الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن المرض الحقيقي للدولة العلية لم يكن في جيشها الضعيف، ولكن كان في دينها، لقد استشرت العقيدة الماتريدية 1، في جسد الدولة وكذلك الأشعرية، والتي تعتبر الإنسان مجبوراً على عمله، ليس له فيه اختيار 2، كما أنها تعتبر العمل ليس شرطاً في الإيمان مما يدعو المسلم إلى الركون إلى الأماني الكاذبة والأوهام البالية. كما أصيبت الدولة العلية كذلك بداء الصوفية، التي تغلغلت في أرجاء الدولة حتى وصلت إلى رأس الدولة العلية 3. ولا ننكر أن يكون للأدواء الأخرى أثرها، إلا أننا نقول: إن هذا الداء هو أصل كل البلايا التي حلت بالدولة، وما بعده تبع له. وللأسف لم يلتفت أحدٌ للصوت الذي نادى باستلهام الشريعة في الإصلاحات الجديدة، فذهبت كل الإصلاحات أدراج الرياح.
1 نسبة إلى أبي منصور الماتريدي: انظر: بروكلمان: تاريخ الأدب العربي (4/41ـ 43)، ط. دار المعارف ـ مصر. وطاش كبرى زاده: مفتاح السعادة (2/151ـ 152) ط. دار الكتب الحديثة، مصر.
2 سيأتي الكلام على هذه المسائل في موضعها إن شاء الله تعالى
3 انظر: عبد الحميد الثاني: مذكراتي (ص306/ حاشية)، ومحمد حرب: السلطان عبد الحميد (ص90) .
المطلب الثاني: الحياة السياسية في مصر
تعتبر مصر الحديثة ابنة " محمد علي" 4 وأسرته. وقد عاش الشيخ رشيد في مصر في ظل حكم هذه الأسرة. لذا يحسن ـ ونحن نعرض للحالة السياسية في عصر الشيخ رشيد ـ أن نتناول "مصر الحديثة"، ولو بشيء من الاختصار.
مصر بعد الحملة الفرنسية وارتقاء محمد علي لعرشها:
كانت أحوال مصر وظروفها بعد خروج الحملة الفرنسية منها مجالاً
4 انظر ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص149) وما بعدها.
يستطيع أن يقتحمه كل مغامر. لقد وجدت ثلاث قوى كلها تحاول السيطرة على مصر بعد الفرنسيين، هم: الأتراك، والمماليك والإنجليز 1.
لقد هبط "محمد علي" على مصر مع الجيوش الإنجليزية والتركية التي حشدت لمنازلة "بونابرت" وإخراجه من مصر 2.
وكان "محمد علي" جندياً ألبانياً عسكرياً بحتاً، وكان مع ذلك أمياً لا يحسن الكتابة 3. لقد أعجب منذ نعومة أظفاره بأوروبة وخاصة فرنسا أيما إعجاب، وتأثر بها أعمق تأثير، ولقد ولد وعاش فترة طويلة قبل مجيئه إلى مصر قريباً من هذه الحضارة الجديدة 4.
لقد أحسن محمد علي استغلال الظروف التي مرت بها مصر بعد خروج بونابرت وحملته واستطاع بذكاء أن يصل إلى كرسي مصر وعرشها 5. وإذا قيل: إنه كان عبقرياً حين استطاع أن يصل إلى عرش مصر وخزائنها فلزاماً أن يقال: أيضاً: إن استطاعته الاستمرار في الحكم والانفراد به أدل على تمتعه بعبقرية وشخصية ذكية وتفوق ذاتي 6. لقد تخلص محمد علي من المماليك الذين كانوا دائماً مصدراً ومثاراً لكثير من الفتن، وكم أقضوا مضجع الوالي الجديد. كما أنه تخلص من العلماء الذي تزعموا الشعب المصري، وحملوا "محمدَ علي" إلى كرسي عرش مصر فصار عزيزاً لها 7.
1 انظر تفصيل هذه الأحوال: بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية (ص542) . ومحمود الشرقاوي: مصر في القرن الثامن عشر، ط. الانجلو مصرية (3/151)، وأحمد شلبي: التاريخ الإسلامي (5/350) وما بعدها.
2 قطاوي: محمد علي وأوروبا (ص:20) .
3 انظر: جورجي زيدان: مصر الحديثة (ص199)، وكرد علي: الإسلام والحضارة العربية (ص373) ط لجنة التأليف، الثالثة 1968م القاهرة.
4 انظر: قطاوي: محمد على وأوروبا (ص27) .
