الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس: مظاهر الشرك:
وقد تناول الشيخ رشيد رحمه الله في كتاباته مظاهر الشرك في القديم والحديث ـ وقارن بينها، ودعا إلى نبذها، والعودة إلى التوحيد الخاص لأنه أساس الإصلاح 1، وحارب الشيخ الوثنية الحديثة بكل مظاهرها.
ونأخذ من هذه المظاهر التي تكلم عليها الشيخ ما يلي:
أولاً القبور:
تقدم قبل قليل أن أصل الشرك وسببه هو الغلو في الصالحين، وقد رأينا الدليل على ذلك حتى من كتاب الله تعالى، وكيف أنه ـ كذلك ـ نهى عن الغلو. ومن هذا الغلو: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة أو الصحبة أو الولاية، وشد الرحل إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك، فتارة يسألونه وتارة يسألون الله عنده، وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره 2.
ولما كان هذا بدء الشرك سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، وعن تشييد القبور والمبالغة في تعظيمها واتخاذ السرج عليها.
ولكن ـ وبكل أسى ـ فقد وقع في الإسلام من ذلك ما وقع وعمت به البلوى، فاتخذت القبور مساجد وقصد أصحابها، واعتقد أنهم ينفعون ويضرون، ويحج إليها. ومن هؤلاء من يظن أن القبر إذا كان في مدينته أو قريته فإنهم بركته يرزقون وينصرون، وأنه يندفع عنهم الأعداء والبلاء بسببه 3.
1 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 55)
2 المصدر نفسه.
3 ومع ذلك فإن بلاد المسلمين ـ والتي لا تكاد تخلو من هذه البوى ـ قد وقعت جميعاً طعمة سائغة في أيدي أعدائها ـ ولم تسلم من ذلك إلا الأرض التي خلت من هذه القبور. انظر: ابن تيمية: الرد على الأخنائي (ص: 81) والرد على البكري (ص: 376 ـ 377)
وهؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصده العابدون لله. فمنهم من يقصد قضاء حاجته وإجابة سؤاله. وهو يقول: هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم وهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي، وقد ينذر لهم ليرضيهم كما يتقرب المسلمون بما يتقربون به إلى الله من الصدقات والضحايا 1.
وقد نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد، وتواتر هذا المعنى عنه صلى الله عليه وسلم ومن الأحاديث التي وردت في النهي عن ذلك؛ قوله صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2. وقوله: "
…
ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" 3.
وقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"4.
وغيرها من الأحاديث التي لا تحتمل ولا التشكيك، ومع ذلك فقد وقع في الأمة ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ رشيد عن القبور مقارناً بينها وبين أصنام وأوثان الجاهلية: "
…
وقد يظن من أشرك بعض الأولياء مع الله تعالى هذا النوع من الإشراك أن هذا التوبيخ لا يوجه إليهم، وأن هذه الحجة لا تقوم عليهم، لأن أولئك كانوا يدعون جماداً وشجراً لا يعقل، وهم يدعون أولياء وصلحاء، لأمواتهم حكم الشهداء في الحياة، وهم يقصدون قبورهم ويعظمونها، لأن لأرواحهم
1 انظر: ابن تيمية: الرد على الأخنائي (ص: 90 ـ 91)
2 البخاري: الصحيح، ك: الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ح: 1330 (3/ 238)
3 مسلم: الصحيح، ك: المساجد، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، ح: 528، (1/ 375)
4 أحمد: المسند، ح:7352 (2/ 246) ط. وقال القاضي أحمد شاكر: إسناده صحيح. المسند (13/ 86) ط. دار المعارف بمصر.
اتصالاً بها، وإنما جاءت هذه التفرقة من جهلهم بأن أكثر هذه الأصنام لم تنصب إلا للتذكير بأناس من الأولياء الصالحين كما رواه البخاري عن ابن عباس في أصنام قوم نوح التي انتقلت إلى العرب، وقد كانت اللات صخرة لرجل يلت عليها السويق ويطعمه الناس 1. فالأصنام والتماثيل والقبور التي تعظم تعظيماً دينياً لم يأذن به الله كلها سواء في كونها وضعت للتذكير بأناس عرفوا بالصلاح وكانوا هم المقصودين بالدعاء لما تخيلوا فيه من التأثير في إرادة الله، أو التصرف العيني في ملك الله، وهو أفحش الشرك بالله، على أنه لا فرق في المسألة بين إشراك الصنم والوثن، وإشراك الولي أو النبي أو الملك
…
" 2.
ويقول في هذا المعنى أيضاً ـ مؤكداً عليه ـ ومستدلاً بالكتاب العزيز على أن المشركين كانوا يرمزون بأصنامهم إلى أناس صالحين من الموتى. فيقول:
"إن بعض المشركين ـ بل الغالب في أفرادهم ـ يزعم أن جميع الآيات التي جاء فيها تقبيح الشرك وتوبيخ المشركين خاصة بالأصنام بمعنى الجماد، مع أننا لو تتبعنا هذه الآيات التي جاءت بشأن الشرك والمشركين لوجدناها مصرحة بأن المشركين فريقان، فريق يدعو الأصنام المجعولة تماثيل لعباد الله المقربين، وفريق يدعو المقربين غير ناظر إلى التماثيل، فما جاء في تسفيه الفريق الأول قوله تعالى:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} 3 {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 4، وما جاء في التشنيع على الفريق الثاني، قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا
1 انظر: البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: أفرأيتم اللات والعزى، ح: 4859 (8/ 478)
2 تفسير المنار (9/ 526 ـ 527)
3 سورة الصافات، الآية (95)
4 سورة الأنبياء، الآية (52)
لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1، وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
…
} 2
…
وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} 3 فهل يعقل أن الأصنام بمعنى الجماد تتصف بهذه الصفات
…
فمن عنده أدنى مسكة من عقل يدرك أن جميع هذه الصفات لا تنطبق على الأصنام بمعنى الجماد بل لا تنطبق إلا على المقربين من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين الأولياء" 4.
ويقرر الشيخ رشيد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشييد القبور وتشريفها وعن الكتابة عليها وعن إيقاد السرج عليها وعن اتخاذ المساجد عليها وأنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك ـ وأن الصحابة والتابعين مضوا على هذه السنة فلم يبنوا قبر النبي ولم يصلوا إليه، ولا بنوا قبراً لأحد من المهاجرين والأنصار 5. وكل ذلك سداً لذريعة الشرك، فيقول: "
…
ولما كان أكثر الوثنيين قد فتنوا برجال من صالحيهم حتى اعتقدوا أنهم بعد موتهم ينفعون ويضرون، وكانت هذه الفتنة سرت إلى أهل الكتاب فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وصاروا يبنون عليهم الكنائس أو ينسبونها إليهم ويتوسلون بهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن الله يقضي حاجاتهم بجاههم، أو أنه أعطاهم قوة قضائها بأنفسهم. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور وعن عمارة القبور نفسها وعن وضع السرج عليها، بل ونهى عن زيارتها في أول الإسلام،
…
ففعل المسلمون في هذه الأزمنة كل ما نهى عنه ولعن فاعله
…
" 6.
