الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الحياة الدينية:
لا شك أن الموجة التي ركبها محمد علي وأولاده، ومن قبله سلاطين العثمانيين، من استلهام الحضارة الغربية في عملية الإصلاح والبناء، وما ابتعثوه من بعوث وما استقدموه من رجال يحملون في طياتهم أفكار وآراء مجتمعاتهم، ويعيشون بين المجتمعات الإسلامية وينظر إليهم باعتبارهم المنقذين لبلادنا، الناهضين بها من عثرتها. لا شك أنه كان لهذا كله أكبر الأثر على نشوء حالة جديدة وأفكار حادثة، في الحياة الدينية في العالم الإسلامي 1.
فبالإضافة إلى مشاكل الحياة الدينية الموجودة كالعقائد المبتدعة والأعمال المخالفة للشرع والتي انتشرت في بلاد المسلمين في القرون المتأخرة، والتي أدت أخيراً إلى المرض المزمن الذي فتك بدولتهم، فإنه ظهر في هذه الحياة مشاكل جديدة لم تكن من قبل والتي أتى بها الأوروبيون "المصلحون" معهم، فيما حملوه من متاعهم.
لقد صار للأوروبيين في العصر الأخير قوة وغلبة على أمم العالم، وكانوا قديماً قد اعتنقوا المسيحية "الجديدة" 2وبعد اطلاعهم على نتائج
1 انظر التفصيلات عند: محمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص12/15)
2 عن تطور المسيحية وتحولها: انظر: شارجني بير: المسيحية نشأتها وتطورها. ترجمة: الدكتور عبد الحليم محمود، ط. المكتبة العصرية، بيروت.
بحوثهم الحديثة ورقيهم في العلوم والصناعات، وموقف الكنيسة من هذا التقدم 1، بدا لعقلائهم أن دينهم الذي اعتنقوه لا يتفق مع العقل والعلم، ثم طردوا هذه النتيجة على كل دين 2. فكان هذا منشأ الإلحاد في أوروبة، الذي أتى إلينا معهم من خلال الاحتكاك المباشر في مصر لما أتوا مستعمرين. وفي أوروبة لما ذهبنا متعلمين.
لقد انتقلت عقلية الإلحاد الأوروبي إلى العقلية المصرية وفشت بين المتعلمين العصريين في المدارس الجديدة التي لم يكن فيها صبغة دينية 3. لقد بدا أن "العلم الحديث " قد قضى على الأديان كلها ولم يستثن منها الإسلام 4. وتسللت هذه الأفكار حتى وصلت إلى عقول بعض العلماء 5ولقد كان دستور هذا العلم الحديث هو: "كل معقول لا يؤيده محسوس لا يلتفت إليه"6. وبناء على ذلك طرحت فكرة الإيمان بالله وحده، وهي رأس الدين وأساسه الأول، وبدا أن هذه الفكرة قد سيطرت على عقول الكتاب والمفكرين حتى في الصحف والمجلات السيارة. وتبعاً لإنكار هذه الفكرة جاءت فكرة أخرى هي: إنكار كل ما يتصل بعالم الغيب 7.
ولم يتوقف الأمر عند أصول الدين بل امتد أيضاً إلى فروعه الفقهية
1 انظر عن موقف الكنيسة هذا: موريس كروزيه: تاريخ الحضارات العام، ط. عويدات للنشر والتوزيع، بيروت (4/ 264) والشيخ محمد عبده: مجلة المنار (5/42) وما بعدها.
2 انظر: مصطفى صبري: "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين"(1/166، 216و2/16ـ 18) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت. ومحمد رشيد رضا: مجلة المنار (27/509 و30/509)
3 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/166) وانظر أيضاً: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (14/544 و 1/260) ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (12 ـ20)
4 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/216)
5 انظر: مصطفى صبري (1/98و 32 ـ 33و 66)
6 المصدر نفسه (1/244)
7 المصدر نفسه (1/32ـ 33)
فقد أراد جماعة من المتعلمين على الطريقة الحديثة، والمفتونين بالحضارة الأوروبية والعلم الحديث، طرح الفروع الفقهية بدعوى عدم مناسبتها للحالة العصرية. وقد ظهر ذلك حول حجاب المرأة المسلمة في كتابين لقاسم أمين، هما:"تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"1. وامتد أيضاً ليشمل جميع كتب الفقه الإسلامي 2.
فتبين من هنا أن الفتنة المثارة ضد الدين، الواصلة إلى حد إنكار وجود الله تعالى، لعدم كونه ـ بحسب دستور العلم الحديث ـ في متناول التجربة الحسية، أو لكونه لا يزال محلاً للشك في وجوده على الأقل. وإنكار معجزات الأنبياء المستلزم لإنكار النبوة، لكونها أيضاً من الخوارق التي لا يقدر على تجربتها في هذا الزمان، والتشكيك في أخبار الأنبياء عن الغيب والمستقبل، بل وإخبارهم عما سبق أيضاً من أخبار الأمم السابقة ـ قد طمت وعمت ووصلت إلى علماء الأزهر الجدد من تلامذة "الأستاذ الإمام" والكتاب العصريين الذين كانوا أيضاً من تلامذة "الأستاذ الإمام" وقد قويت هذه الفتنة وشد أزرها العلم الحديث، وتهيبها علماء الأزهر الباقون على عقيدة الإسلام وسكتوا عنها 3.
