الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعداد العالم لبعثة نبينا:
ثم بين الشيخ رشيد استعداد العالم لهذه الرسالة الخاتمة ـ بناء على وجه الحاجة ـ فقال: "حاجة الناس إلى الشيء تولد فيهم الاستعداد له، فإذا استدللنا بالعلة على المعلول فلنا أن نستنبط استعداد الأمم لمصلح عام يرسله الله تعالى لهداية الأمم من شدة حاجة الأمم إلى ذلك الإصلاح، وإذا استدللنا بالمعلول على العلة فالدليل أوضح لأنه ههنا وجودي مشهود لا نظري مستنبط، وهو قبول الأمم على اختلافها في الأديان واللغات والمواقع هذا الإصلاح الروحي الاجتماعي الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، بالوحي الإلهي والإلهام، فقد انتشر الإسلام في المشرق والمغرب بسرعة لم يعرف التاريخ مثلها حتى كان ملك الإسلام بعد ثمانين سنة من ظهوره أوسع من ملك الرومان بعد ثمانمائة سنة والرومان أعظم أمم التاريخ الماضي في الحروب والفتوحات
…
" 1.
وبهذا القدر من البيان يظهر حاجة العالم إلى هذه الرسالة الخاتمة، واستعداده لها، ولكن ـ وكما ذكرت قبل ـ ليست الحاجة دليلاً على الوقوع فيجب إثبات هذا الوقوع بدليله، وهو ما نراه في المبحث التالي.
1 المصدر نفسه (5/ 334 ـ 335)
المطلب الثاني: أدلة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم:
يشير الشيخ رشيد أولاً إلى أنه "لا يشترط في صحة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم النظر الاستدلالي المعروف عند المتكلمين بل يكفي فيها الاطمئنان النفسي لصدقه بمعرفة حاله، وحسن ما دعا إليه"2.
فطريقة المتكلمين التي رفضها الشيخ رشيد في الاستدلال على وجود الله وصفاته، يرفضها هنا أيضاً عند الاستدلال على نبوة الأنبياء صلى الله تعالى عليهم.
2 تفسير المنار (2/ 93)
ويشير أيضاً ـ كما أشار سابقاً ـ إلى أن "آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء السابقين، وهي لا تسمى معجزات
…
" 1. وآيات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي اعتمد عليها الشيخ رشيد هي:
أولاً: القرآن الكريم:
يعتبر الشيخ رشيد القرآن الكريم هو أقوى حجة وبرهان على صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم فيقول: ".... إن آية القرآن أقوى الحجج وأظهر الدلالات، وهي مشتملة ومرشدة إلى كثير من الآيات والبينات
…
" 2.
ويقول: إنه ـ أي القرآن ـ "الجامع لأقوى طرق الاستدلال العلمية والعقلية، على كونه آية في نفسه من وجوه كثيرة، وآية باعتبار كون من أنزل على قلبه وظهر على لسانه كان أمياً لم يتعلم شيئاً من أنواع العلوم الإلهية والشرعية والاجتماعية والتاريخية التي اشتمل عليها
…
" 3. ثم يفصل هذا الإجمال ـ في موضع آخر ـ فيقول: "إن الآية الكبرى لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم على نبوته هي القرآن وإنها لآية مشتملة على آيات كثيرة، وقد احتج عليهم به وتحداهم بسورة من مثله، فعجزوا، واحتج عليهم أيضاً ببعض ما اشتمل عليه من الآيات كأخبار الغيب
…
، فالقرآن في جملته آية علمية، وفي تفصيله آيات كثيرة عقلية وكونية، وهي دائمة لا تزول كما زالت الآيات الكونية، كعصا موسى مثلاً، عامة لا تختص ببعض من كان في عصر الرسول كما كانت آية موسى الكبرى خاصة بمن رآها في عصره، وهي أدل على الرسالة من الآيات الكونية، لأن موضوع الرسالة علمي، فهو علم موحى به غير مكسوب يقصد به هداية الخلق إلى الحق، فظهور أعلى علوم الهداية على لسان أميّ كان ـ هو وقومه ـ أبعد الناس عن كل علم بعبارة أعجزت ببلاغتها قومه كما أعجزت غيرهم، على أنه لم يكن من قبل معدوداً من بلغائهم؛ أدل على كون ذلك موحى به من الله عزوجل من
1 مجلة المنار (6/ 67)
2 تفسير المنار (8/ 280)
3 المصدر نفسه والصفحة.
عصا موسى على كون ما جاء به من التوراة موحى به منه تعالى، وهي غير معجزة في نفسها، وقد نشأ من جاء بها في دار ملك أربى على سائر ممالك الأرض بالعلوم والشرائع. فالآية العلمية القطعية لا يمكن المراء فيها كالمراء في الآية الكونية التي هي أمر غريب غير معتاد يشتبه بكثير من الأمور النادرة التي لها أسباب خفيةكالسحر وغيره
…
" 1.
ويقول في موضع آخر مؤكداً على نفس المعنى: "
…
فإنزاله مشتملاً على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها عل لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على أنه من عند الله تعالى لا من عنده هو كما قال بأمر الله في آية أخرى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} 2 جاوز الأربعين من السنين ولم يصدر عني فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغته {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم؟
…
" 3.
وحجة إعجاز هذا القرآن ودلالته على نبوة نبينا دلالة علمية عقلية ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ: " إذ لا يتصور عاقل يؤمن برب العالمين أن يصدر هذا الكتاب المشتمل على هذا القدر السنيع 4 من المعاني، في هذا الأسلوب البديع، والنظم المنيع من المباني، من رجل أمي ولا متعلم أيضاً، إلا أن يكون وحياً اختصه به الرب عزوجل، ناهيك به وقد جزم بعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله، ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله 5، فهذا التحدي حجة مستقلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بصرف النظر عن المتحدى به ما هو
…
" 6.
