الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الموت والبرزخ:
الموت هو أول منازل الآخرة، قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 1، قال الشيخ رشيد: "المعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو: أن كل حي يموت، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه، ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين
…
" 2. ولدي هنا أيضاً دليل آخر على رفض الشيخ رشيد لطريقة المتكلمين واصطلاحاتهم، وهو يشير هنا إلى اختلافهم في تعريف النفس والروح والموت، ومعنى أن النفس تذوق الموت: أي هل تموت النفس أولاً؟ وكل ذلك من الاصطلاحات الفلسفية التي دست في كتب المسلمين، لذا فإن الشيخ رشيد يرفضها ويقول: "ومن العبث والجهل البحث في تعريف الموت، فالموت هو الموت المعروف لكل أحد
…
" 3.
1 سورة آل عمران، الآية (185)
2 تفسير المنار (4/ 270)
3 المصدر نفسه (4/ 270 ـ 271)، وانظر: الخلافات المشار إليها: الأشعري: مقالات الإسلاميين (2/ 28 ـ 30)، والجرجاني: التعريفات (ص: 211) ط. الحلبي، وابن القيم: الروح (ص: 272) ت: الجميلي، ط. دار الكتاب.، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 570) ط. التركي.
ويبين الشيخ رشيد المراد بعذاب القبر فيقول: "والمراد بعذاب القبر ما يسمونه عذاب البرزخ أي ما بين الموت والحشر يوم القيامة سواء دفن الإنسان في قبر أم لا"1.
وقد تواترت الأحاديث التي تثبت عذاب القبر 2، وأجمع أهل السنة على ثبوته، بينما أنكره الملاحدة ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة من المسلمين كابن سينا ومن نحا نحوه، وكذا أنكرته الخوارج وبعض المعتزلة 3.
وتبعاً لأهل السنة يثبت الشيخ رشيد عذاب القبر، ويذكر أن إنكاره ينسب للمعتزلة ولكن "الزمخشري" 4 وهو من أساطينهم يرد استدلالهم 5.
كما يثبت الشيخ رشيد حياة الشهداء في البرزخ غير أنه يقول: "إنها حياة غيبية لا نبحث عن حقيقتها ولا نزيد فيها على ما جاء به خبر الوحي شيئاً
…
" 6. ورفض الشيخ رشيد تأويل المعتزلة للنصوص التي تثبت هذه الحياة، كما رفض أيضاً ـ وعلى قدم المساواة ـ قول من قال: "إنهم أحياء بأجسادهم كحياتنا الدنيا يأكلون ويشربون وينكحون في قبورهم كسائر أهل الدنيا" 7.
وأما وقوع عذاب القبر على الروح والجسد جميعاً، أو أحدهما دون الآخر، فيذهب الشيخ رشيد في ذلك مذهب أهل السنة، وهو وقوع العذاب على الإنسان كله ـ روحه وجسمه ـ فبعد أن ذكر الخلاف بين المعتزلة ـ الذين يقولون بنفي عذاب القبر ـ على الروح والجسد جميعاً، وبين من يقول
1 مجلة المنار (26/ 500)
2 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 578)
3 انظر: سليمان دنيا: مقدمة شرح الدواني على العقائد العضدية (ص:20ـ 21 و17 ـ 18)، وانظر: الأشعري: المقالات (2/ 166)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 245)
4 هو: أبو القاسم جار الله محمود بن عمر، العلامة المعتزلي، المفسر النحوي، كان رأساً في البلاغة والعربية والمعاني والبيان. انظر: الذهبي: السير (20/ 151ـ 156)
5 انظر: تفسير المنار (4/ 271)
6 المصدر نفسه (4/ 233)
7 المصدر نفسه والصفحة.
به ويثبته على الروح فقط، قال: "
…
ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به، وهو أن نقول أن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر البرزخ والآخرة حق نؤمن به ونفوض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم وأن الأجساد لباس لها، وآلات لتوصيل بعض اللذات والآلام
…
" 1.
وقال في موضع آخر: "الإحساس بالألم أو اللذة من شأن الأحياء والجسد لا حياة له إلا بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد وصل إليها الألم بواسطته يصح أن يقال: إن هذا الألم ألمّ بالروح والجسد وإن كان الشعور للروح وحدها
…
فعلم بهذا أن قول العلماء: عن عذاب القبر ـ أي الألم الذي ينزل بالإنسان بعد الموت وإن لم يقبر ـ يكون على الروح والجسد: يتضمن القول بأنه يبقى للروح بعد الموت علاقة، واتصال بمادة الجسد الذي كانت فيه وإن تفرقت هذه المادة وانحلت إلى أجسام كثيفة وغازات لطيفة
…
" 2.
ويرى رشيد رضا أن عذاب القبر غير دائم، مستدلاً ببعض نصوص الكتاب والسنة، فيقول: "فظواهر النصوص تدل على أنه غير دائم، منها قوله تعالى في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 3 قالوا: هي في عذاب البرزخ بدليل ما بعدها، وما ورد من دوام عذاب جهنم، ومنها ما ورد في الصحيحين من خبر اللذين يعذبان في قبورهما وأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع جريدة خضراء شقها وغرزها على كل قبر منهما لما يرجى أن يكون سبب التخفيف عنهما 4
…
" 5. وهذا الذي ذهب إليه رشيد رضا في هذه المسألة
1 مجلة المنار (8/257)
2 مجلة المنار (5/ 946)، وانظر:(26/ 500)
3 سورة غافر، الآية (46)
4 رواه البخاري: الصحيح، ك: الوضوء، باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله، ح: 216 (1/ 379)
5 مجلة المنار (26/ 500)
هو الموافق لأدلة الشرع ومذهب أهل السنة 1.
وهل ينجو أحد من عذاب القبر؟ يقول رشيد رضا: "ورد في بعض الأحاديث أن بعض الأعمال الصالحة تنجي فاعلها من فتنة القبر وعذاب القبر، كالرباط في سبيل الله 2، وقراءة سورة تبارك 3"4.
ولا ريب أن الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن كالصلاة والصيام والزكاة وسائر أعمال البر قد تكون سبباً لنجاته من هذه الفتنة 5.
وأود أن أختم الكلام هنا بقاعدة للشيخ رشيد تتعلق بالإيمان باليوم الآخر وتشبه قاعدة سابقة قرر الشيخ رشيد أنها قاعدة السلف في إثبات صفات الله تعالى. يقرر الشيخ رشيد هنا أن "مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب والسنة من أحوال الآخرة لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه، ولا نحكم على الغيب إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة
…
" 6. فالشيخ رشيد هنا يقرر قاعدة تفويض الكيفية فيما يغيب عن عين الإنسان ومدركاته، ويجب الإيمان به في نفس الوقت، وهي قاعدة سلفية صحيحة، سبق تقريرها في الباب الأول من هذا البحث، وبينت هناك موقف الشيخ رشيد منها وأنه كان ـ وهو هنا أيضاً ـ موقف صحيح.
1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 296 ـ 299)
2 الترمذي: ك: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فض من مات مرابطاً، ح: 1621، وقال: حسن صحيح (4/ 165)
3 انظر: الترمذي: السنن، ك: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل سورة الملك، ح: 2890 و2891 (5/ 164)، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (7/ 127 ـ 128)، وقال الترمذي: حسن غريب.
4 مجلة المنار (26/ 500)
5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 375)
6 مجلة المنار (8/ 257)، وانظر أيضاً: المصدر نفسه (5/ 946) ، وأيضاً (7/ 856) و (26/500)، وانظر كذلك: تفسير المنار (4/ 233)