الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ذكرت انتقاد الشيخ رشيد لطريقتهم وفي هذا الفصل دليل آخر على التطور الفكري للشيخ رشيد ـ فإنه في الأعداد الأولى من المجلة ـ وبالتحديد في العدد الثاني كان قد شرع في شرح العقيدة في دروس مسلسلة وبدأ يشرح أدلة المعرفة بناءً على نظرية المتكلمين، معتمداً على مراجعه كالمواقف للإيجي، والمقاصد للسعد التفتازاني وشرحه لها 1.
1 انظر: مجلة المنار (2/ 506 ـ 507) و (2/ 522)
المطلب الخامس: موقف رشيد رضا من مسألة "حدوث العالم
":
ذكرت قبل ذلك أن مسألة "حدوث العالم" دليل عقلي شرعي، فيستدل بها على قدرة الله تعالى وحكمته ووحدانيته، وهي ترتبط بطريقة النظر في المخلوقات، فإن كانت طريقة النظر في الملكوت تدل على معرفة صفات الله تعالى بواسطة النظر في خلقه ودقته وإتقانه ونظامه، فإن حدوث العالم يدل على ذلك بواسطة النظر إلى إيجاده من بعد عدمه، وإبرازه للوجود بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً.
ونحن نتفق مع المتكلمين على "حدوث العالم"، ولكن لا نسلم لهم هذه المقدمات التي رتبوها، والنتائج التي التزموها بناء على تلك المقدمات.
فالعلم بحدوث العالم مشاهد محسوس بدهي، لا يحتاج إلى استدلال بحدوث الأعراض، ولا أنها لا تبقى زمانين، إلى آخر ما ذكر المتكلمون من مقدمات.
" فإن من الصعوبة بمكان تقرير المقدمات التي يتركب منها هذا الدليل، من إثبات الجواهر الفردة التي تتركب منها الأجسام أولاً، ثم إثبات الأعراض التي هي صفات الأجسام ثانياً، ثم إثبات حدوث تلك الأعراض بإبطال ظهورها بعد الكون وإبطال انتقالها من محل إلى محل ثالث، ثم إثبات امتناع حوادث لا أول لها، وإنّ ما لا يخلو عن الحوادث جنساً أو
عيناً فهو حادث، إلى غير ذلك مما في مقدمات هذا الدليل من طول وخفاء وتفصيل يتعذر معه ثبوت المدعى.." 1.
أما قانون السببية وهو أن " المحدث لا بد له من محدِث، أو لا شيء يكون من لا شيء" فهو أمر بدهي وعلم فطري ضروري.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "..إن العلم بالمحدَث لا بد له من محدِث علم فطري ضروري، ولهذا قال الله تعالى في القرآن:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 2
…
"3. ويقول أيضاً: "..إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدِث، وهذا يكفي فيه حدوث الإنسان نفسه، أو حدوث ما يشاهد من المحدثات، كالنبات والحيوان وغير ذلك، ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدَث لا بد له من محدِث.." 4.
لكن المتكلمون أفسدوا هذا الدليل بما وضعوا له من مقدمات، اختلفوا حول أكثرها، وأكثرها لا يسلم لهم، ومن العجب الذي لا ينقضي أن هذه الطريقة التي شرعها المتكلمون لإثبات وجود اله تعالى قد أفضت بهم بعد التزامهم لوازمها، إلى وصف الله تعالى بصفات العدم، الغير موجود، فأفضى بهم إلى التعطيل والإلحاد، على تفاوت منهم في ذلك 5.
وصار هذا هو الأصل الذي يبنون عليه مذهبهم في إنكار وجحد صفات الله تعالى 6.
والمقصود الآن الوقوف على رأي الشيخ رشيد في هذه المسألة، ليتم
1 محمد خليل الهراس: ابن تيمية السلفي (ص: 68)
2 سورة الطور، الآية (35)
3 الجواب الصحيح (2/ 101)
4 درء التعارض (3/ 98)
5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (16/ 444، 454)
6 انظر في تفصيل ذلك: د. عطا صوفي: الأصول التي بنى عليها المبتدعة مذهبهم في الصفات (1/317) وما بعدها. ط. مكتبة الغرباء، الأولى 1418هـ.