5 انظر هذه الملابسات: عبد الرحمن الرافعي: الحملة الفرنسية (ص9) وما بعدها. ط. نهضة مصر، الرابعة، 1381هـ.
6 قطاوي: "محمد علي وأوروبا"(ص193) .
7 انظر: جورجي زيدان: مصر الحديثة (ص160) وما بعدها. وأحمد شلبي: التاريخ الإسلامي (5/352) وما بعدها.
كما إنه تقرب من فرنسا وإنجلترا ليتحرر من الوصاية العثمانية 1. وقدم خدماته للدولة في اليونان 2 ونجد 3. لكنه سرعان ما تعدى على سيادتها وسبب لها حرجاً شديداً عندما هاجم سوريا وبقي حاكماً عليها بالقوة تسع سنوات إلى أن أخرجته الدول الغربية بعد استغاثة الدولة العثمانية بها4.
وبناء على معاهدة سنة 1840م. صار لمحمد علي وأبنائه حكم مصر وراثياً بموجب "خط شريف" من السلطان العثماني 5.
محمد علي وبناء الدولة الحديثة:
وبينما كان السلطان "محمود" 6 لا يزال منهمكاً في العمل على زيادة فعالية الدولة من طريق الإصلاحات ولكن من غير طائل، كان تابعه المصري "محمد علي" قد سبقه في هذا السبيل سبقاً بعيداً، لكنه أيضاً مضى في ذلك مستلهماً الحضارة الغربية الحديثة.
اهتم "محمد علي" اهتماماً كبيراً بأن يجعل مصر دولة حديثة تلحق بركب التقدم الأوروبي الذي كان "محمد علي" على صلة بنهضته واتجه أول ما اتجه نحو الجيش معتمداً فيه على ضابط فرنسي بقي من حملة بونابرت 7.
وفي عهده حدثت مجموعة كبيرة من الإصلاحات الزراعية فأنشأ السدود
1 قطاوي: مرجع سابق (ص61)، وبروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية (ص546) .
2 انظر: قطاوي: مرجع سابق (ص78) . وعبد الرحمن زكي: التاريخ الحربي لعصر محمد علي (43ـ 89) ط. دار المعارف، 1369هـ.
3 انظر: جورجي زيدان: تاريخ مصر (ص157) وما بعدها. وأحمد شلبي: مرجع سابق (5/362)، وآراء أخرى: سليمان بن محمد الغنام: قراءة جديدة في حروب محمد علي التوسعية، ط. الكتاب = = العربي السعودي، ط. أولى سنة 1400هـ (ص5) وما بعدها.
4 انظر التفاصيل: بروكلمان: المرجع السابق (ص546) وما بعدها.
5 انظر هذا الخط الشريف عند: جورجي زيدان: مصر الحديثة (ص 172)، وانظر أيضاً: د. محمد فؤاد شكري: مصر والسودان (ص15) وما بعدها. ط. دار المعارف، مصر 1958م.
6 انظر ترجمته: إبراهيم حليم: الدولة العثمانية (ص 207) .
7 انظر جورجي زيدان: مرجع سابق (ص184) وما بعدها.
والقناطر وحفر الترع، وأدخل محاصيل جديدة لم تكن من قبل كالقطن، والذي أصبح بعد ذلك ذا شهرة عالمية. وفي مجال الصناعة أدخل صناعات هامة، فبالإضافة إلى مصانع الأسلحة كان هناك مصانع الغزل والنسيج ومصانع سبك الحديد، ومصانع السكر والورق والصابون والزجاج 1.
وأرسل أول بعثة مصرية إلى فرنسا وكانت تتكون من أربعين شاباً من الأتراك والمصريين، زاد عددهم فيما بعد، ولما عاد أعضاء البعثة اعتمد عليهم محمد علي وأحلهم محل الأجانب ومضى أبناؤه من بعده على ذلك في الاهتمام بأمر مصر التي أضحت ملكاً لهم. وحتى وصل الأمر إلى حفيده:"إسماعيل" 2 بن إبراهيم الذي كان يقول: " إن بلادي ليست من أفريقيا بل هي جزء من أوروبا"3.
ولم يشذ عن هذا الخط من أبناء محمد علي إلا خليفته وابن ابنه الأكبر "طوسون" والذي ولي بعد وفاة إبراهيم باشا: وهو عباس باشا الأول 4.