ومن ناحية أخرى، ومع وصول الأوروبيين وسيطرتهم على مقاليد الأمور في مصر، شعر النصارى بقوة لم تكن قد دبت في جسدهم المنهوك من قبل، وقد شد أزرهم المستعمر الأوروبي الذي يدين بدينهم ـ ولو بحسب الدعوى الظاهرة ـ مع هزيمة دولة المسلمين ووصولها إلى أقصى دركات ضعفها. فدفعهم ذلك إلى التقوي بهذا الأوروبي القوي على المسلم
1 نشر قاسم أمين أولاً:"تحرير المرأة " وبعده بعام نشر "المرأة الجديدة" وقاسم أمين أحد تلامذة محمد عبده، لذلك فقد قرظ الشيخ رشيد كتابه وأثنى عليه: انظر: مجلة المنار (3/850 و 2/248) وانظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/35ـ 36)
2 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/32) ومحمد حسين: الإسلام والحضارة الغربية (ص:51)
3 انظر: مصطفى صبري: مرجع سابق (1/343)
المهزوم الضعيف، وبدأت دعوة قوية للتنصير في مصر على صفحات الصحف والجرائد والمجلات والتي كانت تصل إلى كبار علماء الدين الإسلامي حتى شيخ الأزهر 1 وأصبح عمل المنصرين جهاراً نهاراً، والدعوة إلى المسيحية تزداد نشاطاً. وقد تتخذ شكل القوة والإرهاب أيضاً2.
لقد بلغت القوة ـ المتوهمة ـ لدى النصارى أن ألفوا وعقدوا مؤتمراً لهم ينادون فيه بمطالبهم الدينية 3 وبلغت الدعوة هذه مبلغاً حتى عقد علماء الأزهر مؤتمراً نادوا فيه بوقف هذه الموجة 4.
وثالثة الأثافي في الحياة الدينية هي البدع والخرافات التي استشرت في المجتمع، وقد لفتت هذه البدع أنظار الجميع حتى الكتَّاب النصارى، الذين تناولوها بالتحليل، ولقد وصلت هذه البدع إلى حد الشرك بالله تعالى في ألوهيته وربوبيته على السواء 5.
لقد كانت هذه الصورة للحياة الدينية تعكس قوة هذا الدين الذي يهدمه أعداؤه من الخارج ويهدمه أهله من الداخل، ولا يزال شامخاً منتصراً لم ينل منه أي من الفريقين، ولا يزال من أهله طائفة على الحق ظاهرة تبين حقيقته وتنصر شريعته.
ولقد بدا أثر هذه الحالة الدينية على الشيخ رشيد رضا واضحاً، فلقد حاول ـ بما أتيح له من وسيلة ـ أن يقاوم جميع هذه المظاهر، ويرد على شبهات الملحدين، وعلى النصارى المعتدين على دين الأغلبية من سكان
1 انظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (6/425ـ426) ، وأيضاً (4/379ـ380) ، وتفسير المنار (6/25) ، والمجلة أيضاً (31/619) .
2 انظر: محمد رشيد رضا: مجلة المنار (2/140) .
3 المصدر السابق (29/ 292) ورد عليه المسلمون بمؤتمر آخر، انظر: مجلة المنار (14/353 و389 و449 و457) .
4 انظر: محمد رشيد: مجلة المنار (4/202ـ211)
5 انظر: جولد سيهر: العقيدة والشريعة ط. الثانية دار الكتب الحديثة بمصر (ص254) وما بعدها، وأيضاً له: مذاهب التفسير الإسلامي ط. مكتبة الخانجي بمصر (363) وما بعدها.
مصر، كما أنه قاوم بكل ما يستطيع البدع ومظاهرها 1. ولكنه في كل ذلك لم يسلم من الخطأ، فقد وقع في عدة مشاكل وهو يدفع شبهات الملحدين التي يثيرونها بين الحين والآخر، فلقد حاول مثلاً بيان موافقة نظرية النشوء والارتقاء ـ والتي انتشرت آنذاك وشغلت المثقفين والمتدينين على السواء ـ لآيات القرآن 2، ولكنه عاد وفرح بما اتضح بعد ذلك من فساد هذه النظرية 3.
كما أنه في رده لهذه الشبهات قد تجاوز فرد أحاديث صحيحة لأنها لا توافق عقليات العصريين 4. وفي مواجهته للبدع والخرافات اتخذ موقفاً متشدداً من كرامات الأولياء ومن تلبس الجن في الإنسان 5.
أما مسألة الأديان فقد أحسن الشيخ رشيد فيها كل الإحسان بحيث يستحق ذلك بحثاً مستقلاً في جهوده في هذا الميدان، ونحن في انتظار من يجلي لنا هذا الموقف، وأرجو أن يوفقني الله لذلك.
1 انظر: مجلة المنار (1/82ـ87) ، والتفسير (8/549) .
2 انظر: مجلة المنار (9/ 141 و 33/ 58ـ64) .
3 انظر: مجلة المنار (30/ 593 و 31/ 130)
4 سيأتي بيان موقفه من السنة.
5 انظر (ص: 687) من هذا البحث، و (ص:609)