1 سورة الأحقاف، الآيتان (5 و6)
2 سورة الإسراء، الآيتان (56، 57)
3 سورة النحل، الآيتان (20، 21)
4 مجلة المنار (16/ 428)
5 المصدر نفسه (10/ 319)
6 مجلة المنار (9/ 135 ـ 136)
وأورد الشيخ رشيد بعض الأحاديث التي ذكرتها في صدر هذا المبحث، ثم قال: "
…
ومن عجيب أمر المسلمين في التلاعب في دينهم أنك في كثير من بلادهم (كهذا القطر) 1 لا تكاد تجد مسجداً إلا وفيه قبر لأحد الصالحين
…
وأنت ترى ـ لا سيما في هذا الشهر ـ شهر العبادة ـ الشموع والسرج الغازية تزهر على القبور التي شيدت عليها المساجد والقباب وترى النساء والرجال ـ حتى بعض العلماء منهم ـ يطوفون بها ويصلون إليها
…
" 2. ويعد الشيخ رشيد هذه البدع الستة من الشرك بالله ـ أو بعضها كذلك ـ وهي: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، اتخاذها أوثاناً، الطواف بها، استلامها والصلاة إليها 3.
ولقد انتشرت هذه البلوى في بلاد المسلمين واستقرت حتى صارت سنة والمنكر لها مبتدع منكر للسنة تجب مقاومته. ويقول الشيخ رشيد في هذا: "أم تر إلى ما استحدثه بعض المبتدعة في الإسلام وقلدهم فيه بعض الملوك من المنسوبين إلى السنة: من تشييد القبور، وتزيينها بالعمائم والستور، وبناء القباب فرقها، واتخاذها مساجد يصلى إليها أو لديها، وإيقاد السرج والشموع عليها، أنه قد جعل لها مكاناً وبنية كبيرة في قلوب عامة المسلمين، حتى صارت عندهم من شعائر الدين بحيث يعدون من روى لهم الأحاديث الصحيحة في لعن الله رسوله لمن يفعل ذلك ـ مبتدعاً فيه أو مارقاً منه ـ، ويبتزونه في بعض البلاد بلقب "وهابي" إذ كانت طائفة من الحنابلة في بلاد العرب سميت الوهابية قد عملوا إلى إزالة هذه المنكرات بأيديهم، لما لم يؤثر في إزالتها إنكار علماء السنة المصلحين لها بألسنتهم وأقلامهم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 4
…
" 5.
1 يعني: مصراً.
2 مجلة المنار (3/ 711ـ 714)
3 المصدر نفسه والصفحة
4 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، ح: 78 (1/ 69)
5 تفسير المنار (9/ 109)
ويدفعنا هذا إلى التساؤل عن حكم هذه القبور وإزالتها وما ينفق عليها وعلى تشييدها من الأموال.
يقول الشيخ رشيد أولاً عن حكم المساجد المبنية على القبور: "
…
ذكر بعض الفقهاء أنه يجب هدم ما بني من المساجد والقباب على قبور كثير من الأئمة آل البيت وأئمة الفقه وغيرهم من الصالحين، وارتكبوا فيها المحظورات الكثيرة التي يعد بعضها من الشرك الصريح وبعضها من البدع والمعاصي
…
ويحتجون بهدم النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد ضرار
…
" 1.
ويرى الشيخ رشيد أن الإنفاق على مظاهر تعظيم القبور وتشييدها لا يجوز فيقول جواباً لسؤال ورد إليه: ".. وكذلك لا يجوز الإنفاق منه فيما جرت به العادة من إيقاد الشرج والشموع على قبر الولي والمسجد الذي يبنى عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك، ولعن فاعله، وقد عدّ العلماء اللعنة علامة على أن الذنب من الكبائر
…
" 2. ثم أورد بعض الأحاديث الدالة على ذلك. ثم قال: "
…
أما الأموال التي يلقيها الجاهلون في تلك الصناديق توهماً أنهم يستميلون بها أصحاب القبور لتقضى حاجاتهم بواسطتهم فهي لا تخرج عن ملكهم، وكان يجب على من حضرهم أن ينهاهم عن وضعها ويبين لهم حكم الله في ذلك ولكن من يحضرونها هم الذين يأكلونها بالباطل ويشركون فيها من يشركون
…
" 3.
ومما يدل على عدم وجوب العناية بالقبور وتعيينها، وتشييدها أن ذلك لم يكن من شغل السلف الصالح، فلم يكن لهم عناية به، ولو كان ذلك واجباً أو خيراً لكانوا أسبق الناس إليه. وفي هذا الصدد يلاحظ الشيخ رشيد ملاحظة هامة فيقول: "يزيد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين في مكان قبر أبي عبيدة، كاختلافهم في تعيين كثير من قبور جلة الصحابة الكرام.. فكيف غابت قبورهم عن نظر المؤرخين ودرست أجداثهم التي
1 المصدر نفسه (1/ 433)
2 مجلة المنار (8/ 218)
3 المصدر نفسه والصفحة.
تضم أكابر الصحابة والتابعين، حتى اختلف في تعيين أمكنتها أرباب السير وعفا من أكثرها الأثر
…
والجواب عن هذا: إن الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديراً لقدر الرجال
…
إلا أنهم كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات وتعظيم الرفات لتحققهم النهي الصريح عن ذلك من صاحب الشريعة الغراء الحنيفية السمحة التي جاءت لاستئصال شأفة الوثنية ومحو آثار التعظيم للرفات أو العكوف على قبور الأموات
…
" 1.
وخلاصة هذا البحث، كما يلخص الشيخ رشيد؛ قائلاً: "
…
لم يرد في الكتاب والسنة التي يحتج بها شيء في زيارة قبور الصالحين خاصة، بل كان النهي عن زيارة القبور في أول الإسلام مقصوداً به إبعاد المسلمين عن مظنة تعظيم قبور الصالحين، ولما أذن النبي بعد ذلك بالزيارة للرجال وعلل ذلك بأنها تذكر بالموت أو بالآخرة، ظل ينهى عن تشريف القبور وبناء المساجد عليها وعن الصلاة بالقرب منها وعن إيقاد السرج عليها وكان يلعن فاعل ذلك
…
فعلم من هذه الأحاديث أن زيارة قبور الصالحين هي مظنة الفتنة وتعظيم ما لم يأذن الله بتعظيمه لا سيما إذا كانت هذه القبور محاطة بالبدع كبناء المساجد عليها وإيقاد الشموع عندها والصلاة بالقرب منها والتمسح بأحجارها ونحاسها والتماس الخير ودفع الشر منها بالاستقلال أو الواسطة، فهذه البدع والمنكرات تجعل زيارة قبور الصالحين دون زيارة سائر القبور التي تقل عندها المنكرات
…
" 2.
والحق أن مسألة زيارة قبور الصالحين والسفر إليها هي مسألة مستقلة برأسها، وإن كانت مرتبطة بمسألة القبور عموماً، ونشأ عنها خلاف وجدل كبير بين أهل السنة القائلين بالزيارة الشرعية، والمبتدعة القائلين بالزيارة البدعية الشركية، وهذا هو موضوع المبحث التالي، المشتهر باسم الزيارة، أو "شد الرحال".
1 المصدر نفسه (6/ 809)
2 مجلة المنار (7/ 59 ـ 60)
ثانياً: شد الرحال:
وأعني بشد الرحال السفر، وهو لازمه، والرحال جمع رحل وهو ـ للبعير ـ كالسرج للفرس، ويستوي ـ إذاً ـ في هذا المعنى: الرحال والخيل والبغال والحمير والسيارات والطائرات والمشي على الأقدام 1.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال ـ أي السفر ـ إلى غير المساجد الثلاثة ـ وهي: المسجد الحرام بمكة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والسجد الأقصى 2.
فهذه المساجد شرع السفر إليها لعبادة الله تعالى فيها بالصلاة والقراءة، والذكر والدعاء والاعتكاف، واختص المسجد الحرام بالطواف فلا يطاف بغيره.
