الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التدريجي ـ لأننا سوف نجد له كلاماً في خلال هذه السنوات مخالفاً لذلك ـ لأنه وكما قلت: لا تتغير الأفكار طفرة ولا فجأة وإنما على سنة الترقي والصعود التدريجي، وأرى أن الشيخ رشيد ـ عندما كان يحكي لنا قصة أبي الحسن الأشعري 1 في تحوله لمذهب السلف ـ إنما كان يرى فيها قصته هو نفسه، إذ يقول: ".. وكان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن أشهر قواعد الاعتزال واتبع فيها أهل السنة وظل على ما اعتاد من بعض تأويلات الاعتزال حتى صفا له مذهب أهل السنة من الشوائب، ورجع إلى مذهب السلف كما صرح به في آخر كتابه المسمى بـ الإبانة
…
" 2.
وأستطيع أن أقول: إن كتاب الشيخ رشيد الذي يصور لنا مذهبه الذي صفا له أخيراً والذي يوازي الإبانة للأشعري، هو: كتاب "السنة والشيعة"3.
1 هو علي بن إسماعيل بن أبي بشر، إمام المتكلمين، ولد 260هـ وتوفي 324هـ ببغداد، كان أولاً على معتقد المعتزلة ثم تحول تدريجياً إلى عقيدة أهل السنة، ويمثل هذا الطور كتابه " الإبانة: انظر: السير (15/ 85ـ 89) وفوقية حسن: مقدمة الإبانة (ص: 28 وما بعدها)
2 انظر: المجلة (29/ 535) .
3 المصدر نفسه (29/ 671) وتابع قصة هذا المؤلف: المجلة (29/ 424 ـ 441) و (29/ 531 ـ 538 و 595، 30/ 47ـ 61) وقد طبع الشيخ رشيد هذه الرسائل في شكل كتاب مفرد. باسم:" السنة والشيعة"
المطلب الثاني: مخالفة رشيد رضا للمتكلمين:
ومنذ ذلك الحين أصبح رشيد رضا عدواً للمتكلمين يخالفهم في كل طريق، ويحمل عليهم وعلى منهجهم وعلى كتبهم في كل مناسبة، ولا اختاروا سبيلاً إلا سلك غيره.
فقد نقل عن أئمة السلف ذمهم لعلم الكلام والنهي عن الخوض فيه 4. كما أن الشيخ رشيد أضحى يرى:" أن علم الكلام ليس من علوم
4 انظر: مجلة المنار (3/ 813ـ 815) وتفسير المنار (8/ 53)
الدين الأصلية وإنما هو ضرورة الجأ إليها العلماء الرد على المبتدعة والفلاسفة فيما خالفوا فيه النصوص القطعية، فهو كحرس الحجيج الذي يحرسهم من قطاع الطريق ما وجد المعتدون على الحجيج، فإذالم يوجد من يعتدي عليهم يستغنى عن الحرس لأنه ليسن من أركان الحج ولا من واجباته ولا من سننه 1. إن علم الكلام إذاً ليس له من الدين نسب، ولا يتعلق منه بسبب، لذلك يعد الشيخ رشيد مذهب المتكلمين بدعة في الدين 2، ومن سوء أثر طريقة المتكلمين أن العامة تأثروا بها فـ"صار كل عاميّ يجادل في الله بغير علم ولا كتاب منير، ويخوض في القدر ويذهب مذهب الجبر، ويكون هذا أكثر جدلاً كلما كان أقرب من الشيوخ في العلم والطريقة، فلا هو مجتهد يفهم، ولا مقلد يسلم" 3.
لقد سلك المتكلمون مناهج مختلفة في محاولتهم إثبات قضايا الدين فيحتجون مثلاً على وجود الله تعالى بالعقل وحده 4، على طريقة نظرية جدلية، ولذا فإن الشيخ رشيد يرفضها، ويقول: " المسلم لا يحتاج إلى الاستدلال على وجود الله تعالى بالطريقة الكلامية، وإن الدلائل التي تبنى على فرض خلاف المطلوب قد يكون إثمها أكبر من نفعها لأنها تثير الشبهات، وتوقع كثيراً من السامعين في الشك، وإنما الطريقة المثلى في ذلك طريقة القرآن الحكيم.. 5.
