الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: بدء الخلق:
اتفقت الكتب السماوية على أن الله تعالى خلق آدم من تراب وخلق منه زوجه وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، قال تعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} 2.
وعلى هذا كتب أهل الكتاب 3، وهذه النصوص تفيد أن الله تعالى خلق الإنسان نوعاً مستقلاً، لا بطريق النشوء والارتقاء والتطور والاشتقاق من نوع آخر، وهي نظرية "الخلق الدفعي"، أو " تعاقب الخلق" في مقابل النظرية المادية التي تقول: بـ" الخلق المتمهل" أو "المتطور"، وهذه النظرية الأخيرة ظهرت في القرن التاسع عشر، وإن كانت في الحقيقة قد دلت أفكارها قبل ذلك، إلا أنها أخذت دفعة قوية إلى الأمام، فظهرت وانتشرت على أنها حقيقة علمية على يد "داروين" الذي قام عليه رجال الدين في أوربه، وحكموا بكفره وزندقته، لأنه خالف الكتب المقدسة، لأنه لا يمكن
1 سورة آل عمران: الآية (59)
2 سورة النساء: الآية (1)
3 انظر: سفر التكوين: 1/ 1ـ30
التوفيق بين نظرية النشوء والارتقاء وبين ما جاء في الكتب المنزلة عن بدء خلق الإنسان، إلا أن رجلاً واحداً ألف كتاباً ليقول:
"إن مذهب دارون ـ عند ثبوته ـ لا يتعارض مع أحكام القرآن ولا مع الإيمان بوجود الله الخالق" 1، هذا الرجل هو حسين الجسر الشيخ الأول لرشيد رضا 2. في "الرسالة الحميدية" 3، وقال: إن الله تعالى هو الخالق بقدرته وعلمه "سواء أكان هو الذي نوّع تنوعات المادة وطوّرها، أو أنه أوجد المادة الصالحة لتلك التنوعات والتطورات بموجب النواميس التي وضعها فيها، وبحركة أجزائها.. فكلا الأمرين يدل دلالة قاطعة على كمال قدرته.. " 4.
إن الجسر كان يري أن مذهب النشوء والارتقاء وما جاء فيه عن أصل نوع الإنسان والحياة، لا ينطوي على أمور بعيدة عن الحقيقة، أو متعارضة مع أحكام الدين تعارضاً قطعياً 5. وبناء على قانون التأويل الشهير، ومسألة تعارض العقل والنقل، يرى الجسر أن الذي ورد في الشريعة من النصوص المتواترة القطعية بشأن خلق الأكوان وتنوع الأنواع، إنما هي نصوص لم يبين فيها تفاصيل الخلق، ولم يرد في النصوص ما يدل على نفي أو إثبات الخلق الدُّفعي، أو التطوري، فيجب التوقف مطلقاً 6، لأن النصوص في ذلك ليست نصاً في هذا أو ذاك، فهذه النصوص يحتمل أن تفسر على مذهب الخلق أو مذهب النشوء 7، وحاول الجسر بيان تطبيق هذه النظرية على الآيات التي تشير إلى هذا المعنى 8.
1 انظر: نديم الجسر: قصة الإيمان (ص: 194)
2 انظر: المصدر نفسه والصفحة، وألف الجسر كتابه سنة 1888هـ
3 انظر: حسين الجسر: الرسالة الحميدية (ص:220) ط. إدارة الطباعة المنيرية، 1352هـ.
4 نديم الجسر: قصة الإيمان (ص: 208)
5 المصدر نفسه
6 المصدر نفسه (ص: 204)
7 المصدر نفسه (ص: 213، 215)
8 المصدر نفسه (ص213)
وبمثل هذا الرأي قال محمد عبده الشيخ الأخير لرشيد رضا "إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن ينبغي أن يؤول ليوافق دارون أو غيره، ولا قال: إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون آدم أباً لجميع البشر ثبوتاً قطعياً.. وإنما قصارى رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفاً للقرآن فيكون شبهة على الإسلام.. وإنما فهم الآية وأمثالها فهماً لا يرد عليه اعتراض ولا مجال له للطعن في القرآن في هذه المسألة.."1. يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
…
} 2.
