الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: منهج رشيد رضا في إثبات القدر
تمهيد
…
تمهيد:
الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يصح الإيمان إلا به، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1 وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 2 وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عندما سأله جبريل عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره، وشره"3.
والإيمان بالقدر على درجتين: الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فأول ما خلق الله القلم، قال له:"اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" 4، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أ×خطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 5 فهذه الدرجة تشتمل على مرتبتين: العلم والكتابة.
وأما الدرجة الثانية: فالإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه
1 سورة القمر، الآية (49)
2 سورة الأحزاب، الآية (38)
3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح:8.
4 رواه أبو داود: السنن: ك: السنة، باب: في القدر، ح: 4700، والترمذي: السنن: في القدر، ح: 2316، وأحمد المسند (5/ 317)
5 سورة الحج، الآية (70)
سبحانه على كل شيء قدير، وما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره ولا رب سواه، لا فرق في ذلك بين أفعال العباد وغيرها، قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1 وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم. فهذه الدرجة تشتمل على مرتبتين: الإرادة والمشيئة، والخلق والتكوين 3. وأفعال العباد داخلة ـ كما هو ظاهر ـ في المرتبة الرابعة، فالله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد فاعلون حقيقة. وعلى هذا الاعتقاد كان إجماع السلف 4.
والدرجة الأولى في الإيمان بالقدر ـ العلم والكتابة ـ قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً ـ وهم الذين حكم السلف بكفرهم ـ 5 ومنكروه اليوم قليل 6. والدرجة الثانية: الإرادة والخلق، هي التي يكذب بها عامة القدرية، مجوس هذه الأمة، فيقولون إن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، والله تعالى لا يخلقها، ولا يريد منهم إلا الطاعة، فتغلب إرادتهم إرادته 7. ويحسن الآن أن نعرض لأقوال الفرق في القدر:
1 سورة التكوير، الآية (28 ـ29)
2 سورة الصافات، الآية (96)
3 انظر لتقرير هذا المعنى: ابن تيمية: العقيدة الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى: 3/ 148 ـ 149]، وانظر أيضاً: مجموع الفتاوى (8/ 63 ـ 64)
4 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 55) وما بعدها، وعبد الله بن أحمد: السنة (2/ 385) وما بعدها، واللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 589)، وابن منده: الإيمان (1/ 136) وما بعدها، وابن بظة: الإبانة: القدر (1/ 235) وما بعدها، وابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 66 و78 و3/ 112) وما بعدها، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 111) وما بعدها ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1407هـ.
5 انظر: ابن تيمية: الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى](3/ 149)، والإيمان:(ص: 364) ظ. المكتب الإسلامي، وعبد الله بن أحمد: السنة (2/ 385)
6 ابن تيمية الواسطية [ضمن مجموع الفتاوى](3/ 149)
7 انظر: ابن تيمية: المصدر السابق (3/ 150)، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 80)
وأبدأ أولاً بتحرير محل النزاع: فقد ذهب الذين كانوا ينكرون الدرجة الأولى في الإيمان بالقدر وهي: العلم والكتابة. وهم الذين كانوا يقولون: إن الأمر أنف، أي: مستأنف، ويقصدون بذلك: أن الله تعالى أمر العباد ونهاهم وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار؛ أي أنه مستأنف العلم بالسعيد والشقي، ويبتدئ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب 1.
وكما قلت؛ فقد ذهب هؤلاء وصار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم والكتابة، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق 2. ولذلك أصبح التعبير عن هذه المسألة بـ "خلق أفعال العباد" ومعناه: الخلاف في كون الله تعالى هو المريد لها، الطاعات والمعاصي، والخالق لها، أم أن المؤثر فيها هو فقط إرادة العباد وخلقهم؟ ولدينا في الإجابة على هذا التساؤل ثلاث اتجاهات، الأول: المعتزلة القدرية، والثاني: الجبرية، والثالث: مذاهب التوسط. وسبب خلاف المختلفين، هو أن لدينا مسألتان متعارضتان في الظاهر، الأولى: ما دلت عليه أدلة الشرع وأيدته البداهة، من أن الإنسان يقدم على ما يفعله مختاراً غير مكره، ولذلك فإنه سيحاسب عليه. قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} 3 وقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 4. والمسألة الثانية: هي ما دل عليه الدليل من أن إرادة الله تعالى ومشيئته وخلقه وراء عمل الإنسان. قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5 وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 6، وقد جمعت هاتين المسألتين في آية واحدة هي: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ
1 ابن تيمية: الإيمان (ص: 364)
2 المصدر نفسه (ص: 369)
3 سورة التوبة، الآية (105)
4 سورة النجم، الآية (31)
5 سورة التكوير، الآية (29)
6 سورة الأنعام، الآية 112)
تَعْمَلُونَ} 1 فذهب كل فريق إلى ترجيح إحدى المسألتين على الأخرى، والأخذ ببعض الأدلة في سبيل تأييد دعواه وترك البعض الآخر، وأعرض الآن وباختصار إلى أقوال هذه الفرق، تمهيداً لمعرفة منهج رشيد رضا في هذا الباب.