1 تفسير المنار (7/ 386)
2 سورة يونس، الآية (16)
3 تفسير المنار (8/ 10)
4 السنيع: الجامع بين الطول والحسن من سنع سنوعاً وسناعة. لسان العرب (33/168)
5 يشير إلى آيتي: البقرة (23) ، ويونس (38)
6 تفسير المنار (1/ 218)
إن هذا القرآن هو أمر "خارق للعادة" كسائر خوارق الأنبياء، إلا أنه أجلاها وأقواها. ولا يقتصر إعجازه على بلاغته وبيانه ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ: "وإعجازه ليس مقصوراً على أسلوبه البديع وارتقائه أسمى درج البلاغة وعلى إخباره بالمغيبات المستقبلة وسرده قصص الماضين من غير الاطلاع عليها، بل فيما اشتمل عليه من العلوم والمعارف في تهذيب البشر وبيان مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم أعظم خارق لحجب العوائد
…
" 1.
لقد تحدث الشيخ رشيد على أوجه الإعجاز اللفظي والمعنوي بالإجمال والإيجاز وقسمها إلى أنواع، عند حديثه عن آية التحدي في سورة البقرة 2. كما تحدث عن التحدي ببلاغته ونظمه في سورة يونس 3. ووجه الكلام في " الوحي المحمدي" إلى هداية القرآن بأسلوبه وتأثيره وعلومه المصلحة للبشر بما يحتمله المقام من البسط والتفصيل، وهو القدر الذي يعلم منه أن هذه العلوم أهدى من كل ما حفظه التاريخ عن جميع الأنبياء والحكماء وواضعي الشرائع والقوانين وأن إعجازه من هذه الناحية أقوى البراهين على كونه وحياً من الله تعالى تقوم به الحجة على جميع البشر
…
" 4.
ونرى الشيخ رشيد كثيراً ما يلجأ إلى المقارنة، فقد قارن بين آيات نبينا وآيات الأنبياء قبله من حيث ذاتها وحقيقتها ومن حيث قوة دلالتها، ومن حيث أثرها الذي طبعته في نفوس أممها، فقد قارن بين أثر القرآن في العرب وأثر التوراة في بني إسرائيل وبين أثر القرآن في نفس المسلمين والمشركين 5. وخلص من ذلك كله إلى أن: "ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو
1 مجلة المنار (2/ 418)
2 انظر: تفسير المنار (1/ 191 ـ 228)
3 انظر: المصدر نفسه (11/ 195 ـ 197)
4 الوحي المحمدي (ص: 138ـ 166)
5 الوحي المحمدي (ص:65، 71، 148)
أعلى وأكمل مما جاء به من قبله من جميع الأنبياء والحكماء والحكام فهو برهان علمي على أنه من عند الله تعالى، لا من فيض استعداده الشخصي" 1.
وقد سبق أن أشرت إلى أن الشيخ رشيد يثبت وقوع آيات كونية للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يقصد بها التحدي وإقامة الحجة على نبوته ورسالته، بل كان ذلك لأسباب أخرى 2.
ومن منهج المقارنة الذي يعتمده الشيخ رشيد رضا للوصول إلى الحقائق، أنه قارن أيضاً بين آيات النبيين قبل نبينا وآياته، والحق أن المقارنة تقوم مقام التجربة في البحوث العلمية؛ وتتساوي نتيجتها في القوة مع تلك أو تعلو عليها. لذلك فإن الشيخ رشيد يعتمد منهج المقارنة، لإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كما نبين في المبحث التالي.
ثانياً: المقارنة:
لدينا قوانين مستقرة في بداهة العقول، منها قانون التماثل، وهو:"أن المثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه"3. ولدينا أيضاً قانون الأولى: وهو: لو أن مثلين اشتركا في صفة أو صفات وزاد أحدهما على الآخر في الصفة أو الصفات فهو أولى بالحكم من صاحبه 4.
وينتج عن هذين قانون آخر هو: أن التفريق بين المتماثلين كالجمع بين المتناقضين. وعلى هذه القوانين العقلية تكون المقارنة حجة عقلية تنتج حكماً صحيحاً لا مرد له، وعلى هذا الأساس فقد قارن الشيخ محمد رشيد
1 المصدر نفسه (ص: 167)
2 الوحي المحمدي (ص: 80 ـ 81)
3 انظر: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 52)
4 انظر: المصدر السابق (ص: 116 ـ 117) فقد استخدم هذا القياس في حق الله تعالى. وانظر أيضاً: منهاج السنة (2/ 55 ـ 61) فقد استخد نفس القياس في حق الأنبياء، ثم في حق الصحابة.
بين نبينا صلى الله عليه وسلم وبين من سبقه من الأنبياء للوصول إلى حقيقة عالية هي: أن النبوة أولى بنبينا صلى الله عليه وسلم من غيره، وإذا لم تثبت نبوته فلا تثبت نبوة نبي قبله.