فإذا كان هذا رأي هذين الشيخين لرشيد رضا فهل تابع هو أيضاً شيخيه في ذلك؟ لقد اتهم رشيد رضا بمحاولة تطبيق القرآن على مذهب دارون وإنكار أبوة آدم عليه السلام للبشر وتأويل الآيات التي تشير إلى هذا المعنى لأجل إثبات رأيه 3.
عند قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 4، نقل رشيد رضا تفسير محمد عبده لها، وهو قوله:"ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر، فمن المفسرين من يقول: إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة أو قريش، فإذا صح هذا هنا جاز أن يفهم منه بنو قريش، أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة: يعرب أو قحطان، وإذا قلنا: إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام، أي لجميع الأمم فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده، فالذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم، والذين يعتقدون أن لكل صنف من أصناف البشر
1 مجلة المنار (13/ 22ـ 32) وقد قال: ذلك جواباً لمعترض على تفسير محمد عبده في سورة النساء: الآية الأولى منها.
2 سورة النساء، الآية (1)
3انظر: مجلة المنار (33/58ـ 64)
4 سورة النساء، الآية (1)
أباً يحملون النفس على ما يعتقدون
…
" 1 ثم قال: "وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} لا ينافي هذا ولا يعد نصاً قاطعاً في كون جميع البشر من أبنائه إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم.." 2.
ثم قال رشيد رضا موضحاً لكلام أستاذه:"إذا كان جماهير المسلمين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة المسلمة عندهم وهي أن آدم أبو البشر، وقد اختلفوا في مثل هذا التعبير من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا
…
} 3.." 4، وعند تفسيره لهذه الآية قال: "أي خلقكم من جنس واحد أو حقيقة واحدة، صورها بشراً سوياً {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 5، سكوناً زوجياً، أي جعل لها زوجاً من جنسها فكانا زوجين ذكر وأنثى، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} 6، كما أنه خلق من كل جنس وكل نوع من الأحياء زوجين اثنين، قال عزوجل:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 7. وإننا نشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمى بها الجسم تنطوي على نويّتين: ذكر وأنثى، يقترنان فيولد بينهما خلية أخرى، وهلم جراً
…
ولكننا لا ندري كيف ازدوجت النفس الأولى بعد وحدتها، فكانت ذكراً وأنثى، قال تعالى:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} 8
…
" 9.
1 تفسير المنار (4/323)
2 المصدر نفسه (4/424)
3 سورة الأعراف: الآية (189)
4 تفسير المنار (4/325)
5 سورة الأعراف، الآية (189)
6 سورة الحجرات، الآية (13)
7 سورة الذاريات، الآية (49)
8 سورة الكهف، الآية (51)
9 تفسير المنار (9/ 517)
وفسر رشيد رضا رأي أستاذه فقال:"للأستاذ الإمام في هذا المقام رأيان: أحدهما: أن ظاهر هذه الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم، أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا. لما ذكره من معارضة المباحث العلمية والتاريخية له..وثانيها أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن جميع البشر من ذرية آدم.."1.
وبناء على ذلك فإن المتبادر من " لفظ النفس بصرف النظر عن الروايات والتقاليد المسلمات أنها هي الماهية أو الحقيقة
…
أي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدئت بآدم كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين أو بدئت بغيره وانقرضوا
…
أو بدئت بعدة أصول كما عليه بعض الباحثين، ولا بين أن تكون تلك الأصول مما ارتقى عن بعض الحيوانات أو خلق مستقلاً.." 2.
وأما قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "فمعناه على الوجه الذي قررناه يظهر بطريق الاستخدام بحمل النفس على الجنس وإعادة الضمير عليه بمعنى أحد الزوجين أو يجعل العطف على محذوف يناسب ذلك كما قال الجمهور أو وحد تلك الحقيقة أولاً ثم خلق لها زوجها من جنسها
…
" 3.
وعلى رأي شيخيه مشى رشيد رضا: "إنه ليس بين نظرية الخلق التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة
…
" 4.
ويصرح رشيد رضا بأن هذا كان رأيه الذي استفاده من شيخه الأول حسين الجسر: "وأؤكد
…
أن مذهب داروين لا ينقض ـ إن صح وصار يقيناً ـ قاعدة من قواعد الإسلام، وأعرف من الأطباء وغيرهم من يقول بقول داروين وهم مؤمنون إيماناً صحيحاً" 5.
