الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومهما يكن من شيء فإن السحر مرض من الأمراض، وعارض من العوارض والعلل، يجوز عليه صلى الله عليه وسلم كأنواع الأمراض مما لا ينكر، ولا يقدح في نبوته 1، بل هو من جنس ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم من الأسقام والأوجاع، وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما 2.
1 انظر: عياض: الشفا (2/ 160)
2 انظر: ابن القيم: زاد المعاد (4/ 124)، وابن حجر: فتح الباري (10/ 237)
المطلب الخامس: عصمة الأنبياء عند أهل الكتاب:
ويقارن رشيد رضا بين العصمة التي قررها المسلمون للأنبياء، وبين مذهب أهل الكتاب في عدم عصمة الأنبياء ونسبتهم إلى سائر الشرر والمعاصي. إلا أنه لا يسلم لهم هذه الدعوى، ويستدل بنصوصهم المقدسة على ذلك.
وأريد هنا ـ وقبل أن أعرض لمقارنة الشيخ رشيد هذه ـ أن أذكر ـ وباختصار ـ بعض الآيات القرآنية التي تبين تزكية الله تعالى لأنبيائه في كتابه، وتبين موقف المسلمين من هؤلاء الأنبياء صلى الله تعالى عليهم؛ يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
…
} 3. ونلاحظ أن الأمر الأخير بالاقتداء بهم ـ صلى الله تعالى عليهم ـ قد جاء بعد ذكرهم والثناء عليهم وذكر صلاحهم، وإحسانهم وهدى الله تعالى لهم. وهذا
3 سورة الأنعام، الآيات (84 ـ 90)
هو ما نقول أنه موجب العصمة. إلا أن أهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة للأنبياء يقول رشيد رضا: "وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمي بعض الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد.."1.
ولا يقف الأمر بأهل الكتاب عند مجرد الدعوى النظرية بل ينسبون إلى الأنبياء في كتبهم ارتكاب جميع الموبقات التي يستنكف عامة المسلمين عن مجرد الحديث عنها. وسأقتصر هنا على ذكر أسماء بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة، فمثلاً تنسب التوراة إلى يعقوب عليه السلام أنه سرق مواشي من حميه وخرج خلسة دون أن يراه أحد 2. وأما إبراهيم الخليل عليه السلام فقد قدم ـ بحسب رواية التوراة ـ امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها 3. ومن ذلك أيضاً: أن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بهما الواحدة بعد الأخرى كما تزعم رواية التوراة 4. وأما دواد الذي يقول في صفته القرآن {إِنَّهُ أَوَّابٌ} 5 فيقول العهد القديم: إنه زنا بزوجة رجل من قواد جيشه ثم دبر حيلة لقتل الرجل، فقتل وأخذ داود الزوجة وضمها إلى نسائه فولدت له سليمان 6. وأما سليمان الذي يصفه القرآن بأنه {نِعْمَ الْعَبْدُ} 7، فيقولون: إنه ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبنى لها المعابد بسبب حب النساء الوثنيات اللاتي أملن قلبه 8. ويقولون: إن هارون صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل 9.
1 الوحي المحمدي (ص: 51)
2 انظر: التوراة: سفر التكوين: إصحاح: 31 عدد17
3 المصدر نفسه الخروج: إصحاح: 12 عدد 114
4 المصدر نفسه تكوين: إصحاح: 19: عدد30
5 سورة ص: الآية (17) والأواب: التواب (الراغب: المفردات، ص: 97، أوب)
6 صموئيل الثاني: إصحاح: 11/ عدد: 1
7 سورة: ص: الآية (30)
8 الملوك: الأول: (11/5)
9 الخروج: (32/ 1) .
واستغل النصارى هذه الروايات الغريبة لصالحهم، ـ وبما أنهم لا بدّ أن يؤمنوا بالتوراة ـ فقد اتخذوا من هذه الروايات سنداً يستندون إليه في تصحيح عقيدتهم في المسيح عليه السلام كما يقول الشيخ رشيد:" والنصارى منهم يحعلون معاصي الأنبياء دليلاً على عقيدتهم، وهي أن المسيح هو المعصوم وحده لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة عنه، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم غيره، لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة الوثنية مخالفة لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها"1.
ولكن الحقيقة لا تزول أبداً فلا بدّ أن نجد طريقاً لها، يقول الشيخ رشيد: "
…
إن كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم والمحرفة في اعتقادنا لا تشهد لهم برمي جميع أنبيائها بالذنوب فضلاً عن المعاصي التي هي أشد من الذنوب، فإن يوحنا المعمدان: يحيى بن زكريا عليهما السلام لم يوصم بخطيئة قط، بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح في عصمته، ففي إنجيل لوقا:"إنه يكون عظيماً أمام الرب وخمراً ومسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس" 2 وفيه: "كانت يد الرب معه" 3، وقال المسيح فيه:"الحق أقول لكم إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" 4، ثم قال فيه:"جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان، وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب العشارين والخطاة" 5 بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وأخواته
1 الوحي المحمدي (ص: 51)
2 انظر: لوقا (1:65)
3 لوقا (1: 66)
4 متى (11: 11)
5 متى (11: 18)
ولم يسمح لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما تراه في آخر الفصل الثاني عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى
…
نعم إن إخوته لم يكونوا مؤمنين به كما هو مصرح به في موضع آخر، ولكن هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء؟
…
وإهانة الأم ذنب في جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة في شرب الخمر ذنب حتى في الشرائع التي لم تحرمها مطلقاً، وجاء في هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه أربعين يوماً يجربه ويدعوه إلى عبادته 1
…
ونحن نبرئه من كل ذلك. وهنا شهدت الأناجيل أيضاً بأن يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا، وأنه عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه إليصابات " كان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم" 2، وهذه شهادة بالعصمة التامة. وهناك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد منهم أدنى خطيئة، وآدم عندما ارتكب الخطيئة لم يكن نبياً مرسلاً إلى أحد، ولا كان معه قوم يسيئون الاقتداء به، وكان قد نسي النهي عن الأكل من الشجرة
…
" 3.
ويريد الشيخ رشيد من هذا كله إثبات العصمة للأنبياء حتى بدلالة الكتب المقدسة عند أهل الكتاب، وأن عصمة المسيح من الذنوب التي يدعيها النصارى دليلاً على ألوهيته ليست كذلك.
وقد سبق الجواب عن الآيات القرآنية التي تتحدث عن استغفار الأنبياء من الذنوب ومغفرتها لهمن كقوله تعالى لخاتمهم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 4 وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 5
1 انظر: لوقا (4:1ـ 13)
2 لوقا (1: 6)
3 الوحي المحمدي (ص: 52 ـ 53)
4 سورة الفتح، الآية (2)
5 سورة محمد، الآية (19)
فالذنب فيه ـ كما يقول الشيخ رشيد ـ: "جاء على أصل معناه اللغوي المشتق من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة ضارة أو منافية للمصلحة، أو لما هو أولى وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد في الرأي المباح شرعاً كإذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} 1، وإنما العصمة للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم، إذ لو عصوه لكان أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية لأنه أمرهم باتباعهم، وقال في نبينا صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2
…
" 3.
ومهما يكن من شيء فإن الله تعالى يعصم الأنبياء بعد الأخطاء فيبينها لهم فيعرفونها ويتوبون منها ويتوب الله عليهم فيغفرها لهم، فلا خوف من ذلك على الأنبياء ولا أتباعهم.
1 سورة التوبة، الآية (43)
2 سورة الأحزاب، الآية (21)
3 الوحي المحمدي (ص: 53)