وما سوى هذه المساجد لا يقصد السفر إليها، وإن صلى فيها من غير سفر إليها كان ذلك من فضائل الأعمال 3. فإن سافر من بلد إلى بلد كأن يسافر إلى دمشق من مصر لأجل مسجدها أو بالعكس، أو يسافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد، لم هذا مشروعاً باتفاق الأئمة الأربعة وغييرهم، ومننذر ذلك لم يلزمه الوفاء 4.
وإذا كان السفر إلى غير الثلاثة ـ محرماً ـ بمقتضى نهي النبي صلى الله عليه وسلم فالسفر إلى غير المساجد من الأضرحة والقبور أولى بذلك الحكم 5.
وقد كان العرب ـ في الجاهلية ـ يحجون إلى اللات ـ وهو على ما
1 انظر: النهاية في غريب الحديث (2/209 ـ 210) والرازي: مختار الصحاح (ص:100) مادة رحل. وابن حجر: فتح الباري (3/77)
2 انظر: البخاري: الصحيح، ك: فضل الصلاة: باب: فضل الصلاة في مسجد مكةوالمدينة، ح: 1189 (3/76 مع الفتح) ومسلم: الصحيح: ك: الحج: باب سفر المرأة..ح:415 (2/976) ت: عبد الباقي.
3 ابن تيمية: الجواب الباهر (ص:16) ط. السلفية بمصر.
4 المصدر نفسه (ص:17) وابن حجر فتح الباري (3/79)
5 انظر: ابن تيمية: الجواب الباهر (ص:33) والرد على الأخنائي (ص:19) ط. الهند.
قيل ـ رجل صالح كان يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره، وكانت العرب تسمي هذا حجاً 1. فدل ذلك على أن السفر إلى المشاهد المعظمة كقبور الصالحين، والأضرحة التي أقيمت عليها من جنس الحج. والحج المشروع في الإسلام هو الحج إلى المسجد الحرام، والسفر إلى بقعة للعبادة فيها هو إلى المسجدين وما سوى ذلك من الأسفار إلى مكان معظم هو من جنس الحج إليه وهو منهي عنه 2.
وأول من وضع الأحاديث التي تحض على زيارة المشاهد التي على القبور هم أهل البدع من الروافض ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها بالله تعالى ويكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم 3.
وأما زيارة القبور من غير سفر إليها وشد رحال لذلك، فله حكم آخر تجده مفصلاً في موضعه 4.
وقد وقع خلاف كبير وفتنة بسبب هذه المسألة بين فريقين، الأول: يتمسك بظاهر الأحاديث التي تنهى عن شد الرحال لغيير المساجد الثلاثة، وعلى رأسهم ابن تيمية رحمه الله، والثاني: الفريق الذي يجيز شد الرحال لقبور الأنبياء والصالحين ـ ويستدلون بأدلة من السنة ـ يقول عنها المحققون: إنها ضعيفة وموضوعة، وما صح منها لا يدل على ما يريدون وعلى رأس هؤلاء: التقي السبكي 5.
1 انظر: ابن تيمية: الجواب الباهر: (ص:19 و 29ـ 3331) وانظر: (ص:) من هذا البحث
2 انظر: ابن تيمية: المصدر نفسه (29و 31) والرد على الأخنائي (ص88) ط. الهند.
3 انظر: ابن تيمية: الرد على الخنائي (ص:47)
4 الجواب الباهر (ص:23و 43ـ 44، 47) والرد على الأخنائي (ص:20)
5 هو: علي بن عبد الكافي بن علي، تقي الدين، ولد بمصر سنة 683هـ ولي القضاء سنة 739، توفي سنة 756هـ. الدرر الكامنة (3/ 63ـ 71) ط. دار الجيل. وانظر: ابن حجر: فتح الباري (3/79ـ 80) وأيضاً الدرر الكامنة (1/149)
وأصل ذلك فتيا افتى بها شيخ الإسلام ابن تيمية في القاهرة حول هذه المسألة ابان فيها السنة، فقام بالرد عليه بعض قضاتها آنذاك. ثم أجاب عليه شيخ الإسلام بكتابه:"الرد على الإخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية" 1، ثم ألف السبكي كتاباً في ذلك وسماه:"شفاء السقام في زيارة خير الأنام" 2، أود فيه أدلته على مذهبه، وهي أدلة واهية فقد اعتمد فيه على تصحيح الأحاديث الضعيفة وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وتحريف الكلم عن مواضعه 3.وأجاب عليه العلامة ابن عبد الهادي 4.
وقد وقف الشيخ رشيد رحمه الله على هذا الخلاف بين ابن تيمية والسبكي ـ وبين أصله ـ ورجح رأي شيخ الإسلام، وحذر من كتاب السبكي، وحرض على قراءة كتاب ابن عبد الهادي 5.
قال الشيخ رشيد عن الخلاف بين ابن تيمية والسبكي:".ز وأصل الخلاف بينهما في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور. فابن تيمية أخذ بظاهر الحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" 6،
…
وذهب السبكي إلى خلاف ذلك محتجاً بأِياء كثيرة بينها في رسالة مخصوصة.." 7.
وبين الشيخ رشيد أن بين ابن تيمية والسبكي وضع اتفاق، هو زيارة القبور: " فليس في أصل استحبابها خلاف بين ابن تيمية والسبكي، ولكن الأول ينكر كل بدعة فيها، وكل ملا تشهد له السنة الصحيحة، والسسبكي يبيح بعض ذلك، ولولا ترويج مثله من العلماء المقربين من السلاطين
1 انظر: الرد على الأخنائي (ص:8) وقد طبع مرتين، فب الهند ومصر.
2 انظر: ابن عبد الهادي: الصارم المنكي (6) ط. دار الكتب العلمية
3 انظر: ابن عبد الهادي: المصدر نفسه، والصفحة.
4 هو: محمد بن أحمد بن عبد الهادي الفقيه المقرئ المحدث الحافظ النحوي، ولد سنة 705هـ وتوفي سنة 744هـ، لو عاش لكان آية. الدرر الكامنة (3/331ـ 335)
5 مجلة المنار (4/541ـ 543)
6 سبق تخريجه. انظر: (ص:) من هذا البحث
7 مجلة المنار (4/542)
والحكام للمحدثات التي تفشو بين العوام لما ثبتت بدعة بين المسلمين 1.
ويحذر الشيخ رشيد من كتاب السبكي المشار إليه لاشتماله على الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة، فيقول:"
…
وإن ترك زيارةالقبور بالمرة أهون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله لا يعذب على ترك الزيارة إذا لم يقل أحد بوجوبها، ولكن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر.." 2.
ويرى الشيخ رشيد أنه ـ لذلك ـ وحتى يأمن المرء من خطر قراءة كتاب السبكي لاحتمال وقوعه في عدة أخطار منها خطر الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وخطر الجرأة على المعاصي والبدع في الدين ـ فعليه ـ لو أراد الوقوف علة جميع حجج السبكي ومن معه أن يطالع كتاب "الصارم المنكي"، "
…
الذي ألفه العلامة الحافظ المحقق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي وطبع في هذه الأيام.." 3.
وإني أختم رأي الشيخ بجواب له على سؤال ورد إليه عن حديث شد الرحال، فأجاب عنه في مجلة المنار، فقال:"..الحديث رواه الجماعة كلهم 4 من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمر، ومعناه: أن السفر إلى هذه المساجد الثلاثة مشروع وأنه غير مشروع إلى غيرها، أما سبب ما أثبته من كونه مشروعاً إليها فلما ورد في أحاديث أخرى من فضلها، ومضاعفة ثواب الصلاة فيها 5، وكذا غيرها من العبادات، وأما
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 المصدر نفسه والصفحة
3 المصدر نفسه (4/543)
4 تقدم تخريجه من الصحيحين (ص:) وأذكر هنا باقي كتب الجماعة، رواه الترمذي: ك: الصلاة باب: في أي المساجد أفضل (243) ح:326 (2/148) وقال الترمذي: حسن صحيح. والنسائي: ك: المساجد: باب: ما تشد إليه الرحال منالمساجد (2/37) ط. دار الكتب العلمية. وابن ماحه، ك: إقامة الصلاة، باب: ماجء في الصلاة في بيت المقدس، ح: 1409 (1/452) ت: عبد الباقي.