1 المصدر نفسه (4/326)
2 المصدر نفسه (4/327)
3 تفسير المنار (4/ 330)
4 مجلة المنار (30/ 596)
5 مجلة المنار (33/ 64 و12/ 635 بالحاشية)، وانظر: مجلة المنار (30/ 113 ـ 114)
وعلى كل حال لم يكن رشيد رضا مسلماً نظرية داروين فقد كان يجيب عن شبهاتها ويفند آراء أصحابها والمتمسكين بها. ولكنه أيضاً يجيب عنها على فرض صحتها 1، وهو في هذا الموقف لا ينكر أبوة آدم، بل يقف الموقف نفسه الذي وقفه شيخه الأول والأخير، وهو التوقف في نظرية داروين. وكان رشيد رضا يفسر الآيات التي تشير إلى هذا المعنى ـ بعد وفاة شيخه وانفراده بالتفسير ـ على أن آدم هو أبو البشر وأنه خلق من طين 2. فيكون هذا هو رأيه مع توقفه في نظرية داروين وعدم معارضتها ـ لو صحت ـ للقرآن.
والحقيقة أن نظرية داروين كانت أساساً للإلحاد في الدين ـ فإن كان داروين لا ينكر بنظريته هذه قضية الخلق الإلهي، إلا أن نظريته كانت أساساً لمن جاء بعده من الفلاسفة فجعلوا هذه النظرية حجة لهم في إلحادهم، وقولهم بالتولد الذاتي، وهذا هو أساس الإلحاد، وليس مجرد قول داروين بالتطور، وليس هو القول بخلق الحياة من الجماد فإن الله {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} 3 ولكنه القول بالتولد الذاتي 4.
ومهما يكن من شيء: فإن تطبيق نظرية النشوء والارتقاء على الإنسان والقول باشتقاقه من حيوان آخر كالقرد، لا يأتلف قطعاً مع خلقهم من نفس واحدة أياً كانت النفس الواحدة، إذا ليس معنى تطبيق تلك النظرية على البشر أن يشتق إنسان واحد من قرد واحد ثم ينتشر فيرجعوا إلى أصل واحد، بل أساس النظرية يأبى رجوع أصل الأنواع إلى الواحد الشخصي، والآية تأبى تلك النظرية بمجرد تعبير {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} عن الأصل الذي خلق منه البشر كائناً ما كان المراد من تلك النفس الواحدة فقول القائل: "إن
1 انظر: مجلة المنار (8/ 920 و9/ 141 و30/ 597 ـ 600)
2 انظر: تفسير المنار (7/ 296 و8/ 328) وكان يسارع بنشر كل ما يبطل هذه النظرية. انظر: مجلة المنار (31/ 130)
3 سورة الأنعام، الآية (95)
4 انظر: نديم الجسر: قصه الإيمان (ص: 217)
النفس الواحدة في الآية لا تنص على آدم" لا يجديه لأنه إن لم تنص عليه فلا شك في نصها على "نفس واحدة" فإن كانت هي عبارة عن آدم فهو خلاف المفروض عند القائل، وإن كانت عبارة عن "قرد واحد" فهو خلاف نظرية النشوء والارتقاء 1. هذا مع ما في الآيات الأخر من التصريح بخلق آدم من تراب وخلقه من غير أب وأم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 3.
وأما ما يتعلق بالنظرية نفسها فإن هذه الفترة التي تبحث فيها "بدء الخلق" قد اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه وأعلن في صراحة كاملة خروجها عن حدود علمه وعمله، فاقتحامها الآن باسم العلم تعامل بصك مزيف، وتستر بثوب مستعار، وكل حكم يصدر تحت هذا الاسم يكون صادراً عن قاضٍ معزول، فاقداً للركن الأول من سلطته الشرعية، ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانات العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب 4، {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} 5.
1 انظر: مصطفى صبري: موقف البشر (ص: 8 ـ 9) وانظر له: موقف العقل والعلم (2/ 279 ـ 283)
2 سورة آل عمران، الآية (59)
3 سورة ص، الآية (71ـ 72)
4 انظر: دراز: الدين (ص:113) وانظر: داروين: أصل الأنواع (2/129، 2/ 128) ط. دار العصور، القاهرة. 1928م.
5 سورة الكهف: الآية (51)