فالمقارنة الأولى التي عقدها الشيخ رشيد كانت بين نبينا وبين موسى ـ صلى الله عليهما ـ فقال: "فأما الأول الخاص بشخص الرسول، فإن العاقل المستقل الفكر إذا عرف تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وتاريخ أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، فإنه يرى أن محمداً قد نشأ أمياً لم يتعلم القراءة والكتابة، وأن قومه الذين نشأ فيهم كانوا أميين وثنيين جاهلين بعقائد الملل وتواريخ الأمم وعلوم التشريع والفلسفة والأدب، حتى إن مكة عاصمة بلادهم وقاعدة دينهم ومثوى كبرائهم ورؤسائهم، ومثابة الشعوب والقبائل للحج والتجارة فيها، والمفاخرة بالفصاحة والبلاغة في أسواقها التابعة لها لم يكن يوجد فيها مدرسة ولا كتاب مدون قط، فما جاء به من الدين التام الكامل والشرع العام الجامع، لا يمكن أن يكون مكتسباً ولا أن يكون مستنبطاً بعقله وفكره، كما بيناه من قبل
…
ويرى تجاه هذا أن موسى عليه السلام أعظم أولئك الأنبياء في علمه وعمله، وفي شريعته وهدايته، قد نشأ في أعظم بيوت الملك لأعظم شعب في الأرض وأرقاه تشريعاً وعلماً وحكمة وفناً وصناعة، وهو بيت فرعون مصر، ورأى قومه في حكم هذا الملك القوي القاهر مستعبدين مستذلين تذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، تمهيداً لإبادتهم ومحوهم من الأرض، ثم إنه مكث بضع سنين عند حميه في مدين وكان نبياً ـ أو كاهناً كما يقولون ـ فمن ثم يرى منكرو الوحي أن ما جاء به موسى من الشريعة الخاصة بشعبه ليس بكثير على رجل كبير العقل عظيم الهمة، ناشئ في بيت الملك والتشريع والحكمة إلخ
…
ثم يرى الناظر أن سائر أنبياء العهد القديم كانوا تابعين للتوراة متعهدين بها، وأنهم كانوا يتدارسون تفسيرها في مدارس خاصة بهم وبأبنائهم مع علوم أخرى، فلا يصح أن يذكر أحد منهم مع محمد ذكر موازنة ومفاضلة، ويرى أيضاً أن يوحنا المعمدان الذي شهد المسيح بتفضيله عليهم كلهم 1 لم يأت بشرع
1 انظر: متَّى (11/ 11)
ولا بنبأ غيبي، بل يرى أن عيسى عليه السلام وهو أعظمهم قدراً، وأعلاهم ذكراً، وأحلاهم أثراً، لم يأت بشريعة جديدة، بل كان تابعاً لشريعة التوراة مع نسخ قليل من أحكامها
…
فأمكن لجاحدي الوحي أن يقولوا: إنه لا يكثر على رجل مثله زكي الفطرة، زكي العقل ناشئ في حجر الشريعة اليهودية، والمدنية الرومانية، والحكمة اليونانية، غلب عليه الزهد والروحانية، أن يأتي بتلك الوصايا الأدبية، ونحن المسلمين لا نقول بهذا ولا ذاك، وإنما يقوله الماديون والملحدون والعقليون، وألوف منهم ينسبون إلى المذاهب النصرانية
…
" 1.
والذي نقوله نحن المسلمين بعد هذا العرض والمقارنة: إن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح، وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن الشبهة، فإذا جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى، وإن كان القدح في المسيح باطلاً، فالقدح في محمد أولى بالبطلان، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات 2.
ثم يقارن الشيخ رشيد بين ما جاء به نبينا من العقائد والأحكام وبين ما جاء به غيره ـ فيقول: "وأما الوجه الثاني: وهو عقائد الدين وعباداته وأحكامه، فلا يرتاب العقل المستقل الفكر غير المقلد لدين من الأديان، أن عقائد الإسلام من توحيد الله وتنزيهه عن كل نقص، ووصفه بصفات الكمال والاستدلال عليها بالدلائل العقلية والعلمية الكونية، ومن بيان هداية رسله به ومن عباداته وآدابه المزكية للنفس المرقية للعقل، ومن تشريعه العادل، وحكمه الشوري المرقي للاجتماع البشري ـ كل ذلك أرقى مما في التوراة والأناجيل وسائر كتب العهد القديم والجديد
…
" 3. وبالمقارنة فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وفيما يتعلق بالأنبياء والرسل، يقول الشيخ رشيد
1 الوحي المحمدي (ص: 66 ـ 68)، وأيضاً: مجلة المنار (4/ 379 ـ 386)
2 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 55ـ 56)
3 الوحي المحمدي (ص: 68)
مقارناً بين ما جاء به نبينا وما جاءت به كتب أهل الكتاب: "ومن نظر في قصص آدم ونوح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف من سفر التكوين، وسيرة موسى وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء في سائر أسفار العهد القديم، ثم قرأ هذه القصص في القرآن يرى الفرق العظيم في الاهتداء بسيرة هؤلاء الأنبياء العظام، ففي أسفار العهد القديم يرى وصف الله تعالى بما لا يليق به من الجهل والندم على خلقه البشر والانتقام منهم، ووصف الأنبياء أيضاً بما لا يليق بهم من المعاصي مما هو قدوة سوءى، من حيث يجد في قصص القرآن من حكمة الله تعالى ورحمته وعدله وفضله وسننه في خلقه، ومن وصف أنبيائه ورسله بالكمال، وأحاسن الأعمال، ما هو قدوة صالحة وأسوة حسنة تزيد قارئها إيماناً وهدى، فأخبار الأنبياء في كتب العهدين تشبه بستاناً فيه كثير من الشجر والعشب والشوك والأزهار والحشرات، وأخبارهم في القرآن تشبه العطر المستخرج من تلك الأزهار، والعسل المشتار من جنى تلك الثمار
…
وندع هنا ذكر ما كتبه علماء الإفرنج الأحرار في نقد هذه الكتب والطعن فيها، ومن أخصرها وأغربها كتاب "أضرار تعليم التوراة والإنجيل" لأحد علماء الإنجليز 1، وما فيها من مخالفة العلم والعقل والتاريخ، والقرآن خالٍ من ذلك 2" 3.
