الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: موقف رشيد رضا من الفرق في القدر
…
اتخذ رشيد رضا موقفاً رافضاً لموقف الفرق المختلفة في القدر، بدءاً من القدرية الأولى التي أنكرت العلم إلى المعتزلة التي أثبتته وأنكرت حجيته كما أنكرت الإرادة. ومروراً بالجبرية إلى الأشعرية الذين تمذهبوا بمذهب الجبر مع تبرئهم من اسمه. كما رفض طريقة المتكلمين النظرية في هذه المسألة ـ كما رفضها في غيرها من المسائل ـ.
يشير رشيد رضا أولاً إلى أن عقيدة القدر لها شأن عجيب، لأن عامة الناس أعلم بها من المتكلمين لأنها "بديهية عوملت معاملة النظريات، والبديهي كلما زاد البحث فيه بَعُد عن الإدراك
…
" 1. والسبب في ذلك "أن علماء الكلام سلكوا الطريقة النظرية العقلية في الرد على المخالفين من الملاحدة والمبتدعة، ورد الأشاعرة على المعتزلة والقدرية والجبرية. والمسائل النظرية مثار الشبهات والإشكالات وبذلك دخلت مسألة القضاء والقدر في قالب فلسفي نظري وكثر فيه القيل والقال، والقرآن فوق ذلك كله،
…
وإنما هي مباحث فلسفية تتعلق بقدرة الله وإرادته وبخلق الإنسان وغرائزه
…
ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها فلاسفة المسلمين من أهل الكلام والتصوف إلا وقد قال بمثلها غيرهم ويقول بها بعض علماء أوربة اليوم
…
" 2.
1 مجلة المنار (3/ 491)
2 المصدر نفسه (12/ 197)
ولذلك فإن هذه المسألة ليست خاصة بالمسلمين وحدهم بل وجدت هذه المسألة في الأديان القديمة والفلسفات السابقة على الأديان، فالسؤال عن القدر وارد على جميع أهل الملل والفلسفة لأنه مسألة قديمة منذ خلق الإنسان، لذلك فإن رشيد رضا يرد على من يعد القدر شبهة على دين الإسلام، فإنه ليس كذلك، ولو كان كذلك لكان شبهة على كل ذين وكل فلسفة 1. ولا ريب أن الحل الإسلامي لمسألة القدر وبيان القرآن له لا يدع للملحد قولاً.
وبين رشيد رضا نشأة الكلام في القدر عند المسلمين، وأشار إلى بدعة القدرية الأولى التي نفت علم الله تعالى، وزعمت أن الأمر أنف أي:"أن الله تعالى يستأنف ويبتدئ ما يريد إيجاده، كل شيء في وقته"2. كما كان من مذهبهم "أن الإنسان إذا فعل شيئاً فإنما يفعله أنفاً أيضاً من غير أن يكون لله تعالى علم سابق بذلك
…
فالإنسان مستقل بذلك تمام الاستقلال" 3.
وأشار رشيد رضا إلى أن هذه البدعة قد حدثت في عصر الصحابة وأن أول من تلقاها هو "معبد الجهني" 4 وأنه أخذ هذه المقالة عن رجل مجوسي اسمه "سيسويه" 5 وذكر رشيد رضا أن السلف كفر هذه الفرقة 6.
ثم إن المتأخرين من القدرية ـ وهم المعتزلة ـ أقروا بالعلم ـ كما يقول ـ: "إن المتأخرين منهم اعترفوا بأن لله تعالى علماً أزلياً بالأشياء ولكنهم أنكروا أن يكون له إرادة تتعلق بأفعال العباد مع أن معنى الإرادة هو وقوع الفعل من العالم على حسب علمه" 7 ويعني بذلك أنهم متناقضون في إثباتهم العلم وإنكارهم للإرادة.
1 انظر: مجلة المنار (12/ 197 ـ 198)
2 المصدر نفسه (12/ 196)
3 المصدر نفسه.
4 هو: معبد بن عبد الله الجهني ـ نزيل البصرة، وأول من تكلم بالقدر زمن الصحابة، في عداد التابعين، وكان من علماء الوقت على بدعته. الذهبي: السير (14/ 185)
5 مجلة المنار (12/ 196) وقارن مع: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 591)
6 مجلة المنار (12/ 196)، وقارن مع: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (4/ 707 ـ715)
7 مجلة المنار (12/ 196)
ثم يتحدث عن الجبرية – بعد ما أشار إلى مذهب القدرية – فيقول: "غلا أولئك فوقفوا في طرف وعبدوا الله على حرف فجاء بعدهم آخرون وقفوا على الطرف المقابل لطرفهم، وهم الجبرية، فقالوا: إن الإنسان ليس له عمل ولا قدرة، وإنما هو كالريشة المعلقة في الهواء تحركها رياح الأقدار، من غير أن يكون لها إرادة ولا اختيار
…
"1. وأما الحجة التي احتجت بها القدرية، فهي العلم الثابت في الكتاب، ولكن رشيد رضا يجيب على هذه الشبهة بقوله: "إن تعلق العلم أو الإرادة بأن فلانا يفعل كذا، لا ينافي بأنه يفعله باختياره، إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطرا كحركة المرتعش
…
وبهذا صح التكليف، ولم يكن التشريع عبثاً، وتبين من هذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يسم باسمهم، قد غفلوا عن معنى الاختيار
…
"2.