لنا تصور كامل لمنهجه في إثبات ربوبية الله تعالى. فنقف على موقفه من أصل هذا الدليل ثم من طريقة المتكلمين واستدلالهم بقصة الخليل عليه السلام ورأيه في إيجاب هذا الطريق دون غيره.
معنى حدوث العالم:
وقبل أن نخوض في هذه المسألة نتبين معنى "حدوث العالم" فإن هذا المصطلح قد اعتورته أفهام مختلفة.
فالذي يظهر ويهدي إليه الفهم بادئ الرأي من هذه الكلمة أن كل ما سوى الله مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، وأن الله وحده هو القديم الأزلي ليس معه شيء قديم تقدمه بل كل ما سواه كائن بعد أن لم يكن.
ولكن يذهب المتكلمون مذهباً آخر في فهم هذا المصطلح "حدوث العالم" فمعناه عندهم أن الله تعالى لم يزل لا يفعل شيئاً ولا يتكلم بمشيئة، ثم حدثت الحوادث من غير سبب يقتضي ذلك وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، ويبنون على ذلك نفي أفعال الله تعالى وصفاته الاختيارية.
ويذهب الفلاسفة إلى فهم آخر، فيرون ـ إذا قالوا إن العالم محدث ـ أنه معلول لعلة قديمة أزلية، أوجبته، فلم يزل معها، وهذا هو ما يسمونه الحدوث الذاتي1 حكما سوف نفصل فيما يأتي بإذن الله.
فهذا الاصطلاح قد أتت عليه هذه التفسيرات وذهب فيه المتكلمون مذهباً، وسلك الفلاسفة طريقاً آخر في تفسيره.
وأما ما دل عليه القرآن وجاء به نبينا ـ بل والنبيون جميعاً ـ فهو المعنى الأول 2.
أـ موقف الشيخ رشيد من قول المتكلمين:
نرى الشيخ رشيد بادئ الرأي لا يوافق المتكلمين على طريقتهم في
1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 125 ـ 126)
2 المصدر نفسه
عرض هذا الدليل ويرجح عليها طريقة القرآن الكريم. فيقول:
"المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن الدلائل التي تبنى على خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبر من نفعها، وإنما الطريقة المثلى لذلك طريقة القرآن الكريم وهي عرض محاسن الخليقة وأسرارها على العقل وتذكيره بحكمة مبدعها البالغة وقدرته العظيمة وعلمه والواسع وتفرده بالخلق والتكوين والرحمة والإحسان.."1.
ويقول عن استدلالهم بالمقدمات المنطقية، والاصطلاحات الكلامية، كالدور والتسلسل:
"لماذا تقول للمسلم الخالي الذهن من الشبهات والشكوك: لو لم يكن للعالم إله للزم الدور والتسلسل، وكل منهما باطل فما أدى إليه وهو عدم وجود إله: باطل، فثبت نقيضه وهو أن للعالم إله، ثم نحاول أن نفهمه معنى الدور والتسلسل والبرهان على بطلانهما.. وقد رأينا كثيراً من المتصدرين لتدريس علم الكلام يذكرون ما كتب من الاستدلال على بطلان الدور والتسلسل وهم لا يفهمون ما يقولون"2.
وأما عن وجوب اعتقاد واتباع هذه الطريقة، وما يتبعها من قضايا، كالحدوث بالذات أو بالزمان 3، فهل يجب ذلك أولا يجب، فيجيب الشيخ رشيد بقوله:"الصواب في الرأي الثاني. وما كان دين الفطرة مقرر الحنيفية السمحة الذي ظهر في الأميين، ودعا إليه المتوحشين والممدنين، أن يكلف كل فرد في تصحيح الإيمان بنظريات فلاسفة اليونان، والتمييز بين تلك الخلافات في الحدوث بالزمان أو الحدوث بالذات، ثم خلافات الفلاسفة مع أهل الكلام في أصل وجود الزمان.."4.