والذي أريد أن أثبته هنا، هو أن المسلمين لا يقولون بصحة ما ورد في الكتب المقدسة عند أهل الكتاب فيما يتعلق بصفات الله ورسله، ولكننا نقول: إذا كان يمكن الإيمان بهذه الكتب وهؤلاء الأنبياء والحالة هذه،
1 هو: تشارلز وطس: مطبعة الموسوعات في مصر، سنة 1319هـ = 1901م. انظر: صابر طعيمة: الأسفار المقدسة (ص: 168) وما بعدها.
2 ومن البحوث الجديدة في ذلك: ما كتبه موريس بوكاي في المقارنة بين الحقائق العلمية في الكتب المقدسة. انظر: موريس بوكاي: الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، دار المعارف، مصر، الترجمة العربية. وانظر أيضاً: مقارنة دراز: مدخل إلى القرآن الكريم (ص: 97 ـ 102)
3 الوحي المحمدي (ص: 68 ـ 69)
فالإيمان بنبينا وكتابه أولى وأحرى وهو سالم من كل هذه المطاعن.
وقد قارن الشيخ رشيد أيضاً بين آيات نبينا وآيات الأنبياء قبله، وقد سبق الإشارة إلى ذلك فلا أعيده هنا وأكتفي بما كتبت ونقلت هناك 1. وجانب آخر قارن فيه الشيخ رشيد لنفس السبب هو الأثر الذي تركه نبينا في أمته من بعده وأثر الأنبياء قبله 2.
ونتيجة هذه المقارنات ـ كما يقول الشيخ رشيد: "
…
أنه لا يستطيع أحد أن يؤمن إيماناً علمياً بأن تلك الكتب وحي من الله، وأن الذين كتبوها أنبياء معصومون فيما كتبوه، ثم لا يؤمن بأن القرآن وحي من الله تعالى، وأن محمداً نبي معصوم فيما بلغه عن الله تعالى
…
" 3.
ثالثاً: البشارات:
أثبتت آيات القرآن الكريم أن الكتب القديمة فيها بشارات بنبينا صلى الله عليه وسلم وأنه ذكر باسمه على لسان المسيح عليه السلام، فقال تعالى:{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 4، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ.. .} 5 ففي الآية الأولى: ذكر اسمه، وفي الآية الثاني: ذكر وصفه ووصف شريعته.
وعند تفسير الآية الثانية وقف الشيخ رشيد وعقد فصلاً طويلاً في بشارات الكتب السابقة بنبينا صلى الله عليه وسلم. واعتمد فيه على ما أورده العلامة رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" فقد أورد كلامه بطوله ولفظه، وسبق ذلك أيضاً بالمقدمات التي مهد بها رحمة الله لهذه البشارات، وهي ثمان
1 انظر (ص:702) من هذا البحث.
2 انظر: الوحي المحمدي (ص: 148 وص: 151 ـ 165)
3 الوحي المحمدي (ص: 58)
4 سورة الصف، الآية (6)
5 سورة الأعراف، الآية (157)
مقدمات 1 أُوردُ منها أهمها مع الاختصار:
الأولى: أن إخبار النبي المتقدم عن المتأخر يكون مجملاً خفياً ولكنه يتضح بالقرائن والعلامات.
الثانية: أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون ثلاثة: إيليا ـ وهو يحيى عليه السلام والمسيح ـ ونبياً آخر بعد المسيح ليس هو إيليا ـ يحيى ـ ولا المسيح، فادعاء أن المسيح هو الخاتم باطل 2.
الثالثة: أن اليهود ينكرون ما يستدل به النصارى من بشارات العهد القديم كما ينكر النصارى البشارات بنبي الإسلام، مع أن هذه أظهر وأقوى من تلك التي يحتج بها النصارى.
الرابعة: وهي أهم هذه المقدمات، وهي مسألة ترجمة أهل الكتاب لنصوص كتبهم بالمعنى الذي يكون على قدر ما يفهم المترجم، فقد ترجمت الأسماء في هذه الكتب بمعانيها أحياناً كما أنهم أضافوا ـ أثناء عملية الترجمة عبارات تفسيرية لبعض النصوص دون الإشارة إلى ما يميز هذه العبارة الإلحاقية عن النص الأصلي. ومثال الأول: ما جاء في العهد القديم ـ سفر التثنية في قول كاتب العهد القديم: "فمات هناك موسى عبد الرب" 3، وفي ترجمة أخرى:"فمات هناك موسى رسول الله" 4 وهاتان الترجمتان في اللغة العربية، فلو بدل لفظ رسول الله في البشارات المحمدية بلفظ آخر لما كان غريباً، ومثال آخر من الإنجيل: ففي إنجيل يوحنا ـ في الترجمة العربية كذلك ـ قول المؤلف: "لما علم يسوع" وفي ترجمة أخرى ـ عربية كذلك ـ "لما علم الرب" 5، فبدل المترجم لفظ يسوع
1 انظر: تفسير المنار (9/ 230 ـ 250)، وقارن مع: رحمة الله الهندي: إظهار الحق (4/ 1078 ت 1115) ط. ملكاوي.
2 انظر: يوحنا: 1/19ـ 26
3 العهد القديم: تثنية (34/ 5)
4 رحمة الله الهندي: إظهار الحق (4/ 1100ـ 1101) ، وتفسير المنار (9/ 247)
5 بشارة يوحنا (4/ 1)، وانظر: رحمة الله الهندي: المصدر السابق (4/ 1103) ، وتفسير = = المنار (9/ 247)
وهو علم على المسيح بلفظ الرب، فلو بدلوا اسماً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بآخر لما كان بعيداً
…
ومثال الأمر الثاني: وهو العبارات الملحقة ضمن النص ـ ما كتبه مؤلف متى في قوله: "ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً إيلي إيلي لماذا شبقتني؟ أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ "1 فلا ريب أن هذه العبارة التفسيرية ليست من كلام المصلوب.