وأما في اليوم الآخر فيذهب المتكلمون إلى إثباته بطريق السمع فقط 6، وهذا أيضاً يرفضه الشيخ رشيد، فيقول:"كان الذين ألفوا كتب
1 انظر: مجلة المنار (29/ 538) وهذا تشبيه غير مسلّم، فإن علم الكلام على طريقة اليونان أفسد العقيدة، ولم يحرسها
2 انظر: الوحي المحمدي (ص: 46ـ 47)
3 انظر: مجلة المنار (4/ 289 في الحاشية)
4 انظر: مثلاً الباقلاني: التمهيد (ص: 439)
5 مجلة المنار (11/ 942)
6 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 246) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثالثة سنة 1401هـ
الكلام على طريقة فلسفة اليونان النظرية يرون أن الدليل على البعث لا يكون إلا سمعياً، إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه بالعقل بأدلة علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 1 وقوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 2. وغيرها من الآيات" 3.
وأما الطريقة الصحيحة عند الشيخ رشيد لتلقي العقائد وعرضها على الناس فهي طريقة القرآن لأن "مسائل العقائد في الإلهيات قد فصلت أبلغ تفصيل بأساليب القرآن العالية الجامعة بين الإقناع والتأثير، كبيان صفات الله في سياق بيان أفعاله وسننه في الخلق والتكوين، والتصيير والتدبير، وآياته في الأنفس والآفاق.. وتأثير العقائد في الأعمال وما يترتب عليها في الدارين من الجزاء
…
4 ". وهذه العقائد: " إنما يجب تعلمها على طريقة القرآن، لا على طريقة المتكلمين وفلاسفة اليونان..5".
ولكن المتكلمون لم يسيروا على طريقة القرآن فقد" أضلت الفلسفة اليونانية علماء الكلام عن هذه الأساليب العليا فلم يهتدوا بها، ولا اقتدوا بشيء منها، بل طفقوا يلقنون النشء الإسلامي صفات الله مسرودة سرداً معدودة عداً، معرفة بحدود ناقصة، أو رسوم دارسة، مقرونة بأدلة نظرية، وتشكيكات جدلية، لا تثمر إيمان الإذعان، ولا خشية الديان، ولا حب الرحمن، بل تثير رواكد الشبهات، وتتعارض في إثباتها دلائل النظريات
…
6".
والسبب في إعراض المتكلمين هذا عن طريقة القرآن: " افتتانهم
1 سورة الأعراف: الآية (29)
2 سورة الأنبياء: الآية (14/ 104)
3 مجلة المنار (14/ 155)
4 تفسير المنار (8/ 271) وانظر: أيضاً: المجلة (3/ 399)
5 تفسير المنار (7/ 287)
6 المصدر السابق (8/ 271 ـ 271)
بالطريقة النظرية التي أخذوها عن كتب اليونان.. 1" ولقد فشلت تلك النظريات الفلسفية على مرّ العصور، والدليل على ذلك أن أحداً من الناس لم يهتد بها بينما: "اهتدى بحجج القرآن الألوف وألوف الألوف
…
"2.
ويقارن الشيخ رشيد بين أثر الفلسفة في النفس وبين أثر الدين، ويأخذ "الفضيلة" ميداناً لهذه المقارنة، فبينما يعمل المؤمن بالدين ابتغاء مرضاة الله تعالى وثوابه، و"صاحب تلك النظرية الفلسفية قلما يعمل بها، وإن عمل بها أحياناً فقلما يكون مخلصاً في عمله، وإذا تعارض هواه مع شهوته مع خير غيره ومنفعته، فإنه يؤثر نفسه ولو بالباطل، على غيره من أصحاب الحق، فإذا كان مما وصف الله تعالى به المؤمنين أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة 3، فهؤلاء الفلاسفة ومقلدتهم يؤثرون أنفسهم على غيرهم، ولو عن ظهر غنى، ثم إنهم يميلون في تأويل الخير والنفع مع الهوى.. 4.
والسرقة والخيانة والفاحشة وجميع الرذائل حتى القتل، يمكن أن تعد من الفضائل عند الفلاسفة المتأخرين، يقول الشيخ رشيد واصفاً هذا المذهب الجديد:"فهذا المذهب الجديد في الفلسفة العملية هو شر مذهب أخرج للناس، فإن الرذائل فيه قد تسمى عقائل الفضائل، والمفاسد تعدّ فيه من أنفع المصالح، والحاكم في ذلك الهوى.."5.