لقد كان هذا الرجل قد تربى تربية دينية شرقية وعرف عنه بغضه للفرنساويين وبلغ به الأمر إلى أن عمل على إيقاف إيفاد البعثات إلى فرنسا واتخذه الأوربيون عموماً ـ ولا سيما في فرنسا ـ التي كانت تعرف بغضه لها ـ هدفاً لسهامهم. لذلك يقول عنه بروكلمان: " إنه كان مسلماً متعصباً يزدري التربية الأوروبية ازدراءً بعيداً 5. ويتهمه بأنه كان طاغية 6، والحق أنه كان متديناً تقياً. وندلل على ذلك بحادثين: الأول قبل ولا يته: فقد
1 انظر تفاصيل إصلاحات محمد علي: جورجي زيدان: مرجع سابق (ص168ـ 197) . وقطاوي: محمد على وأوروبا (ص197 و202) .
2 انظر ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص:204)
3 انظر: قطاوي: محمد علي وأوروبة (ص 27) .
4 انظر: جورجي زيدان، مصدر سابق (ص:201) والزركلي: الأعلام (3/ 261) .
5 تاريخ الشعوب الإسلامية (ص566) .
6 المصدر السابق (ص575)، ويسخر منه: إلياس الأيوبي: انظر: مصر في عهد إسماعيل (1/ 182ـ 183و 230) ط. دار الكتب المصرية، سنة 1341هـ.
استطاع عباس الأول محافظ مصر آنذاك لجده "محمد علي" أن يخرج الوهابيين 1 من أبناء ابن سعود والذين سجنهم محمد علي في القلعة بحيلة دبرها، ولم يستطع الجنود أن يخبروا "محمد علي" إلا بعد ثلاثة أيام خوفاً منه، ولكنه على كل حال لم يفعل شيئاً لأنه كان يثق بعباس 2. ومنذ ذلك الحين صار عباس صديقاً حميماً لفيصل بن سعود إلى نهاية حياتهما 3. ولا ريب أن انتشار أئمة الدعوة في مصر كان له الفضل الأكبر في سريان عقيدة التوحيد هناك، ولا سيما أن هؤلاء "الوهابيين" كانوا طلبة علم، فالتحقوا بالأزهر ودرسوا فيه ودرسوا
…
وكان عباس الأول هو الوحيد من أولاد محمد علي الذي كان يتردد إلى المساجد في شهر رمضان لاستماع الدروس والمواعظ الدينية 4. وفي أيام عباس باشا لم يكن أحد يستطيع أن يسير في الشوارع وقت الصلاة وإلا تعرض لسياط "الشاويشية" الأتراك، جنود عباس 5. وفيما عدا عباس كان أبناء محمد علي جميعاً يميلون إلى أبيهم "محمد علي الكبير" ويتبعون سياسته في الحكم مائلين إلى الغرب.
وبعد عباس الأول تولى عرش مصر محمد سعيد باشا 6 بن محمد علي، الذي وقع اتفاق حفر قناة السويس مع الفرنسيين، وقد كان في بنود
1 لقد عرف أئمة الدعوة ـ رحهمهم الله ـ بهذا اللقب خارج بلادهم واشتهروا به بسبب نبز خصوم الدعوة لهم به، وإلا فإن هذه الدعوة لا تنسب إلا إلى صاحبها صلى الله عليه وسلم فهي ليست مذهباً لهم يصح نسبتها إليهم. وانظر مجلة المنار (32/ 685) .
2 انظر تفاصيل تلك الحادثة: الأمير محمد علي: مجموعة خطابات عباس الأول (ص5) .
3 المصدر السابق (ص5ـ 6)، وانظر ابن بشر: عنوان المجد، ط. مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. (1/215) . وفيصل، هو: ابن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود. انظر: ابن بشر: عنوان المجد (2/ 84)
4 الأمير محمد علي: مجموعة خطابات عباس الأول (ص: 4)
5 المصدر نفسه (ص6) .
6 انظر ترجمته: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة (ص: 203) ، والزركلي الأعلام (6/ 140ـ 141) ط. دار العلم للملايين بيروت، الثانية عشرة 1997م.