ويشير الشيخ رشيد إلى أن هذه الأمور عندهم لا تعاب من أهل الدين فكيف بمن ليسوا كذلك، بل بدلوا وحرفوا عمداً، بالزيادة والنقصان 2.
وبعد ذلك أورد الشيخ رشيد نقلاً عن الشيخ رحمة الله البشارات التي وردت في التوراة والإنجيل مع الشرح ورد المطاعن فيها، ونقل عن "إظهار الحق" البشارات بطولها، وكان يعلق أحياناً ويقوم بتحقيق بعض المسائل، كما حقق معنى كلمة "البارقليط" الواردة في بعض هذه البشارات فحقق معناه في اللغة الإنجليزية 3.
ولم يكتف رشيد رضا بالنقل عن رحمة الله الهندي، بل إنه استدرك عليه ما لم يعلمه. وذلك أن الشيخ رشيد قد وقف على إنجيل برنابا ـ الذي نقل عنه الشيخ رحمة الله بالواسطة ـ ولذلك فإنه أورد منه بشارة صريحة فيها ذكر اسم نبينا صلى الله عليه وسلم العلم "محمد". وذكر الشيخ رشيد أن ذلك موضع ارتياب الباحثين من علماء أوروبا، لأن المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات، وأجاب عن ذلك بعدة أجوبة: فقال: "بقي أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثاً علمياً لا دينياً أشد الاستنكار وهو تصريحه باسم "النبي محمد" عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات، والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكراً في خبر
1 انظر: بشارة متى (27/ 45)، ورحمة الله الهندي: المصدر نفسه (4/ 1103) ، وتفسير المنار (9/ 247)
2 رحمة الله الهندي: المصدر نفسه (4/ 1110)
3 تفسير المنار (9/ 279)
الوحي، وقد نقل الشيخ محمد بيرم 1 عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها يقول المسيح:(ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وذلك موافق لنص القرآن بالحرف، ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئاً من هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة، فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا تلك الأناجيل والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل شبهة عن إنجيل برنابا وغيره. على أنه لا يبعد أن يكون مترجم إنجيل برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم "محمد" ترجمة، وأن يكون قد ذكر في الأصل الذي ترجم هو عنه بلفظ يفيد معناه كلفظ "البارقليط"، ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة كما بينه الشيخ رحمة الله
…
وإنني أزيد مثالاً على ما سبق من اختلاف ترجمة الأعلام والألقاب والصفات في كتب أهل الكتاب يقرب لفهم القارئ هذه المسألة وهو ما جاء في نبوة النبي حجي من البشارة بنبينا صلى الله عليه وسلم
…
" 2.
والنبي حجي هو أحد أنبياء العهد القديم وله سفر قصير فيه إصحاحان فقط، وقد أورد الشيخ رشيد هذه البشارة وشرحها كما يلي:
بشارة النبي حجي بمحمد صلى الله عليه وسلم:
نقل الشيخ رشيد نص البشارة، وهو:" (2:6) هكذا قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة، 7 وأزلزل كل الأمم، ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً، قال رب الجنود 8 لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، قال رب الجنود 10 وفي هذا المكان أعطي السلام، يقول رب الجنود"3. ثم علق الشيخ رشيد أولاً بملاحظة تتعلق بالترجمة كشاهد آخر على تصرف المترجمين في الأسماء فقال: "أقول قبل كل شيء
1 انظر: ترجمته: الزركلي: الأعلام (7/101)
2 تفسير المنار (9/ 297 ـ 298)
3 حجي (2/ 6 ـ 10)
إن اسم أو لقب مشتهى الأمم" هو في الأصل العبراني عند اليهود "حمدوت" ومعناه الذي يحمد، فهو صيغة مبالغة من الحمد كملكوت من الملك، فحمدوت الأمم هو الذي تحمده الأمم، وهو معنى محمد ومحمود، فالأول اسم فاعل من حمده بالتشديد إذا حمده كثيراً؛ ومن تحمده الأمم يكون محموداً حمداً كثيراً أي محمداً، والثاني اسم مفعول من حمد الثلاثي، ومحمود من أسمائه صلى الله عليه وسلم، فهل بعد هذا يبعد أن يكون لفظ الفارقليط اليوناني مترجماً من لفظ حمدوت العبراني، ونسخ الإنجيل العبرانية التي نقلت ألفاظ المسيح عليه السلام بحروفها قد فقدت
…
؛
…
ثم إن بقية بشارة حجي لا تصدق على غير نبينا صلى الله عليه وسلم محمد الأمم فهو الذي زلزل رب الجنود ببعثته العالم، ونصره بالجنود وبالحجة جميعاً، وكان مجد دين الله به أعظم من مجده بموسى وسائر أنبياء قومه، وفرضت شريعة الزكاة وخمس الغنائم لتنفق في سبيل الله فكانت الفضة والذهب لله
…
" 1.
إن الترجمة هي الباب الذي دخل منه العبث بنصوص الكتب المقدسة السابقة على الإسلام، والترجمة ليست هي الأصل ولو مع وجوده، فكيف إذا فقد النص الأصلي، وأرى أن أنقل هنا اعترافاً لأحد المترجمين للعهد الجديد يبين فيه حقيقة الترجمة فيقول: "إن كل كلمة في أي لغة تحمل عادة معاني عديدة، وعلى المترجم في حال كهذه أن يختار معنى واحداً، يستخدمه في ترجمته، إلى ماذا يستند المترجم عندما يختار ذلك المعنى الواحد من بين المعاني المتعددة؟ إنه يختار ذلك المعنى الذي يشعر أنه يتفق مع فكرة القرينة، لكن هل يكون مصيباً دائماً في اختياره؟ إنه يظن ذلك. لكن قد يكون هناك من يخالفه في الرأي
…
" ويقول أيضاً: "المترجم كائن بشري عرضة للخطأ، وكلنا خطاة ضعفاء، إن الذي يحدث هو أن المترجم يقوم بتفسير الآية بالإضافة إلى ترجمته، والقارئ الذي لا يعرف اللغة الأصلية للكتاب المقدس يصبح تحت رحمة المترجم"، ويقول: "إن من السهل أن يغرب عن البال أن الترجمات
1 تفسير المنار (9/ 298 ـ 299)
العربية للكتاب المقدس هي ترجمات وليست الأصل" 1.