ويتخذ نفس الموقف من كتب الكلام لأنها "لم توضع لأجل تلقين المسلمين ما يجب عليهم اعتقاده، وإنما وضعت لرد شبهات الفلاسفة والمبتدعة..6". وبسب هذه الكتب التي راجت في المسلمين انتشرت
1 المصدر نفسه (1/ 481)
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 انظر: سورة المجادلة: الآية (9)
4 انظر: تفسير المنار (5/ 408)
5 المصدر السابق (5/ 409)
6 مجلة المنار (11/ 942)
تأويلات المتكلمين "المخالفة للسلف فلا يسلم منها أحد اعتمد في طلبه لعلوم الدين على كتب العقائد الرائجة في مصر وأكثر الأمصار.."1.
ويرفض الشيخ رشيد لغة المتكلمين ولسان الفلاسفة فإنهم يأتون إلى المعاني الواضحة البسيطة ويركبونها فتتعقد وتنغلق، كالموت وغيره فإن معناها ظاهر معروف "ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين"2. وللمتكلمين لغة خاصة لا يشاركهم فيها أحد لا من المحدِّثين ولا من الفقهاء، ولا من اللغويين، فإنهم قد يفسرون الشيء بما يباينه تمام المباينة، ومن ذلك كلمة "الأفول" التي وردت في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} 3، قال الشيخ رشيد:"وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان، وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية لدلالته على الحدوث والإمكان، وهو تفسير للشيء بما قد يباينه، فإن المحفوظ عند العرب أنها استعملت "الأفول" في غروب القمرين والنجوم.." 4. ويقول في موضع آخر: "فإن جعل السؤال بـ "ما" خاصاً بالسؤال عن الماهية والحقيقة من اصطلاح علماء المنطق لا من أساليب العربية.. وليس أسلوب القرآن جارياً على مذهب أرسطو في منطقه وإنما هو بلسان عربي مبين..5".
وفيما يتعلق بالمنطق 6 يقول الشيخ رشيد:"إننا نجزم بأن ما ذكروه في تعريف المنطق لا يصح باطراد، وإن حكماء اليونان وغيرهم ممن كانوا يحاولون إثبات العلوم العقلية بأنواعها حتى الإلهيات بتطبيقها على قواعد
1 المصدر السابق (33/ 680)
2 تفسير المنار (4/ 270)
3 سورة الأنعام: الآية (76)
4 تفسير المنار (7/ 559)
5 المصدر السابق (2/ 308)
6 المنطق كما يعرفه أهله: "علم يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير" انظر: الجرجاني: التعريفات (ص: 208) ط. الحلبي وأولاده بمصر. وانظر: ابن سينا: الإشارات (1/ 117) ت. سلمان دنيا. ط. دار المعارف بمصر، الثالثة
المنطق لم يستطيعوا مراعاة أحكامه لا في التصورات 1 ولا في التصديقات 2
…
" 3.
والحق ما قال الشيخ رشيد: إن المنطق لم يعصم واضعيه عن الخطأ في التفكير، وكل الذين استخدموه أخطأوا ولم يعصم المنطق أحداً من الخطأ أبداً. لقد فشل المنطق كما فشلت الفلسفة وأصبح المنطق مجرد مراس ومران عقلي على أشكال عدة وضروب منتجة أو غير منتجة، ولا نتيجة له 4.
1 التصورات: هي إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات. أنظر: الجرجاني: التعريفات (ص: 52) ط. الحلبي بمصر، ود. جميل صليبا: المعجم الفلسفي (1/ 277) ط. دار الكتاب العربي اللبناني، الأولى 1971م.
2 التصديقات: التصديق تصور معه حكم، وهو: إسناد أمر لأمر، والتصور يكتسب بالحد مثل تصورنا لماهية العالم والتصديق هو إدراك الماهية مع الحكم عليها بالنفي أو الإثبات مثل تصديقك بأن العالم حادث. مؤلف من تصور العالم وتصور الحدوث ومن إدراك وقوع النسبة بينهما. انظر: جميل صليبا: المصدر السابق (1/277) .
3 مجلة المنار (23/ 321) .
4 انظر: د. عبد الحليم محمود: الإسلام والعقل (ص: 58) وما بعدها.