1 مجلة المنار (11/942)
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 الحدوث الزماني: هو السبق بالعدم سبقاً زمانياً، والحدوث الذاتي: هو كون الشيء مفتقراًفي وجوده إلى الغير. انظر: د. جميل صليبا: المعجم الفلسفي (1/433ـ 434)
4 مجلة المنار (5/ 581 ـ 582)
والدليل على بطلان هذا الرأي ـ أي القائل بالوجوب ـ أن القرآن الكريم، وهو الكتاب الذي أنزله الله لهداية عباده، وإرشادهم للطريق التي هي أقوم، لم يذكر هذه المسائل والخلافات الفلسفية. فـ "المقصد الأول من مقاصد القرآن المبين تقرير عقائد الدين، ثم هو لم ينطق بكلمة من مادة الحدوث للأعيان لا بحسب الذات ولا بحسب الزمان.."1.
رد الشيخ رشيد على المتكلمين في استدلالهم بقصة الخليل:
وقد ذهب المتكلمون يبحثون عن مستند لهم في الكتاب العزيز يؤيد طريقتهم في هذا الدليل أعني دليل الأعراض وحدوث الأجسام، فاستدلوا بقصة الخليل إبراهيم مع قومه عندما ناظرهم لإثبات بطلان ألوهية الأصنام التي كانوا يعبدونها.
وتمسكوا بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} 2 فقالوا الأفول هو الحركة والانتقال من مكان إلى مكان، وزعموا أن هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث والإمكان 3.
وأرادوا بذلك تصحيح طريقة الأكوان وحدوث الأجسام.
والحق أن هذا الاستدلال باطل فإن مقام الخليل مع قومه لم يكن مقام نظر بل مقام مناظرة لإبطال ألوهية ما يعبدون من دون الله وإثباتها لله تعالى.
وقد رد الشيخ رشيد رحمه الله استدلالهم هذا باللغة والعقل، وبيان المعنى الصحيح للآية فقال:
"وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث أو الإمكان. وهو تفسير للشيء بما قد يباينه فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 سورة الأنعام، الآية (86)
3 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/100ـ 101 و103)
الأفول في غروب القمرين والنجوم وفي استقرار الحمل وكذا اللقاح في الرحم، فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني وهو الغيوب والخفاء. وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى مكان آخر وهو ظاهر غير محتجب، وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضاً وهو غلط كسابقه لأن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها1.
ويستعين الشيخ رشيد بعلم الفلك الحديث أيضاً في رد هذا القول وبيان بطلان هذا الاستدلال فيقول: "ومذهب المتأخرين من علماء الفلك ـ وهو الصحيح ـ أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليست من سبب أفولها المشاهد في شيء.."2.
ثم بين المعنى الصحيح للآية، والذي يبطل أيضاً تفسيرهم لها، فيقول:
" {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي: فلما غرب هذا الكوكب واحتجب، قال لا أحب من يغيب ويحتجب، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب.. والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه، ويوحشه فقد جماله وكماله، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة،.. وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فلا يجوز أن يكون إلا للرب الحاضر القريب السميع البصير القريب، الذي لا يغيب ولا يأفل ولا ينسى ولا يذهل"3.
وقال: "وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم، ولا يدري شيئاً من أمر عبادتهم، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ
1 تفسير المنار (7/ 559) وقارن مع ابن تيمية: المصدر السابق (1/111)
2 المصدر نفسه والصفحة، ولا يعني ذلك أن الرشيد رضا ينكر حركة الشمس.
3 تفسير المنار (7/ 558)
شَيْئاً} 1 ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها وبقدمها مع حركتها.." 2.
ثم يلخص الشيخ رشيد كل ذلك بقوله: "ما ذكره الرازي وغيره من مفسري المتكلمين في هذه المحاجة تكلف لا تدل عليه العبارة ولا يقتضيه العقل ولا تتوقف عليه الحجة.."3.
