الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى
انقسم الناس في هذه المسألة إلى فريقين: الأول: من نفى الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى، وهم الفلاسفة والأشعرية. والثاني: من أثبت الحكمة والتعليل وهم السلف ومن وافقهم. فالفريق الأول وهم النفاة؛ الفلاسفة والأشعرية، يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل إنه تعالى فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة 1. قال ابن سينا: "فما أقبح ما يقال من أن الأمور العالية تحاول أن تفعل شيئاً لما تحتها
…
وأن الأول الحق يفعل شيئاً لأجل شيء وأن لفعله لميّة" 2.وقال شارحه: "وإنما سلب الغاية عن فعل الحق الأول جل جلاله مطلقاً، لأن الفاعل الذي يفعل لغاية فهو غير تام
…
" 3. والغرض عندهم "أنه علة تامة بذاته، واحد لا كثرة فيه، ولا شيء قبله ولا معه ولا غاية لفعله، بل هو بذاته فاعل وغاية للوجود كله" 4.
فالفلاسفة ينفون الحكمة في أفعاله تعالى لأنه تعالى كامل بذاته، ومن يفعل لغاية فهو غير كامل بذاته، بل يكون مستكملاً بوجود تلك الغاية.
1 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 44)[الإرادة والأمر]
2 الإشارات (3/ 150)
3 الطوسي: شرح الإشارات (3/ 151)
4 المصدر نفسه والصفحة.
ولنفس السبب نفى الأشعرية الحكمة والتعليل في أفعاله تعالى ـ أي ينفون لأن تتوقف أفعاله على الحكم بل الحكم مترتبة على أفعاله وحاصلة على عقيبها، فهي ليست مقصودة ومطلوبة بالفعل 1.
أما أهل السنة فيقولون: "إنه سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً ولا لغير معنى ومصلحة هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى"2.
ويذهب الشيخ رشيد رحمه الله كأهل السنة والجماعة ـ إلى أن الله تعالى فاعل مختار، وأن فعله عن علم وحكمة، وأن حكمته موافقة لمشيئته.
فقد نقل الشيخ رشيد قول السفاريني 3:
"وربنا يخلق باختيار
…
من غير حاجة واضطرار
لكنه لا يخلق الخلق سدى
…
كما أتى في النص فاتبع الهدى 4"
ونقل كلام السفاريني ثم علق قائلاً مخاطباً الأشعرية المنكرين للحكمة والتعليل: " أيها الأشعري إنك ترى في هذه الجملة من النقول عن أئمة الأمة ما ينبئك بتحقيق معنى العلة والحكمة، وأن كلاً من المعتزلة والأشعرية أخطأوا من جهة وأصابوا من أخرى، وأن مذهب السنة الصحيح وسط بين المذهبين
…
وخلاصة القول: أن العقل والكتاب يدلان على حكمة الله تعالى وعدله ورحمته وفضله كما يدلان على قدرته وإرادته، واختياره، يستحيل عليه أضدادها، فكل أفعاله حكمة ومصلحة للخلق، والحكمة أو
1 انظر: محمد ربيع: الحكمة والتعليل (ص: 61)، وانظر: الشهرستاني: نهاية الإقدام (ص: 397)، والرازي: المحصل، وقد استوفى ابن القيم شبه النفاة ورد عليها جميعاً بما لا مزيد عليه. انظر: شفاء العليل (ص: 347 ـ 442)
2 ابن القيم: شفاء العليل (ص: 319)
3 سبقت ترجمته (ص:)
4 لوامع الأنوار (1/ 276) ط. على نفقة آل ثاني، بقطر.
المصلحة في الفعل تسمى في اللغة: علة، وجاء ذلك في القرآن بحرف التعليل، فاجمع بين العقل والنقل تهتدي السبيل
…
" 1.
وعلى ذلك سار الشيخ رشيد في تفسيره للآيات، فعند قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2، قال: "أي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين، وإنما مشيئته موافقة لحكمته، وجارية على مقتضى سننه
…
" 3.
وعند قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4، قال:"فما شرع لكم هذه الأحكام وسواها إلا عن علم بأن فيها الخير لكم وحفظ مصالحكم وصلاح ذات بينكم، كما هو شأنه في جميع أحكامه وأفعاله، كلها موافقة للحكمة الدالة على إحاطة العلم وسعة الرحمة"5.
ويبين الشيخ رشيد الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات فيقول: "اعلم أن الحكمة العليا لخلق جميع المخلوقات هي أن يتجلى بها الرب الخالق لها بما هو متصف به من صفات الكمال ـ ليعرف ويعبد ويشكر ويحمد، ويحكم ويجزي فيعدل، ويغفر ويعفو ويرحم، ألخ، فهي مظهر أسمائه وصفاته، ومجلى سننه وآياته، وترجمان حمده وشكره، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 6 لذلك كانت في غاية الإحكام والنظام، الدالين على العلم والحكمة والمشيئة والاختيار، ووحدانية الذات والصفات والأفعال
…
" 7.
وقد كان من مقتضى تحقق معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلى أن
1 مجلة المنار (9/ 23 ـ 34)
2 سورة النساء، الآية (116)
3 تفسير المنار (5/ 150)
4 سورة النساء، الآية (176)
5 تفسير المنار (6/ 111)
6 سورة الإسراء، الآية (44)
7 تفسير المنار (8/ 340)
يخلق ما علمنا وما لم نعلم من أنواع المخلوقات وأن تكون المقابلات والنسب بين بعضها مختلفة من توافق وتباين وتضاد، ويترتب على ذلك في نظام الخلق أن الضد يظهر حسنه الضد، وأن تكون مصائب قوم عند قوم فوائد
…
وجملة القول: إن ما خلقه الله تعالى فهو حسن في نفسه، متقن في صنعه، مظهر لنوع أو أنواع من حكمه في خلقه، ومن كماله في ذاته وصفاته، ولا شيء منه بباطل ولا بشر محض {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 1 {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 2" 3.
وآيات القرآن الكريم المثبتة لحكمة الله تعالى تؤيد ما ذهب إليه السلف رحمهم الله وتابعهم فيه الشيخ رشيد، وهي حجة على منكري الحكمة ونفاة التعليل، ومنها:
آيات كثيرة في وصف الله تعالى بالحكمة، كما قال تعالى:{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 4 {
…
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5 في آيات من ذلك كثيرة 6.
والمعنى في ذلك "
…
الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء" 7.
والعقل يؤيد ذلك ويفرضه، فإن معطي الحكمة ومانحها لا بد أن يكون حكيماً، وفاقد الشيء لا يعطيه.
1 سورة الحجر، الآية (85)
2 سورة ص، الآية (27)
3 تفسير المنار (8/ 341)
4 سورة البقرة، الآية (32)
5 سورة البقرة، الآية (129)
6 انظر: عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (ص: 214 ـ 215)
7 ابن كثير: التفسير (1/ 71)