5 انظر: البخاري: الصحيح، ك: فضل الصلاة، باب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ح: 1188 (3/ 76) مع الفتح، ومسلم: الصحيح، ك: الحج، ح:505 (1394) وما بعده (2/ 1012) عبد الباقي، والنسائي: ك: المساجد، باب: فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه، وصححه الألباني (2/ 34) ط. المكتبة العلمية، بيروت، مع حاشية السندي.
كونه غير مشروع إلى غيرها فلأن العبادات لا تشرع إلا بنص وقد جاء النص هنا بالمنع، وأما سببه وحكمته فلأن غير الثلاثة من المساجد متساوية في افضل الديني، فالسفر إلى بعضها عبث والذين يسافرون إلى أضرحة الصالحين، سواء كانت في المساجد أم لا، لإقامة الاحتفالات هنالك لهم وبأسمائهم يعتقدون أن أضرحتهم والصلاة لديها أو في المساجد التي بنيت عليها له مزية فضل وثواب، وهذا كذب وافتراء على الله وشرع مالم يأذن به الله، والحق خلافه.. وأما استباحة رخص السفر من تتميم وقصر، فمن اشترط في السفر المبيح لها أن لا يكون لسفر معصية كالشافعية لا يبيحها للمسافرين إلى الموالد المعهودة والزيارات غير المشروعة، والمختار عندنا أن ذلك ليس بشرط.
نعم إن من سافر إلى مسجد آخر لسبب فني أو تاريخي أو علمي لا يدخل عمله في عموم النهي لأنه من المباحات لا من القربات والعبادات، فالعبادة هي التي يشرط فيها ما ذكر، وكذا من يسافر إلى المساجد التي اتخذت مدارس كالأزهر وجامع الزيتونة لأجل طلب العلم، فإن طلب العلم في كل المساجد مشروع
…
" 1.
وما قاله الشيخ رشيد صحيح وموافق للسنة. قال شيخ الإسلام: "
…
تلك الأسفار لا يقصد بها العبادة بل يقصد بها مصلحة دنيوية مباحة، والسفر إلى القبور إنما يقصد به العبادة والعبادة إنما تكون بواجب أو مستحب
…
"2.
ثالثاً: الواسطة:
الواسطة لها معنيان: صحيح، وفاسد. فالصحيح من معنى الواسطة أن الأنبياء عليهم السلام ومن سوى الأنبياء من مشايخ العلم والدين، واسطة في تبليغ الوحي والرسالة، فالواسطة على هذا المعنى هي التي تبلغ
1 مجلة المنار (29/ 105 ـ 106)
2 الجواب الباهر (ص: 17 ـ 18) وأيضاً: الرد على الإخنائي (ص: 238)
أمر الله تعالى ووحيه إلى خلقه. وأجمع على هذا أهل الملل من المسلمين وغيرهم، فيثبتون الوسائط بين الله وبين عباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره. والعلماء واسطة بين الرسول وأمته، يبلغونهم ويعلمونهم ويؤدبونهم ويقتدون بهم.
والمعنى الفاسد: أنهم ـ الأنبياء والعلماء ـ وسائط بين الله وخلقه في جلب المنافع ودفع المضار، كرزق العباد ونصرهم وهداهم ـ الهداية التي لا يملكها إلا الله ـ فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، فمن جعل الملائكة والأنبياء ـ ومثلهم العلماء والصالحون ـ وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار فهو كافر بإجماع المسلمين 1. وهؤلاء ـ الذين اتخذوا هؤلاء الوسطاء ـ قد شبهوا المخلوق بالخالق وجعلوا لله أنداداً 2.
فالرسل وسطاء بلاغ لا وسطاء شفاعة. وهذا المعنى هو الذي ذهب إليه الشيخ محمد رشيد رحمه الله إذ قرره في غير موضع من كتاباته، فقال:
"مذهب السلف والخلف في الإسلام أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ دينه، كقوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 3، وقوله عزوجل:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلاغُ} 4. وغير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة بصيغة النفي والإثبات لكلمة التوحيد وأنه لا واسطة بين الله تعالى وعباده في غير تبليغ دينه، من نحو قضاء حاجة سلبية كالشفاعة للمرضى أو وقوعية كسعة الرزق أو هداية
…
،
1 انظر: ابن تيمية: الواسطة بين الحق والخلق (ص: 16، 20، 24، 25) ت: محمد جميل زينو.
2 المصدر نفسه (ص: 25)
3 سورة الكهف، من الآية (56)
4 سورة الشورى، الآية (48)
والبراهين العقلية القاطعة بأن الله تعالى غني عن المساعدة والوزير والمعين" 1.
فبطلان الواسطة ـ بمعناها الفاسد ـ ثابت بالنقل والعقل كما يقول الشيخ. وقال أيضاً: "ولم يدع فرد من الأفراد أو صنف من الأصناف الامتياز في الدين لذاته أو الواسطة بين الله وبين سائر الناس في عرض أعمالهم عليه والتوسل إليه في قبولها.."2.
وقال في موضع آخر مبيناً المعنى الصحيح للواسطة ومستدلاً عليه: "الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء، وواسطتهم إنما هي في التعليم والإرشاد لا في الخلق والإيجاد، وقد بين الله ذلك في آيات كثيرة جاءت بصيغة الحصر لتكون نصاً قاطعاً لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 3 وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً} 4، وقوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} 5
…
"6.
ومعنى قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} 7، كما يقول الشيخ: "أي لا أحد أحسن ديناً ممن جعل قلبه سلماً خالصاً لله وحده لا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجاباً من الوسطاء والحجاب، بل يكون موحداً صرفاً
…
" 8.
والشيخ رشيد في موقفه هذا متأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية ـ وكما أشرت إلى ذلك وإلى مثله في مواضع متعددة ـ: "ولقد كان الإمام ابن
1 مجلة المنار (4/ 462)
2 المصدر نفسه (1/ 407)
3 سورة الكهف، من الآية (56)
4 سورة الفرقان، الآية (56)
5 سورة الشورى، الآية (48)
6 مجلة المنار (2/ 214)
7 سورة النساء، الآية (125)
8 تفسير المنار (5/ 438) وانظر أيضاً المجلة (2/ 633)
تيمية في عصره ناصر السنة وخاذل البدعة والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد المجتهدين
…
وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ بطبع رسالة الواسطة التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم في طلب حاجاتهم للذي فطر الأرض والسماوات
…
" 1.
وقرظ الشيخ رشيد رسالة "الواسطة بين الحق والخلق" مع رسالة "رفع الملام" كلاهما لشيخ الإسلام وعلم الأعلام كما يصفه الشيخ رشيد في مجلته، وقال:"
…
وينبغي لكل مسلم بل ولكل محب للعمل أن يطلع عليهما
…
" 2.