الحل الصحيح لمسألة حدوث العالم:
هذا هو موقفنا من طريقة المتكلمين في مسألة حدوث العالم، ورفض مسألة الأكوان وحدوث الأجسام ولوازمها، إلا أننا نقرر أن أصل هذا الدليل صحيح، وكما ذكرت قبل، ولقد كان استدلال القرآن بحدوث الإنسان هو المصحح له، ولكن استدلال القرآن كان استدلالاً بسيطاً غير مركب، وسهلاً غير معقد، من درجة واحدة وبلا مقدمات.
فالفرق كبير بين الاستدلال بحدوث الإنسان والاستدلال على حدوثه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له،.. والفرق بين الاستدلال بحدوثه والاستدلال على حدوثه بيّنٌ والذي في القرآن الأول لا الثاني.."5.
1 سورة مريم، الآية (42)
2 تفسير المنار (7/ 559)
3 المصدر نفسه (7/ 570)
4 سورة الإنسان، الآيتان، (1 ـ2)
5 درء التعارض (7/ 219)
ويضع الشيخ رشيد هذه المسألة في وضعها الصحيح فيقول: "إن هذه الكائنات في جملتها حادثة لم يكن شيء منها كما نعرفه الآن وفيها من الإبداع والنظام ما يستحيل أن يكون حصل بالمصادفة أو يكون مصدره العدم المحض، بل يجب عقلاً أن يكون هذا الإبداع والنظام العجيب في العوالم العلوية والأرضية مصدر وجودي.."1.
"فللناظر أن يقول: إن اطراد مسألة السنن الإلهية في العوالم العلوية والسفلية، ووحدة النظام مع الإتقان في جميع هذه الأكوان، يدلان على أن لها خالقاً عليماً قادراً حكيماً حياً قيوماً، لا راد لإرادته ولا معقب لحكمه وحكمته، وبهذا يكون مؤمناً بالبرهان متبعاً لطريقة القرآن وإن لم يخطر بباله حدوث الذات وحدوث الزمان"2. وهذا هو الصواب فالقائل بهذه الطريقة مؤمن بالعقل وبالشرع، لأنها على هذا الوضع تكون طريقة عقلية شرعية، "فإن الفاضل إذا تأمل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية.." 3.
والذي حدا بالشيخ رشيد إلى اعتبار هذه الطريقة على هذا النحو هو أنه وجدها "..أقرب الدلائل تنبيهاً وإقناعاً لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية كما ثبت بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات حادث عندهم حتى أنهم ليقدرون للأرض والشمس والكواكب أعماراً لقطعهم بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه ولا عن معدوم كما قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 4.
فتعين أن يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي.." 5.
1 مجلة المنار (13/ 913)
2 المصدر نفسه (5/ 582)
3 ابن تيمية: الأصفهانية (ص: 33)
4 سورة الطور، الآية (35)
5 مجلة المنار (7/ 139 ـ 140)
موقف الفلاسفة من حدوث العالم:
وأما الفلاسفة فالمشهور عنهم القول بقدم العالم، والحق أنهم مختلفون في ذلك فليسوا جميعاً على قول واحد.
فالقدماء منهم قائلون بحدوث صورة العالم، ولهم في المادة كلام فيه اضطراب 1.
وأول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو، وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة العالم، وإن كان لهم في مادته أقوال. فجمهور الفلاسفة مع عامة المشركين من الهند والعرب وغيرهم والكتابيين، متفقون على أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق بعد أن لم يكن.
فهو مذهب جماهير الفلاسفة، لكن حكي عن بعضهم أن تلك المادة ـ أي التي خلق منها العالم ـ قديمة أزلية. وهذا رأي باطل أيضاً 2.
ويحكى القول بحدوث العالم عن أفلاطون، وأما ابن سينا فقد تبع أرسطو في ذلك 3.
والحق أن الفلاسفة اتفقوا في أمرين واختلفوا في الثالث:
فالأمر الأول الذي اتفقوا عليه هو:
1ـ حدوث العالم بأسره بمعنى حدوثه الذاتي واستناده إلى العلة الفاعلة. فهذا مجمع عليه عندهم.