إن اللغة التي كتبت بها الأسفار المقدسة هي العبرية، وهذه النصوص لم تصل إلينا في لغتها الأصلية. فصرنا جميعاً تحت رحمة المترجمين ـ وأمانتهم، ولولا أن منّ الله علينا برسوله الخاتم وكتابه العظيم لضاعت الحقيقة.
رابعاً: الشهادة:
هذا دليل شرعي عقلي، أعني أنه جاء به الشرع وأيده العقل. وهو دليل معتمد عند أهل الكتاب. قال تعالى:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} 2 وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} 3، وقال:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 4، وأما العقل: فإنه يقول إن الله تعالى سميع بصير ـ وهذا باتفاق ـ فكان يرى نبينا ويسمعه، ويعلم دعواه التي أقام عليها ثلاثاً وعشرين سنة، فإما أنه ـ تعالى ـ كان يعلم أو لا يعلم، وفي الثاني نسبته تعالى للجهل. أو كان يعلم ولا يقدر على تغييره وفي ذلك نسبته إلى العجز المنافي للربوبية، أو كان قادراً ومع ذلك أعزه ونصره وأيده بكل طريق ـ أي وهو كاذب ـ فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق بالعقلاء، فكيف برب السماء، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه. فلا بد أن يكون عالماً قادراً شاهداً بالحق، ولا بد أن يكون محمد نبياً صادقاً 5.
ويعتمد أهل الكتاب هذا دليلاً على صدق المسيح "أي أنه رسول الله
1 د. كينيث بايلي: الفهرس العربي لكلمات العهد الجديد: لغسان خلف. دار النشر المعمدانية، بيروت، 1979م (ص: 16) [عن الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف (ص: 104) ]
2 سورة النساء، الآية (166)
3 سورة الأنعام، الآية (19)
4 سورة الرعد، الآية (43)
5 انظر تقرير هذا الدليل: ابن القيم: هداية الحيارى (ص: 104) ط. دار الكتب العلمية.
بشهادة يوحنا المعمدان، وبشهادة الأب له بالآيات التي صنعها على يده وبالنبوءات التي تمت به، ومن ثم حق له أن يطلب تصديق دعواه بمجرد قوله" 1.
لذلك كله فإن الشيخ رشيد قرر هذا الدليل أيضاً من أدلة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم. لقد عرف الشيخ رشيد كلمة "شهادة" فقال: "شهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به: الإخبار به عن علم ومعرفة، واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة: أي العقل والوجدان، ومنه: الشهادة بالتوحيد، وإثبات الشيء بالدليل والبرهان شهادة به
…
" 2.
ويعلق على قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} قائلاً: "أي شيء شهادته أكبر شهادة وأعظمها، وأجدر بأن تكون أصحها وأصدقها؟
…
أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله تعالى وهو شهيد بيني وبينكم، وأوحى إليّ هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبي فيما جئت به مؤيداً بشهادته سبحانه
…
" 3.
ثم بين الشيخ أقسام هذه الشهادة فقال إنها قسمان:
الأول: شهادته سبحانه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثاني: شهادته بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقسم القسم الأول: وهو شهادته عزوجل برسالة رسوله إلى ثلاثة أنواع: الأول: إخباره برسالته في كتابه كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} 4 وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} 5، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ
1 انظر: د. وليم إدي: الكنز الجليل في تفسير الإنجيل (3/ 85 و3/ 135)
2 تفسير المنار (7/ 338)
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 سورة الفتح، الآية (29)
5 سورة البقرة، الآية (119)
الْمُرْسَلِينَ} 1، وهذا النوع شهادة بغير لفظ الشهادة، قال:"وهي غير شرط في صحتها خلافاً لبعض الفقهاء" 2، ولكن وردت الشهادة بلفظها أيضاً ـ كما في الآيات التي في صدر البحث. وأورد منها الشيخ رشيد قوله تعالى:{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 3، وقوله تعالى:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 4، فهذا النوع الأول يشمل الشهادة بلفظ الشهادة وبغير لفظ الشهادة، وأما النوع الثاني من شهادة الله لرسوله بالرسالة فهو: تأييده له بالآيات الكثيرة، وأعظمها القرآن. ومنها غير القرآن من الآيات الحسية، والأخبار النبوية بالغيب. والنوع الثالث من شهادته تعالى لرسوله: شهادة الكتب السابقة له وبشارة الرسل به 5.
وأما القسم الثاني: وهو شهادة الله تعالى لما جاء به الرسول من التوحيد والبعث، فيقسمه الشيخ رشيد إلى ثلاثة أنواع كذلك:
أحدها: شهادة كتابه بذلك، كقوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6.
ثانيها: ما أقامه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق على توحيده واتصافه بصفات الكمال.
ثالثها: ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان الفطري، وبالألوهية وبقاء النفس وما هدى إليه العقول السليمة من تأييد هذا الشعور الفطري بالدلائل والبراهين 7.