رابعاً: الشفاعة:
لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك تعلقاً بأذيال الشفاعة، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 3 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 قطع الله أطماع المشركين فيها، وأبطل حجتهم وتعلقهم بها، فقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5، وبين سبحانه وتعالى أن الشفاعة عنده ليست كشفاعة المخلوقين عند المخلوق، بل إن الشفاعة عنده تعالى لا تكون إلا بإذنه ولمن يرضى الله تعالى شفاعته عنده، وليس ذلك باقتراح البشر وانتخابهم لهؤلاء الشفعاء والمزعومين من الأصنام والأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فقال عزوجل: {مَنْ ذَا
1 مجلة المنار (4/ 272) وانظر أيضاً (4/ 463)
2 المصدر نفسه (3/ 651)
3 سورة يونس، الآية (19)
4 سورة الزمر، الآية (4)
5 سورة الزمر، الآية (45)
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1 وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2، وإذا كان الملائكة المقربون إلا بعد إذن الله ورضاه، فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها، فهذه الآية ترد على من عبد الملائكة والأنبياء والصالحين لشفاعة أو غيرها.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ
…
} 3.
وفي هذه الآية قطع اله تعالى كل أسباب الشرك التي قد يتعلق بها المشركون، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده العابد، أو شريكاً، أو معيناً له وظهيراً، أو شفيعاً عنده تقبل شفاعته، فنفى الله تعالى هذه المراتب الأربع نفياً مرتباً متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة، والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه ولمن رضي له ذلك 4.
وقد تكلم الشيخ رشيد عن هذه الشفاعة ـ باعتبارها من مظاهر الشرك التي وقع فيها المشركون قديماً وحديثاً ـ من عدة نواحٍ.
فلقد بين الشيخ رشيد أن الشفاعة هي أصل شبهة المشركين والحجة التي تعلقوا بها في شركهم. فقال بعد أن أورد قوله تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 5 وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 6 "فهذه الشبهة
1 سورة البقرة، الآية (255)
2 سورة النجم، الآية (27)
3 سورة سبأ، الآية (22ـ 23)
4 انظر: سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 285)
5 سورة يونس، الآية (19)
6 سورة الزمر، الآية (4)
هي التي فتن بها أكثر البشر، ولم يسلم منها أهل شريعة سماوية خالطوا المشركين وعاشروهم، فقد دخلوا في الشرك من حيث لا يشعرون لأنهم لم يتخذوا معبودات المشركين شفعاء ووسطاء، بل اتخذوا أنبياءهم ورؤساءهم وظنوا أن هذا تعظيم لهم لا ينافي التوحيد
…
وقد اغتروا بظواهر الألفاظ، وجعلوا تسمية الشيء بغير اسمه إخراجاً له عن حقيقته، فهم قد عبدوا غير الله، ولكنهم لم يسموا عملهم عبادة، بل أطلقوا عليه لفظاً آخر كالاستشفاع والتوسل، واتخذوا غير الله إلهاً ورباً، ومنهم من لم يسمه بذلك، بل سموه شفيعاً ووسيلة
…
" 1.
وبين الشيخ رشيد بطلان هذه الشفاعة الوثنية التي كان يثبتها المشركون لأصنامهم، وتبعهم فيها غيرهم، ولكن أثبتوها لأنبيائهم وصلحائهم، فقال: "
…
وأما مسألة الشفاعة التي كان مشركو العرب يثبتونها لمعبوداتهم في الدنيا، وأهل الكتاب يثبتونها لأنبيائهم وقديسيهم في الدنيا والآخرة، فقد نفاها القرآن وأبطلها، وأثبت أن الشفاعة لله جميعاً، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2
…
ومنه: أن الشفاعة الثابتة في الأحاديث غير الشفاعة الوثنية والنصرانية المنفية في القرآن، وقد قرر هذه المسألة في بضع وعشرين آية من السور المكية والمدنية.." 3.ويؤكد الشيخ رشيد على هذا المعنى فيقول: "
…
الشفاعة الممنوعة هي ما حكاه القرآن العزيز عن المشركين وهي التي بمعنى الشفاعة عند الحكام لقضاء المصالح عند العجز من طرقها وأسبابها، والشفاعة الجائزة خاصة بالآخرة: وهي عبارة عن دعاء الشافع المشفع يأذن به الله ويستجيبه إظهاراً لكرامة عبده الشفيع
…
فالشافع لم يغير شيئاً من
1 تفسير المنار (2/ 353)
2 سورة الأنبياء، الآية ()
3 الوحي المحمدي (ص: 201 ـ 202)
علمه تعالى ولم يؤثر في إرادته ولم يحمله على شيء لم يكن ليفعله لولاه
…
" 1.
ثم يبين الشيخ رشيد ـ بعد هذا التقرير ـ أن الشفاعة الواقعة من العامة وغيرهم ـ هي من جنس الشفاعة المنفية، فيقول: "
…
ومن هذا التقرير يفهم أن ما عليه أكثر العامة من الاستشفاع بالأولياء وأصحاب القبور المعلومين والمجهولين لأجل دفع المكاره وجلب المنافع هو من النوع الأول الذي منعه الدين، ويخل بالاعتقاد الصحيح بالله تعالى
…
" 2.
ويقول: "وأما الشفاعة الثابتة في الأحاديث فهي غير هذه، ولا تنافي التوحيد وكون الشفاعة لله جميعاً، وسيأتي بيانه
…
" 3. ثم يبين الشيخ رشيد ـ كما وعد ـ هذه الشفاعة الجائزة الثابتة بالشرع فيقول: "وأما العفو وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهي عبارة عن دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله تعالى له فالحكمة في الأول ـ يعني العفو ـ أن لا ييأس المسرف على نفسه
…
والحكمة في الثاني ـ يعني الشفاعة ـ إظهار كرامة للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمن ارتضى
…
" 4.
فهذه حقيقة الشفاعة الثانية، فالشفعاء لا يؤثرون في إرادته تعالى فيحملونه على العفو عن المشفوع لهم، وإنما هي إظهار كرامة وجاه لهم عنده لا إحداث تأثير للحادث في صفات الله 5.
وكذلك فإن الشفاعة الثابتة لا تنفع إلا الموحدين، كما يقول الشيخ رشيد: "
…
وإن الشفاعة لا تنال أحداً يشرك بالله تعالى شيئاً" 6.
1 مجلة المنار (7/ 498 ـ 499)
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 تفسير المنار (1/ 121)
4 مجلة المنار (2/ 36 ـ 37)
5 تفسير المنار (8/ 13)
6 المصدر نفسه (7/ 273)
فتبين لنا من هذه النصوص كلها أن الشيخ رشيد ينفي الشفاعة الشركية، مع إثباته للشفاعة الحاصلة في الآخرة ـ بإذن الله تعالى ـ وهو الصحيح 1.
خامساً: الاستغاثة والاستعانة:
الاستغاثة والاستعانة بمعنى واحد 2، فيقال: استغاثه واستغاث به، كما يقال إنه استعانه واستعان به 3. واستعمال هذين اللفظين في الكتاب والسنة بمعنى الطلب من المستغاث به. وقول القائل:: استغثت فلاناً واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة 4. والاستغاثة بالخالق لا خلاف فيها، فقد قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 5 وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 6. قال الشيخ رشيد: "
…
وأمرنا أن لا نستعين بغيره أيضاً
…
لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به وذلك من مخ العبادة
…
" 7.
والاستغاثة بالله تعالى هي من مظاهر توحيد العبد، أما الاستغاثة التي هي من مظاهر الشرك، فهي الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه، حياً أو ميتاً.
1 انظر: ابن تيمية: الواسطة (ص: 28) وما بعدها، وقاعدة جليلة (ص: 17 ـ 18، 100 ـ 101 و266) ، والرد على البكري (ص: 59) ، وابن القيم: إغاثة اللهفان (1/ 61 ـ 62)، وسليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 273 ـ 297)، والسهسواني: صيانة الإنسان (ص: 346 ـ 359)
2 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 261)، وابن الأثير: النهاية (3/ 392)، والسهسواني: صيانة الإنسان (ص: 153)
3 ابن تيمية: المصدر نفسه والصفحة.