أولاً: المعتزلة:
ذهبت المعتزلة إلى أن إرادة الإنسان هي المتصرفة وحدها في أفعاله، وأنه هو الخالق لها، لذا فهو المسؤول عنها والمحاسب عليها، وأنها خارجة عن إرادة الله تعالى وخلقه، ولا تدخل تحت قدرته، فالله سبحانه لا يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً، ويريد ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يريد 2. فزعموا أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله تعالى وإرادته ومشيئته وخلقه. واستدلوا بأدلة من العقل على مذهبهم هذا 3. ولم ينكر المعتزلة العلم الأزلي، ولكنهم قالوا: إنه غير ملزم بل هو صفة كشف ـ فقط ـ عن العلوم. وكذلك: لم تنكر المعتزلة أن القدرة التي يخلق بها العبد فعله هي من الله تعالى، وقالوا: هي قدرة واستطاعة قبل الفعل، صالحة للضدين 4. وأدلة الكتاب والسنة متواترة على بطلان هذا المذهب. قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 5، وهذا عام لا يخرج منه شيء من العالم أعيانه وأوصافه وأفعاله وحركاته وسكناته 6، قال تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 7،
1 سورة النحل، الآية (93)
2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 332)، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 91)، وزهدي حسن: المعتزلة (ص: 92)
3 انظر: عبد الجبار: المصدر نفسه (ص: 334 ـ 335 وص: 355 ـ 382)
4 عبد الجبار: المصدر نفسه (ص: 398)، وزهدي حسن: مصدر سابق (ص: 95)، ومصطفى صبري: موقف البشر (ص: 35 ـ 36 وص: 41)، وانظر: عبد الله بن أحمد: السنة (2/ 386)
5 سورة، الآية (4)
6 انظر: ابن القيم: شفاء العليل (ص: 99)
7 سورة البقرة، الآية (284)
وأفعال العباد أشياء ممكنة والله قادر على كل ممكن 1، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 2 وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} 3 إلى آيات كثيرة تدل على هذا المعنى.
ثانياً: الجبرية:
وبينما وقفت الجبرية على هذا الطرف، ورجحت هذا الجانب، وقفت الجبرية على الطرف الآخر ورجحت الجانب الثاني. فقالوا: إن إرادة الله تعالى هي المتصرفة وحدها وهو الخالق لأفعال العباد، وهم لا إرادة لهم ولا اختيار بل هم مجبورون على أعمالهم، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيهم على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليهم الأفعال مجازاً، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتجرك الشجر، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً جبر 4.
ولا شك أن الجبرية أحق بالذم من المعتزلة وهم داخلون معهم في اسم "القدرية" وإن كان مذهب الجبر أشد فساداً وأسوأ لازماً، إذ أنه مبطل للشرائع، مسقط للأمر والنهي 5.
ثالثاً: مذاهب التوسط:
ولقد آثرت هذه التسمية، لأن هذه المذاهب حاولت التوسط بين قول المعتزلة الذين ينسبون الفعل إلى إرادة الإنسان وخلقه، وبين الجبرية الذين ينفون إرادة الإنسان: ولدينا هنا مذهبان: الأول: مذهب الأشعرية، والثاني: مذهب الماتريدية.
1 ابن القيم: المصدر السابق والصفحة.