هذا الاتفاق شروط مجحفة بمصر والمصريين 1، إلا أن إسماعيل باشا أو إسماعيل العظيم كما يسميه الأوروبيون 2، والذي كان أكبر الناس شبهاً بجده في سياسته استطاع أن يعدل هذه الشروط ويتخلص من الإجحاف 3. ولقد كانت جهود إسماعيل باشا لرفع شأن بلاده في مضمار الحضارة موفقة أيضاً، فقد اهتم اهتماماً بالغاً بتنمية مصر من كافة الجهات، فخدم الزراعة والصناعة والتعليم بما لم يفعله أحد قبله، ولقد أصبح القطن المصري أو الذهب الأبيض ذا شهرة عالمية لا سيما بعد توقف أميركا عن إنتاجه بسبب الحرب الأهلية هناك، فارتفع سعر القطن المصري الذي توسع في زراعته جداً، فأصبح مصدر خير كبير لمصر، استمر إلى يومنا هذا 4، ولكنه كان متعجلاً في خطته، فأسرع إلى تنفيذها، وتوسع في الاقتراض معتمداً على "الذهب الأبيض" الذي ما لبث أن انخفض سعره بسبب توقف الحرب الأهلية في أميركا وعودة القطن الأميركي إلى السوق 5، وبدأت الأزمة المالية تشتد، وحاول إسماعيل الخروج منها بكل سبيل حتى باع أملاكه وأملاك أسرته، إلا أن أوروبا لم تشأ أن تمكنه من ذلك فعملت على خلعه ونجحت في ذلك. وفي عهد ابنه توفيق استغلت إنجلترا حماقة أحد ضباط الجيش المصري واحتلت مصر بجيوشها، ومن ذلك الحين أصبح في مصر حاكمان: أحدهما شرعي هو: الخديوي، والآخر فعلي هو: إنجلترا 6.
1 انظر هذه الشروط: د. محمد صالح منسي: مشروع قناة السويس (ص: 202) وما بعدها، وانظر: الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي: السخرة في حفر قناة السويس، ط. منشأة المعارف، الإسكندرية.
2 انظر: قطاوي: مصدر سابق (ص: 17)، وبروكلمان: تاريخ الشعوب (ص: 577)
3 انظر: الأيوبي: مصدر سابق (1/ 325)
4 انظر: تفصيل جهود إسماعيل عند الأيوبي: مصدر سابق (1/ 86 ـ 254)
5 انظر: الأيوبي: مصدر سابق (2/ 254) وما بعدها.
6 انظر تفاصيل ذلك: الرافعي: الثورة العرابية، ط. دار المعارف، مصر (ص: 329) وما بعدها، وزيدان: مصدر سابق (ص:236) وما بعدها، وبروكلمان: تاريخ الشعوب (ص:736)، ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص: 90) ط. المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى، 1399هـ.
ولم تفلح محاولات " عباس الثاني" 1 ابن محمد توفيق في أن يقيد سلطة إنجلترا، ولأنه كان وطنياً صادقاً متحالفاً مع الشعب المصري ضد إنجلترا وموالياً للسلطان العثماني، لم يكن أمام بريطانيا بعد قيام الحرب العالمية الأولى إلاّ أن تقيله وتستبدل به "السلطان حسين كامل" 2 وبذلك انقطعت كل علاقة لمصر مع الدولة العثمانية وأصبحت مصر مملكة واقعة تحت سيطرة التاج البريطاني. ثم في عهد أحمد فؤاد الأول خرجت انجلترا جزئياً ثم خرجت نهائياً في عهد الجمهورية. وكان آخر من حكم مصر من أسرة محمد علي هو "أحمد فؤاد الثاني"3.
لقد أصبحت مصر في عهد أسرة "محمد علي" امبراطورية تمتد من البحر المتوسط شمالاً إلى أربع درجات جنوب خط الاستواء، وضمت أريتريا والصومال وهرر في الحبشة، ومن سواحل البحر الأحمر إلى شرق بحيرة تشاد غرباً، وتم لمصر الاستيلاء على نهر النيل من منبعه إلى مصبه، وأصبح في قبضتها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار الحياة في البلاد 4.
ومن الناحية الاقتصادية أصبحت مصر دولة غنية بسبب زراعة "إسماعيل" للقطن المصري والتي كانت أبعد أثراً من شق قناة السويس نفسها، وبحفر هذه القناة زادت مكانة مصر وأهميتها العالمية 5.
1 انظر ترجمته عند: جورجي زيدان (ص: 335) والزركلي: الأعلام (3/ 260ـ 261) وانظر: الرافعي: مصطفى كامل (ص: 320 ـ343) ط. دار المعارف، مصر.
2 انظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (18/ 53) وما بعدها.
3 انظر: محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية (2/ 319ـ 320) ط. دار المعارف، = = مصر.
4 انظر: عمر طوسون: مديرية خط الاستواء (3/ 218) ط. مطبعة العدل، إسكندرية، سنة 1355هـ، ومحمد صبري: مصر في أفريقية الشرقية (ص:13) ، ط. مطبعة مصر ومكتبتها، 1939هـ.
5 انظر: بروكلمان: تاريخ الشعوب (ص: 576)