4 المصدر نفسه (ص: 82)
5 سورة الأنفال، من الآية (9)
6 سورة الفاتحة، الآية (5)
7 تفسير المنار (1/ 58 ـ 59)
فالاستعانة بالمخلوق على وجهين:
أحدهما: أن يستغاث بالمخلوق الحي فيما يقدر على الغوث فيه، مثل أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر أو يدفع عنه صائلاً أو لصاً أو نحو ذلك، وهذا لا خرف في جوازه.
والاستغاثة بالأنبياء في المحشر من هذا النوع.
الثاني: أن يستغاث بمخلوق ميت أو حي فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهذا هو الذي يقول فيه أهل التحقيق إنه غير جائز 1.
وللأسف فإن النوع الثاني هو الذي ذاع وانتشر، حتى بات ظاهرة تسترعي انتباه الكثيرين، ويذكر الشيخ رشيد ذيوع ظاهرة الاستغاثة وأمثلة لها، منها أن رجلاً كان يراه دائماً، لا يزال لسانه رطباً ـ ليس من ذكر الله تعالى ـ بل من ذكر السيدة، يقول: "يا سيدة
…
يا سيدة
…
يا سيدة" 2.
لذلك فإن الشيخ رشيد قام بكل ما يستطيع لمواجهة هذه الظاهرة الشركية المنتشرة.
فقد بين الشيخ رشيد معنى الاستعانة وحكمها وأقسامها وحكم كل قسم منها، وبين بطلان الاستعانة الشركية.
ففي الاستعانة يقول: " والاستعانة طلب المعونة، وهي: إزالة العجز والمساعدة على إتمام عمل
…
" 3.
وبين الشيخ رشيد قسمي الاستعانة بالمخلوق فقال:
"الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان: (أحدهما) : ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور الكسبية كاستغاثة من أشرف
1 السهسواني (ص: 223) وأيضاً: سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 234)
2 انظر: مجلة المنار (7/ 319) ويريد "بالسيدة": السيدة زينب بنت الإمام علي، وفاطمة بنت محمد رضي الله تعالى عنها، ولها مسجد باسمها في القاهرة. انظر: الذهبي: السير (2/ 122)
3 تفسير المنار (1/ 58)
على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً.... و (ثانيهما) : ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف سنن الله في خلقه كالاستغاثة بالموتى والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس من مقدورهم وكسبهم كإنزال المطر وشفاء المرضى ـ بغير تداوٍ ـ فهذاا لقسم خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومعناه: نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك، كما أن معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} : نعبدك ولا نعبد غيرك ـ فاستعانة غير الله بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره
…
والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة بل أخص منها لأنها عبارة عن الضراعة في الدعاء عند شدة الضيق
…
" 1.
ويستدل الشيخ رشيد على بطلان الاستعانة الشركية بالموتى بالعقل والنقل، فيقول: "
…
ولا شك أن الاستعانة بالأموات على قضاء الحوائج ليس من الأسباب التي سنها الله تعالى لذلك. ولم يقل أحد من أئمة الدين ولا من العقلاء بسببيته. أما نبذ العقل له فظاهر. وأما رفض الشرع له فيدل عليه الكتب والسنة، وسيرة السلف الصالح، وأكتفي الآن من الكتاب العزيز بقوله تعالى:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهو نص صريح في أنه لا يستعان إلا بالله تعالى، ومن السنة بخبر:"إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"2. وأما سيرة السلف الصالح فلم ينقل عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقبلون عتبة الحجرة، ويقولون: يا رسول الله أهلك فلاناً عدوي وانتقم من فلان ظالمي، وأهلك الدود من زرعي، واشف داء قريبي وقرِّب وصال حبيبي، كما نراه ونسمعه من جهة العوام عند قبر السيد البدوي وقبر الإمام الحسين ـ رضي الله تعالى عنهما ـ
…
" 3.
1 مجلة المنار (25/ 662)
2 رواه الترمذي: ك: صفةالقيامة، باب: 59، ح: 2516 (4/ 667)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 مجلة المنار (1/ 77) والحسين هو ابن علي رضي الله عنهما وقد جرىالسلف على الترضي على أصحاب النبي (دون من عبدهم، فلا ينبغي التسوية بين صاحب النبي (وابنه، وبين غيره، والسيد البدوي، لم أجد له ترجمة.
وهذا الاستدلال من الشيخ رشيد استدلال صحيح، يقول شيخ الإسلام:"والاستغاثة بالميت والغائب سواء كان نبياً أو ولياً ليس مشروعاً ولا هو من صالح الأعمال، إذ لو كان مشروعاً حسناً من العمل لكانوا به أعلم وإليه أسبق، ولم يصح عن أحد من السلف أنه فعل ذلك"1.
واستدل المجوزون للتوسل بأدلة، ظنوا أن فيها سنداً لما ذهبوا إليه، منها أحاديث باطلة، كحديث:"إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" 2، قال الشيخ رشيد جواباً على هذا الحديث: "
…
الحديث لا أصل له ولم يروه المحدثون
…
وإذا فرضنا أن الحديث صح وكان معناه ما ذكرتم 3
…
فإننا نرجح عليه ما يعارضه مما هو أقوى منه، كحديث الطبراني مرفوعاً:"إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" 4 وحديث ابن عباس مرفوعاً: "وإذا استعنت فاستعن بالله" 5 بل عندنا القطعي، كقوله تعالى:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 6
…
" 7.
ويتأول الشيخ رشيد رضا هذا الحديث على فرض صحته، على أن المراد منه زيارة القبور الزيارة الشرعية التي أباحها الشرع للاعتبار، فهو كحديث أنس عند البيهقي:"أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه قسوة القلب، فقال: اطلع في القبور واعتبر في النشور" 8، فلو صح هذان
1 الرد على البكري (ص: 29)
2 هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم، وليس في شيء من كتب السنة، انظر: ابن تيمية: التوسل (ص:297)،وحاشية د. ربيع المدخلي: نفس الصقحة.
3 يعني من الاستعانة بأصحاب القبور.
4 قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث. مجمع الزوائد (10/ 159)، وصحح حديث ابن لهيعة عدد من العلماء. انظر: أحمد شاكر: شرح الترمذي (1/ 16)، وانظر أيضاً كلاماً لابن تيمية حول الحديث وابن لهيعة؛ الرد على البكري (ص: 152) وما بعدها.
5 سبق تخريجه.
6 سورة الفاتحة، الآية (5)
7 مجلة المنار (7/ 936)
8 الحديث أورده السيوطي في جامع الجوامع، عن أنس (19/ 1060) وهو في الجامع الصغير برقم (1116) ورمز له بالضعف وقال الألباني: موضوع. الضعيفة (2799)، وأورده الذهبي في الميزان في ترجمة محمد بن يونس الكريمي وعدّه من مناكيره. انظر: الميزان ()
الحديثان ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ لكانا بمعنى واحد 1.
ومما يحتج به هؤلاء المجوزين للاستعانة الشركية بالأموات، قياس الحي على الميت، فكما تطلب المعونة من الحي فإنها تطلب من الميت. ويجيب الشيخ رشيد على هذا القياس بقوله: "
…
ومن أعظم مزاعم صاحب المقدمة وأفسد قياساته المساواة بين طلب المعونة من الأحياء وطلبها من الأموات، فإذا كان لا يفرق بين الحي والميت وقد فرق بينهما الشرع والعقل، أفلا يجب عليه التفريق بين ما يطلب من الأحياء من التعاون وبين ما يطلب من الأموات
…
ويطلبون من الأموات ما لا تناله يد الكاسب كجلب المصالح أو درء المفاسد من غير أسبابها التي قرنها الله تعالى بها
…
" 2.