2 سورة الأنعام، الآية (112)
3 سورة البقرة، الآية (253)
4 انظر: مذهب الجبري: الأشعري: المقالات (1/ 338)، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 72)، والبغدادي: الفرق بين الفرق (ص: 211) ت: عبد الحميد، وابن القيم: شفاء العليل (ص: 91)
5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 103 ـ 105)
أ) ـ مذهب الأشعرية:
والحق أن مذهب الأشعرية في القدر ليس واحداً، وقد تطور المذهب من الأشعري ومروراً بالباقلاني إلى الجويني، والذي استقر عليه مذهبهم ـ بعد إثبات علم الله تعالى وكتابته، وقدرته وإرادته وخلقه 1، أن العباد لهم قدرة وإرادة في الفعل، لكنها غير مؤثرة فيه، بل الله تبارك وتعالى هو الخالق لها وقدرته هي المؤثرة وحدها 2. وإذا كانت قدرة الإنسان ليس لها تأثير بحال، فهي قدرة غير مؤثرة، فحقيقة مذهب الأشعرية هو الجبر إذ أن القدرة غير المؤثرة كلا قدرة، ويسمي الأشعرية مذهبهم هذا بمذهب الجبر التوسط، أي الجبر بواسطة الاختيار 3.
ب) ـ مذهب الماتريدية:
وكما حاول الأشعرية التوسط بين المعتزلة والجبرية، إلا أن القدر لم يساعدهم فحالوا إلى الجبر، فقد حاول كذلك الماتريدية التوسط، إلا أنهم مالوا إلى المعتزلة. فبالرغم من إقرار الماتريدية بعلم الله تعالى وإرادته وخلقه لأفعال العباد 4، إلا أنهم قالوا بوجود إرادة جزئية للعبد يوجه بها فعله المترجح بالإرادة الكلية، نحو جانب معين. وهذا هو نقطة الفرق بينهم وبين الأشعرية، فالإرادة عند الماتريدية تنقسم إلى إرادة كلية هي مخلوقة لله تعالى، وهي اسم لصفة الإرادة التي من شأنها ترجيح أحد المقدورين على الآخر، وإلى إرادة جزئية غير مخلوقة لله، وهي ـ كما فسروها ـ تعلق تلك الصفة ـ الإرادة الكلية ـ بجانب معين، فالجزئية تأتيها من تعينها بتعين متعلقها 5،
1 انظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 317)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 134)، والشهرستاني: الملل ولانحل (ص: 84 ـ 85)
2 انظر: الباقلاني: المصدر السابق (ص: 347)، والبغدادي: المصدر السابق (ص: 133 ـ 134)، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 122 ـ 123)
3 انظر: مصطفى صبري: موقف البشر (ص: 50 و 56) ، وحاشية الدواني على العقائد العضدية (1/ 262) وما بعدها، ت: سليمان دنيا.
4 انظر: اللامي: التمهيد لقواعد التوحيد (ص: 97)
5 انظر: مصطفى جبري: موقف البشر (ص: 56 ـ 57)
وهذه الإرادة الجزئية هي من قبيل الحال المتوسط بين الموجود والمعدوم 1. وقد أقر متأخرو الماتريدية بأن مذهبهم هو مذهب المعتزلة الذي ما زال يعيش تحت اسم "الماتريدية" 2.
وقبل أن أنهي هذا التمهيد أحب أن أشير مرة أخرى لمذهب أهل السنة وهو: أن الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه، م ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والعبد مأمور بطاعة الله منهي عن معصيته، وكل ذلك بقدر الله تعالى، ولا حجة لأحد على الله تعالى 3.
وأهل السنة يأخذون كل دليل صحيح من الفريقين ـ القدرية والجبرية ـ فالحق الذي مع الجبرية هو كل دليل صحيح يدل على قدرة الرب ومشيئته، وكل دليل صحيح مع المعتزلة فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم واقع بقدرتهم. وإحداث الله تعالى لأفعال العباد بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بالعبد، وإحداث العبد لها بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل القائم به بالقدر والمشيئة التي خلقها اله فيه، فجهة الإضافة مختلفة 4. وبهذا يزول الإشكال: فإنه يقال: الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلاً له ولا يتصف بها من كانت مخلوقة له، إذا كان قد جعلها صفة لغيره كما أنه سبحانه لا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان 5.
ويبقى الآن أن أبين منهج رشيد رضا في هذا الباب. لقد تحدث رشيد رضا عن القدر كثيراً، ولكنه كان حديثاً متناثراً، فحاولت أن أجمعه وأرتبه، ليجتمع لي قدراً كافياً منه، أستطيع من خلاله تصور موقفه من القدر.
1 المصدر نفسه (ص: 57)
2 صرح بهذا: زاهد الكوثري، وهو ماتريدي. انظر: مصطفى جبري: موقف العقل (3/ 392)
3 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 63 ـ 64) بتصرف.
4 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (3/ 240ـ 241)
5 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 123)