ولأن مذهب الجبر أسوأ أثر من مذهب القدرية، فإن رشيد رضا يخصه بمزيد من عنايته، فيقول مبينا لأثره السيئ في الأمة: "
…
كان بين المسلمين طائفة تسمى الجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارا لا يشوبه اختيار
…
ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع الفلسفة الفاسدة
…
"3 ، ويقول: "أولئك هم الجبرية الذين نزعوا من الأمة روح النشاط والعمل ورموها في هاوية الخمول والكسل، حتى داستهم بقية الأمم وكادت تبلعها بلاليع العدم
…
"4. ومن الأبيات التي ينشدها الجبرية لأنها تصور مذهبهم قول بعضهم:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
…
عليه في كل حين أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
…
إياك إياك أن تبتل الماء
ويرد رشيد رضا على هذا البيت قائلا: "هذا القائل يخاطب الرائي وهو لا يرى، فإنه اكتفى بما في خياله عما تحت نظره إذ يرى العبد يحتال
1 المصدر نفسه.
2 المصدر نفسه (3/510) .
3 مجلة المنار (3/269) .
4 المصدر نفسه (3/494) .
وهو لا يسأل ما حيلته، والأقدار هي التي جعلته يحتال ويعمل كما هو مشاهد. ومنه أن بعض الناس ألقوا أنفسهم في اليم ومنهم من لم يلقها، ولو كانت الأقدار حكمت على كل إنسان يلقى في اليم مكتوفا لكانوا كلهم سواء وما هم بسواء
…
"1.
والذين تمذهبوا بمذهب الجبر وتبرأوا من اسمه هم الأشعرية، وقد اتخذ رشيد رضا موقفا معارضا لما ذهبوا إليه، وحمل على مذهبهم وبين فساده، فبعد أن يورد مذهب السلف الصالح نقلا عن مصادرهم، يقول مخاطبا قراءه: "أوردنا هذا الكلام هنا للذين لا يعرفون من كتب العقائد إلا كتب متأخري الأشعرية القائلة بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها ولا لقدرة الإنسان في عمله، وأن الله يخلق السبب عند المسبب، وأن العبد كاسب لعمله في الظاهر مجبور عليه في الحقيقة
…
"2.
ويرد مذهب الجبرية أيضا في قولهم أن الأفعال هي خلق لله تعالى وأنها تنسب للإنسان لأنه محلها فقط، فيقول: "إن أفعاله تسند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه، لا لأنه محلها
…
"3.
ويرشد رشيد رضا قراءه بأن لا يلتفتوا لهذا الجدال والفلسفة التي تقع بين المعتزلة والأشعرية4 ويعد هذا الجدال من سوء الأدب مع الله تعالى. ويرى أن هذه الطريقة وتلك الفلسفات هي التي أفسدت عقيدة العامة من المسلمين المتأخرين، الذين اختلط عليهم الأمر، فترى في كلامهم ما يدل تارة على القدر وتارة على الجبر لاضطراب عقائدهم بسبب هذه الفلسفات، وأنهم أصبحوا في المسائل المتعلقة بإقامة الدين جبرية، وفي المسائل المتعلقة بالدنيا قدرية5.
1 المصدر نفسه (8/23-24) .
2 مجلة المنار (9/110) .
3 تفسير المنار (8/286) .
4 المصدر نفسه (3/230 و8/50) .
5 مجلة المنار (12/197) .
وأما المذهب الحق في رأي رشيد رضا ـ في مسألة القدر ـ وفي كل مسألة فهو مذهب السلف الصالح 1.
لقد حاول رشيد رضا أن يقرر مذهب السلف في القدر، وقد نجح في أغلب الأحيان، وتعثر قليلاً، ولكنه في كل حال، كان معتمداً على الكتب التي تبين مذهب السلف في هذه المسألة مرجحاً لها لا لغيرها من كتب المتكلمين، داعياً إلى الاكتفاء بها والرجوع إليها، دون كتب هؤلاء المتكلمين 2.
1 انظر: مجلة المنار (12/ 195 ـ 196) وتفسير المنار (8/ 50)
2 انظر: مجلة المنار (9/ 81 ـ 110)