2ـ والأمر الثاني: هو اتفاقهم على عدم الحدوث الزماني، بمعنى أن يكون لوجوده ـ أي العالم ـ بدء زماني مسبوق بزمن سابق وعدم مستمر، فهذا مما لا خلاف بينهم في عدم جوازه.
1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (8/ 286)
2 المصدر نفسه (1/122 ـ 123)
3 انظر: محمد رمضان عبد الله: الباقلاني وآراؤه الكلامية (ص: 357) ط. الأولى، مطبعة الأمة، بغداد 1986م.
وأما الخلاف ففي أمر ثالث هو الحدوث الدهري أي قبل خلق الأفلاك، والاستناد إلى المبدع الصانع المخرج لنظام العالم بجملته من العدم الصريح إلى الوجود في الدهر. فأفلاطون قائل بهذا النوع من الحدوث بخلاف أرسطو وأتباعه1.
"والذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب: أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله.. كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والشمس والقمر هما من السماوات والأرض وحركتهما بعد خلقهما، والزمان مقدر بحركتهما ـ وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما ـ إنما حدث بعد خلقهما.. فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخرى غير حركة الشمس والقمر"2.
وهذا العرض السابق هو ما يقرره الشيخ رشيد إذ يعرض رأي الفلاسفة قديماً وحديثاً ثم يعقب ذلك بالرأي الصحيح ـ في نظره ـ إذ يقول: "أما مسألة حدوث العالم في نظر الفلاسفة فالمتفق عليه عند فلاسفة هذا العصر أن كل ما نراه ونحس به من هذه العوالم الأرضية والسماوية فهو حادث بمعنى أنه لم يكن كما هو الآن ثم كان.
ولكن عضلة العقد عند المتقدمين والمتأخرين هي مسألة منشأ التكوين، وهم متفقون على أن الوجود المطلق قديم وأن العدم المطلق لا حقيقة له ولا يتصوره العقل، وأنه لا يحدث شيء من لا شيء.. ونحن نقول إنها الطريقة التي جرى عليها القرآن وقررها الإسلام، فليس في كتاب الله آية تدل على أن الوجود الحقيقي صدر عن العدم الخيالي، بل قال {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 3 والخلق لغة: الترتيب وهو لا يكون في العدم. بل قال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} 4 وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً
1 المصدر نفسه (ص: 355ـ 356)
2 ابن تيمية: درء التعارض (1/ 122 ـ 123)
3 سورة الفرقان، الآية (2)
4 سورة الأنبياء، الآية (30)
أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} 1.." 2.
فإذا كان هذا هو الذي جاء به القرآن وقد جاء أيضاً بحدوث العالم فقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً..} 3، فما هو وجه الجمع بين الرأيين؟ يجيب الشيخ رشيد على تساؤلنا هذا قائلاً:"وحل المسألة بطريقة إسلامية؛ أن هذا الوجود الذي كله ممكن 4 حادث 5، وأنه صدر عن وجوب واجب قديم، لا تعرف حقيقته ولا كيفية صدوره عنه، وإنما قام البرهان بأنه صدر بإرادة وقدرة وعلم وحكمة.."6.
فيرى الشيخ رشيد أن هذا الوجود الحادث صدر عن إرادة قديمة وعلم قديم وحكمة قديمة ولا يكون ذلك إلا صدروه عن إرادة الله تعالى وحكمته وقدرته وعلمه وهذا في رأيه هو حل المسألة الفلسفية.
وهو بهذا يحاول أن يوفق بين ما جاء به القرآن مع ما ذهب إليه الفلاسفة ما عدا أرسطو وأتباعه من الكفار ولا يكون هناك مناقضة بين ما ذهب إليه الحكماء وما جاء به القرآن من حقائق الخلق والتكوين.
1 سورة فصلت، الآية (11)
2 مجلة المنار (5/ 582)
3 سورة الإنسان، الآية الأولى.
4 التقسيم إلى ممكن وواجب هو اصطلاح الفلاسفة.
5 التقسيم إلى حادث وقديم هو اصطلاح المتكلمين.
6 مجلة المنار (5/ 582)