنصف السليم الفطرة أن يرده أو يعترض عليه إذا ورد الشرع به.
والمنكر ما تنكره العقول السليمة وتنفر منه القلوب وتأباه على الوجه المذكور أيضاً
…
" 1.
وهذا التعريف من الشيخ فيه إثبات للحسن والقبح العقلي، ثم يرد الشيخ رشيد تفسير الأشعرية لهذين المصطلحين باضطلاع خاص بهم فيقول: "وأما تفسير المعروف بما أمرت به الشريعة والمنكر بما نهت عنه فهو من قبيل تفسير الماء بالماء
…
" 2.
ثم بين الفرق بين قوله بالتحسين والتقبيح وبين قول المعتزلة، الموافقة لقوله، فيقول: "وكون ما قلناه يثبت مسألة التحسين والتقبيح العقليين وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشعرية مردود إطلاقه بأننا إنما نوافق كلاً منهما من وجه ونخالفه من وجه اتباعاً لظواهر الكتاب والسنة وفهم السلف لهما، فلا ننكر إدراك العقول لحسن الأشياء مطلقاً، ولا نقيد التشريع بعقولنا، ولا نوجب على الله شيئاً من عند أنفسنا، بل نقول إنه لا سلطان لشيء عليه فهو الذي يوجب على نفسه ما شاء إن شاء، كما كتب على نفسه الرحمة لمن شاء، وإن من الشرع ما لم تعرف العقول حسنه قبل شرعه، وإن كل ما شرعه تعالى يطاع بلا شرط ولا قيد
…
" 3.
فالقول الوسط بين قولي المعتزلة والأشعرية هو ما يلخصه الشيخ رشيد موضحاً أنه مذهب السنة، وهو:"أن صفات الله تعالى لا تعارض بينها، فلا تتعلق مشيئته تعالى بما ينافي حكمته وعدله ورحمته، وحكمته لا تقتضي تقييد مشيئته بما نفهمه ونعقله نحن منها بحيث نوجب عليه بعض الأوامر أو الأفعال ونحظر عليه بعضها، وإنما نعتقد إن كل ما يأمر به فهو حسن، وأنه لا يأمر إلا بما هو حسن، ولا ينهى إلا عما هو قبيح.."4.
1 تفسير المنار (9/ 227)
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 تفسير المنار (8/ 55)
وهذا الموقف من الشيخ رشيد رضا موقف صحيح إذا التفصيل هو الحق في الخلاف بين المعتزلة والأشعرية. وربط رشيد رضا بين هذين المبحثين الحسن والقبح والحكمة والتعليل هو الصواب. قال ابن القيم: "وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين، إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهي لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر والنهي"1.
1 مفتاح دار السعادة (2/ 49 ـ 50)