1 سورة البقرة، الآية (252)
2 تفسير المنار (7/ 339)
3 سورة النساء، الآية (166)
4 سورة الرعد، الآية (43)
5 تفسير المنار (7/ 339 ـ 340)
6 سورة آل عمران، الآية (18)
7 تفسير المنار (7/ 340)
ويلخص الشيخ رشيد هذا المعنى كله بقوله: "علم مما بيناه أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان، وآياته في العقل والوجدان، وهذه الآيات قد بينها القرآن وأرشد إليها، فهو الدعوى والبينة والشاهد والمشهود له، وكفى به ظهوراً بالحق وإظهاراً له، أنه لا يحتاج إلى شهادة غيره له
…
" 1.
خامساً: الآيات الكونية:
وفي سياق المقارنة بين آيات نبينا صلى الله عليه وسلم العقلية العلمية، وآيات من سبقه، أثبت رشيد رضا وقوع آيات كونية لنبينا صلى الله عليه وسلم على نحو ما وقع لمن سبقه من الأنبياء، إلا أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم قد رويت "بالأسانيد المتصلة تارة والمرسلة 2 أخرى" وهي "أكثر من كل ما رواه الإنجيليون وأبعد عن التأويل" 3، ومع ذلك فإنه "لم يجعلها برهاناً على صحة الدين ولا أمر بتلقينها للناس" 4، وذلك لأن "الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها، لأن البشر قد بدؤوا يدخلون بها في سن الرشد والاستقلال"5.
وأما هذه الآيات الكونية "فلم يكن لإقامة الحجة على نبوته ورسالته، بل كان من رحمة الله تعالى وعنايته به وبأصحابه في الشدائد" 6، ومن هذه الآيات: "شفاء المرضى 7، وإبصار الأعمى 8، وإشباع العدد الكثير
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 الرواية المرسلة: هي التي لم يذكر فيها اسم الصحابي. انظر: ابن الصلاح: المقدمة (ص: 71)، وأحمد شاكر: شرح ألفية السيوطي في علم المصطلح (ص: 26)
3 الوحي المحمدي (ص: 79)
4 المصدر نفسه.
5 المصدر نفسه (ص: 79 ـ 80)
6 الوحي المحمدي (ص: 80 ـ 81)
7 انظر: الطبراني: المعجم الكبير (5/ 275)، والهيثمي: مجمع الزوائد (8/ 298)
8 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (8/ 297 ـ 298)، وانظر أيضاً: الترمذي: ك: الدعوات، باب: 119، ح:3578.
من الطعام القليل في غزوة الأحزاب 1، وفي غزوة تبوك 2، كما وقع للمسيح عليه السلام 3، ومنها: تسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ في الرمل ببدر، ولم يصب المشركين من غيثها شيء 4، ومثل ذلك في غزوة تبوك إذ نفد ماء الجيش في الصحراء والحر شديد، حتى كانوا يذبحون البعير ويخرجون الفرث من كرشه ليعتصروه ويبلوا ألسنتهم، على قلة الرواحل معهم 5
…
" 6.
ويرى رشيد رضا أن معجزات الأنبياء من هذا النوع لا تتفق مع عقلية العصر الحديث التي أصبحت لا تؤمن إلا بالمعقول وبما تحسه فقط، وتنكر ما يخرح عن قوانين الطبيعة، فمعجزات الرسل قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أصبحت شبهة على الدين عند علماء العصر، وكما يقول رشيد رضا "إن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته، ولا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وإن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة"7. ولكن يرد رشيد رضا من هذه الآيات: انشقاق القمر.
1 انظر: البخاري: الصحيح، ك: المغازي، باب: غزوة الأحزاب، ح: 4101، و 4102.
2 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 11 (1392)
3 انظر: متى (14/ 13 ـ 21) ، ويوحنا (6/ 5 ـ 14)
4 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 279ـ 280)، وابن هشام: السيرة (2/ 658)، وأحمد: المسند (2/192) ح: 948، ت: شاكر. وقال: إسناده صحيح، وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير حارثة بن مضر وهو ثقة. مجمع الزوائد (6/ 76)
5 انظر: ابن خزيمة (1/ 52 ـ 53)، وابن حبان: الإحسان (2/ 331) ، والحاكم (1/ 159)،وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراين في الأوسط ورجال البزار ثقات: مجمع الزوائد (6/ 194 ـ 195)
6 الوحي المحمدي (ص: 81)
7 مجلة المنار (34/ 793) وقد نسب مصطفى صبري لرشيد رضا بناء على هذه الكلمة إنكاره لمعجزات النبياء. انظر: مصطفى صبري: موقف العقل (1/ 347 و 1/ 25)
انشقاق القمر:
من الآيات التي أكرم الله تعالى بها نبيه آية انشقاق القمر نصفين بناء على اقتراح أهل مكة وسؤالهم 1، وقد تواترت بذلك الأحاديث 2، وأجمع على الإيمان بها أهل السنة 3، وأنكرها جمهور الفلاسفة بحجج لا تستحق أن يلتفت إليها 4، وقد قال الله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 5 "ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة، أنه لو لم يكن انشق لأسرع المؤمنون بها إلى تكذيب ذلك، فضلاً عن أعدائه الكفار والمنافقين، ومعلوم أنه كان أحرص الناس على تصديق الخلق له، واتباعهم إياه، فلو لم يكن انشق لما كان يخبر به ويقرئه على جميع الناس ويستدل به ويجعله آية له"6.
لقد رد الشيخ رشيد دعوى تواتر أحاديث انشقاق القمر، ثم طفق يوهن من أمر ما روي في الصحيحين، فقال إن ما روي على شرط الشيخين هو حديث واحد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 7، وأما حديثا أنس 8 وابن عباس 9 رضي الله عنهما فزعم أنهما مرسلان. قال: "والخلاف في الاحتجاج بالمراسيل معروف ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقاً يبني احتجاجه على أنهم يروون عن مثلهم، ولكن ثبت أن بعضهم
1 انظر: البخاري: الصحيح، ك: المناقب، باب: وانشق القمر، ح: 4865 ـ 4867 (7/ 182) مع الفتح.