والحق ان كل ما يحتج به أصحاب البدع سواء في التوسل أو الاستغاثة أو الشفاعة أو الزيارة إما أحاديث صحيحة لا تدل على ما ذهبوا إليه أو أحاديث تدل عليه ولكنها باطلة لا يحتج بها، أو على قياس فاسد كقياس الخالق على المخلوق، أو قياس الحي على الميت 3.
سادساً: السحر:
عرف الشيخ رشيد السحر لغةً واصطلاحاً وبين أنواعه وحكمه، فأما تعريفة لغة فقد اعتمد فيه على الراغب في المفردات فقال: "السحر: ـ وأشار إلى أن فيه ثلاث لغات بأوزان: فِلس، وسبب وقُفل ـ طرف الحلقوم والرئة، وقيل: انتفخ سحره
…
والسحارة ـ بالضم ـ ما ينزع من السحر عند
1 مجلة المنار (7/ 936 ـ 937)
2 مجلة المنار (4/ 318) ، وانظر أيضاً (4/ 353 ـ 37)
3 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 9، وص: 11، 19)، وابن عبد الهادي: الصارم المنكي (ص: 35)
الذبح فيرمى به.. وقيل: منه اشتق: السحر، وهو إصابة السحر
…
" 1.
وعرفه أيضاً في الاصطلاح فقال: "والمعنى الجامع للسحر أنه أعمال غريبة من التلبيس والحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم بأسبابها، فمتى عرف سبب شيء منها بطل إطلاق اسم السحر عليه.."2. وأشار الشيخ رشيد إلى أن السحر صناعة تتلقى بالتعليم والتمرين فيمكن لكل أحد أن يكون ساحراً إذا أتيح له من يعلمه السحر 3.
ويبين الشيخ رشيد أن السحر ثلاثة أنواع: " أحدها: ما يعمل بالأسباب الطبيعية من خوص المادة المعروفة للعامل، المجهولة عند من يسحرهم بها، ومنها الزئبق الذي قيل: إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم 4
…
النوع الثاني: الشعوذة، التي مدار البراعة فيها على خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار، وآراءه بعضها بغير صورتها
…
النوع الثالث: ما مداره على تأثير الأنفس ذوات الإرادة القوية في الأنفس الضعيفة فإن الأمزجة العصبية القابلة للأوهام..ز وهذا النوع هو الذي قيل: إن أصحبه يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين ومنهم من يكتبون الأوفاق 5 والطلسمات 6 للحب والبغض وغير ذلك.." 7.
1 تفسير المنار (9/ 47) وانظر: الراغب: المفردات (ص: 400) ط. دار القلم.
2 تفسير المنار (9/ 45)
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 انظر: ابن كثير: التفسير (1/139)
5 الأوفاق: جمع وفق: والوفاق: الموافقة والتوافق، الاتفاق، ووافقه أي صادفه، واستوفق الله: أي طلب منه التوفيق. مختار الصحاح (ص: 304) مادة: وفق.
وهي أشياء من السحر تكتب للحب والبغض وغير ذلك. رشيد رضا: تفسير المنار (9/ 46)
وهي ترجع إلى مناسبات الأعداد وجعلها على شكل مخصوص مربع ولها كتب معروفة من شرح كيفية وضع وترتيب هذه الأعداد. انظر: القرافي: الفروق (4/ 143 ـ 144)
6 الطلسم: جمع طلسمات، وهي نوع من السحر كذلك يكتب للحب والبغض وغير ذلك، وحقيقتها نفس أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب. انظر: القرافي: الفروق (4/ 142)
7 تفسير المنار (9/ 45 ـ 46)
وخطأ الشيخ رشيد من قال من المتكلمين "إن السحر من خوارق العادات الذي هو الجنس الجامع لمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وفاتهم أن السحر صناعة تتقلى بالتعليم كما ثبت بنص القرآن وبالاختبار الذي لم يبق فيه خلاف بين أحد من علماء الكون في هذا العصر"1.
وقد أشار الشيخ رشيد إلى حكم وعقوبة الساحر، ن ومنها: "القتل كفراً في بعض أنواعه المتضمنة للشرك والمستلزمة للريب في معجزات الرسل
…
" 2، كما أشار الشيخ رشيد ـ متعجباً منه ـ إلى أنه ما يزال في هذا العصر "من يتوسل إلى الاستعانة بالجن على بعض الأعمال السحرية بما هو كفر قطعاً كربط بعض القرآن على السوأتين كما علمت من بعض المختبرين لهؤلاء الدجالين الذي يعيشون بكتابة العزائم 3، والحجب 4، للحب والبغض والحبل، وغير ذلك. والمفاسد في ذلك كبيرة جداً
…
" 5.
والذي يظهر أن الشيخ رشيد لا يرى للسحر حقيقة مطلقاً ـ وإن كان يبدو من النوع الثالث الذي ذكره ـ أنه له نوع تأثير ـ ومهما يكن من شيء فإن السحر منه ما له تأثير حقيقي ومنه ما ليس له ذلك 6.
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 المصدر نفسه (9/ 59 ـ 60)
3 العزائم: هي كلمات يزعمون أن الملائكة تعظمها، ومتى أُقْسِم عليها بها أطاعت وأجابت، فالمعزم يقسم بتلك الأسماء على ذلك الملك، فيحضر له القبيل من الجان فيحكم فيه لما يريد، وهذه الأسماء فيما يزعمون أعجمية يقع فيها الخلط، وعدم الضبط. انظر: القرافي: الفروق (4/ 147)
4 الحجب: جمع حجاب، والحَجْب، والحجاب: المنع من الوصول، ياقل: حجبه حجباً وحجاباً، وهو شيء يكتب للأولاد وغيرهم يمنعهم مما يخافون تعلق في أعناقهم، أو توضع تحت وسائدهم، فهي بمعنى التميمة. انظر: الراغب: المفردات (ص: 219)، والميلي: الشرك ومظاهره (ص: 173)، وعلي محفوظ: الإبداع (ص: 424 ـ 425)
5 تفسير المنار (9/ 60)
6 انظر: سليمان بن عبد الله: تيسر العزيز الحميد (ص: 383)، وانظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (7/ 1283) وما بعدها.
سابعاً: الرقى:
الرقى: جمع رقية كمدى ومدية 1. وتسمى العزائم 2، فإذا كانت بالقرآن أو بأسماء الله تعالى فهي جائزة. ولاختلاف أحوال الرقية اختلفت فيها الأحاديث، فالاختلاف جاء باعتبار أحوالها وهي كما يلي:
الأول: أن تكون الرقية بألفاظ شركية، كأن يستعاذ فيها بملك أو جن، أو ينسب إليه النفع والضر فذلك كفر وشرك.
الثاني: أن تكون بألفاظ منقولة غير معقولة المعنى، فهي ذريعة إلىالشرك فهي حرام.
الثالث: أن تكون بأسماء غير الله من ملك أو نبي، وكل معظم شرعاً، فهي غير مشروعة حكمها كحكم الحلف بغير الله.
الرابع: أن تكون بأسماء الله أو بكلامه أو ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي المشروعة 3.