2 حكى التواتر: ابن كثير: التفسير (4/ 263)، وابن حجر: الفتح (7/ 183 و185)، وابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 160)
3 انظر: القاضي عياض: الشفا (1/ 213)
4 ابن حجر: الفتح (7/ 183)، وابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 180)
5 سورة القمر، الآية (1)
6 ابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 161)
7 البخاري: التفسير: سورة اقتربت الساعة، باب: ومن سورة القمر، ح: 4864 (8/ 617)، ومسلم: صفات المنافقين، باب: انشقاق القمر، ح: 43 (2800)(4/ 2158)
8 البخاري: مناقب الأنصار، باب: انشقاق القمر، ح: 3868 (7/ 182)
9 البخاري: التفسير: سورة اقتربت الساعة، باب: وانشق القمر، ح: 4866 (8/ 617)
كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار، وعلى كل حال لا يصح في مراسيلهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى من شاهد المروي ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط
…
" 1.
ثم ذكر الشيخ رشيد أيضاً مطعناً آخر وهو دعوى اختلاف المتون في أحاديث انشقاق القمر 2، وإشكال خفاء هذه الحادثة على جميع الأقطار 3، ثم أورد ما أسماه الإشكال الأصولي الأعظم وهو "أن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب الاستئصال لكل قوم اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك
…
" 4. وقال: "وجملة القول أنه لو صح أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدق نبوته وأن الله تعالى أجابهم إلى طلبهم فجعل انشقاق القمر آية كما هو نص حديث أنس في الصحيحين وغيره في غيرهما لعذب الله أمته وقومه باستئصالهم على حسب القاعدة الصحيحة الثابتة بالنص القطعي
…
" 5.
ولذلك فإن الشيخ رشيد خص حديث أنس رضي الله عنه الذي يثبت اقتراح قريش لهذه الآية ـ بمزيد من الطعن.
ثم إن الشيخ رشيد حمل آية الانشقاق في سورة القمر على وجه آخر حاول فيه الاعتضاد بمعاجم اللغة. واتهم المفسرين أيضاً بالتساهل في تصحيح روايات انشقاق القمر حباً في تكثير دلائل النبوة بالمعجزات الكونية 6.
والحق أن الشيخ رشيد كان في غنى عن كل ذلك، لأن الأحاديث المروية كافية في إثبات هذا الحادث العظيم، وكل ما أورده هو ومن قبله من الاعتراضات ليست مما يصمد أمام الفحص والنظر الصحيح.
1 مجلة المنار (30/ 262 ـ 263)
2 المصدر نفسه (30/ 264)
3 المصدر نفسه (30/ 270)
4 المصدر نفسه (30/ 364)
5 المصدر نفسه.
6 مجلة المنار (30/ 372)
فتواتر الأحاديث في هذا مروي عن عدد من المحدثين 1 وهم المرجع في ذلك "وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم، وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته
…
" 2.
وأما خفاء هذا الحادث على جميع الأقطار فهي شبهة واهية لأن "الأمر في هذا خارج عما ذهبوا إله من قياس الأمور النادرة الغريبة إذا ظهرت لعامة الناس
…
وذلك أن هذا شيء طلبه قوم خاص من أهل مكة على ما رواه أنس بن مالك فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليلاً لأن القمر آية الليل ولا سلطان له بالنهار، وأكثر الناس في الليل تنام ومستكنون بأبنية وحجب والأيقاظ البارزون منهم في البوادي والصحاري قد يتفق أن يكونوا في ذلك الوقت مشاغيل بما يلهيهم من سمر وحديث
…
وكثيراً ما يقع للقمر كسوف فلا يشعر به الناس حتى يخبرهم الآحاد منهم، والأفراد من جماعتهم
…
ولو أحب الله أن تكون معجزات نبيه عليه السلام أموراً واقعة تحت الحس قائمة للعيان حتى يشترك في معاينته الخاصة والعامة لفعل ذلك، ولكنه سبحانه قد جرت سننه بالهلاك والاستئصال في كل أمة أتاها نبيها بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا بها، وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها التي دعاهم إليها وتحداهم بها عقلية، وذلك لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الأفهام، ولئلا يهلكوا فيكون سبيلهم سبيل من هلك من سائر الأمم المسخوط عليهم المقطوع دابرهم، قلم يبق لهم عين ولا أثر، والحمد لله على لطفه بنا
…
" 3. ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} 4، فهذه الأمة مرحومة
1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (6/ 730)، وحاشية (6) (ص:716)
2 ابن تيمية درء التعارض (7/ 32)
3 الخطابي: أعلام الحديث (3/ 1618 ـ 1620)، وانظر أيضاً: ابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 447 ـ 451)، وانظر أيضاً: عياض: الشفا (ص: 215)
4 سورة الأنفال، الآية (33)
موعودة بألا تستأصل بسنة عامة 1. فهذا جواب لشبهتين أوردهما الشيخ رشيد في آن واحد ـ وأما تفسير الآية بما يوافق الأحاديث فهو ما عليه المفسرون 2. فيكون الشيخ رشيد قد جانب الصواب في هذه المسألة 3.
1 انظر: الترمذي: السنن، ك: الفتن، باب: ما جاء في سؤال النبي (ثلاثاً في أمته، ح: 2175 و2176 (5/ 471 ـ 472)
2 انظر: الزجاج: معاني القرآن (5/ 81) وذكر أنه إجماع المفسرين.
3 وقد أشرت قبل قليل إلى أنه يمكن أن رشيد رضا قد أخذ هذا من فلسفة محمد عبده بناءً على مذهب الفلاسفة في مثل هذه الآيات.