وإلى هذا ذهب الشيخ رشيد فقد عرف الرقى فقال: "الرُقى بالضم، جمع رقية "كغرف وغرفة"، وهي ما يقرأ على الملدوغ أو المريض ليبرأ أو يخف ألمه
…
وهي جائزة لذلك إذا كان المقروء حقاً كالقرآن وذكر الله، ومحرمة إذا كان فيه شيء منكر أو مجهول
…
" 4. وقال في موضع آخر: "
…
وحديث الرقية يدل على جوازها وجواز أخذ الأجرة عليها إذا لم يكن فيها شيء من الباطل كما ورد في حديث راقٍ آخر بالفاتحة 5
…
" 6.
1 انظر: الراغب: المفردات (ص: 363) : رقى، والرازي: مختار الصحاح (ص: 107) : رقى، والقرافي: الفروق (4/ 147)
2 سليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 165)
3 انظر: المصدر نفسه والصفحة، والميلي: الشرك ومظاهره (ص: 168)
4 تفسير المنار (9/ 422)
5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: فضائل القرآن، باب فضل فاتحة الكتاب، ح: 5007 (8/ 671) مع الفتح.
6 مجلة المنار (24/ 426)
غير أني لاحظت أن الشيخ رشيد يرىأن تأثير الرقية ليس حقيقياً، بل هو تأثير وهمي بحسب اعتقاد المرء فيها، أو تأثير نفسي ذات إرادة قوية روحانية في نفس أخرى، بحسب سنة الله في البشر، وهي لذلك ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ تنافي التوكل، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله شفاني، وليس برقيتكم"1.
والذي يظهر من النصوص خلاف ذلك فإنها تدل على أن للرقية تأثيراً حقيقياً كتأثير الأدوية المختلفة، فهي سبب شرعي للشفاء. قال ابن القيم: "واعلم أن الأدوية الطبيعية الإلهية تنفع في الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يقع وقوعاً مضراً، وإن كان مؤذياً، والأدوية الطبيعية إنما تنفع بعد حصول الداء، فالتعوذات والأذكار، إما أن تمنع وقوع هذه الأسباب، وإما أن تحول بينها وبين كمال تأثيرها، بحسب كمال التعوذ وقوته وضعفه، فالرقى والعُوَذ تستعمل لحفظ الصحة ولإزالة المرض
…
" 2.
ثامناً التمائم:
التمائم ويقال لها: عُوذة، بالضم، ومَعاذة بالفتح، وتعويذة، والمراد بها هنا: ما يعلق على الإنسان لدفع الآفات عنه 3.
وللتمائم ثلاث حالات: أحدها: أن تعلق ويعتقد نفعها كتعليق المرضى والمحمومين في عهدنا لتراب الأضرحة والمزارات وما أشبهه، فهذا شرك.
الثاني: مشابهة الجاهلية بتعليق ما لا يتبرك به من نحو حلقة أو عقرب
1 انظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (5/ 109)، وقال: رواه الطبراني عن شيخيه بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وكلاهما قد ضعف ووثق، وبقية رجاله ثقات.
2 زاد المعاد (4/ 182) ت: الأرناؤوط.
3 انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث (1/ 197)، وسليمان بن عبد الله: تيسير العزيز الحميد (ص: 160)، والميلي: الشرك (ص: 173)
أو ودعة مع السلامة من اعتقاد المشركين، فهذا يمنع سداً للذريعة وإن لم يكن شركاً.
الثالث: التبرك بما يتبرك به شرعاً من أسماء الله وكتابه. وهذا النوع قد وقع في جوازه بين علماء الصحابة والتابعين، فأجازه ومنعه آخرون واستعظموه 1. وتركك ذلك أوسع حماية لجناب التوحيد وحفاظاً على عقيدة عامة المسلمين. قال تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2.
وقد تكلم الشيخ رشيد عن الحجب والرقى والتمائم، وعدها من أمال الجاهلية التي أبطلها الإسلام، وورد في حظرها أحاديث، ذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم:"من علق تميمة فقد أشرك" 3، وقوله:"إن الرقى والتمائم والتولة شرك"4. وقوله: "ثلاث من السحر: الرقى والتولة والتمائم" 5. 6.
وأما عن التمائم المحتوية على أسماء الله تعالى وآيات كتابه، فقد قال عنها الشيخ رشيد: "ولا شك أن الرقى والتمائم في هذا الزمان من نزعات الوثنية، فإنها ليست مبنية على اعتقاد أن القرآن يرفع الضرر ويجلب النفع لذاته معجزة، وإنما العمدة عندهم على بركة الراقي، وكاتب التمائم وتأثيره، ولذلك لا يطلبون ذلك من كل عارف بالقرآن. فانظر كيف قلبوا الدين فتركوا
1 انظر: سليمان بن عبد الله: التيسير (ص:167) والميلي: الشرك (ص:176) وانظر: أحاديث الرقية عند الهيثمي: مجمع الزوائد (5/109ـ 114)
2 سورة براءة الآية (51)
3 رواه أحمد: المسند (4/156) والحاكم: المستدرك (4/219) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات، مجمع الزوائد (5/ 103)
4 رواه ابو داود، ك: الطب، باب: في تعليق التمائم، ح:3883، وابن ماجة، ك: الطب، باب: في تعليق التمائم، ح:3530.
5 رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/203 ح:7823) ط. وزارة الأوقاف العرقية، الثانيةن سنة 1405هـ. وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه: علي بن يزيد الألهاني، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (5/109)
6 انظر: مجلة المنار (24/ 427) وأيضاً (7/393 و 32/277)
الاهتداء بالقرآن وهو قد أنزل {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} بل زعموا أن الاهتداء به محرم على الناس اليوم لأنه وظيفة المجتهدين الذين انقرضوا. ثم زعموا أنهم يعظمونه بترك الأسباب والسنن الإلهية التي أرشدهم إليها، والاعتماد على الانتفاع برسم حروفه وحملها" 1.
فالظاهر من هذا أن الشيخ رشيد يميل إلى منع التمائم جميعاً من القرآن وغيره، وهو رأي سبق إليه عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما سبق. وله وجهه الوجيه.
ومن مظاهر الشرك التي أنكرها الشيخ رشيد رحمه الله الشرك في الألفاظ كالحلف بغير الله تعالى فيقول: "لا يجوز الحلف بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته" 2، فلا يجوز الحلف بالآباء ولا وبالأنبياء ولا الكعبة 3.
كما أنكر الشيخ رشيد التماثيل المصنوعة للزعماء 4، وكذلك الصور لأنه ـ كما يقول ـ:"الذين رسموا الصالحين والأنبياء إنما أرادوا التبرك بصورهم وتعظيمها إكراماً لهم، وهذا التعظيم في كل اللغات عبادة"5.
ويرى الشيخ رشيد أن الصور ليست بأشد من القبور، وإن كان الشرع قد منع الجميع، إلا أن بناء القبور وتشييدها إيقاد السرج عليها أشد وأكبر خطراً 6.
ولا يرى الشيخ رشيد فرقاً بين التصوير باليد والتصوير الشمسي في الحكم، ولا في اتخاذ هذه الصور ولا في صنعتها، لأنه يرى "أن العلة ما ورد في ذلك من الأحاديث هو أمر ديني محض يتعلق بصيانة العقيدة من لوازم الشرك وشعائره"7.
1 مجلة المنار (7/ 393)
2 تفسير المنار (7/ 40) وما بعدها.
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 مجلة المنار (11/ 956 ـ 957) ، وتفسير المنار (9/ 106)
5 مجلة المنار (6/ 37)
6 المصدر نفسه (2/ 220)
7 المصدر نفسه (15/ 903 ـ 905)
وبعد: فهذا موقف الشيخ رشيد من الشرك ومظاهره بعد بيان موقفه من التوحيد، ويبقى أن نعرف موقفه من البدع، فهي مع الشرك من نواقض التوحيد والاتباع، اللذين هما تحقيق شهادة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله".