الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان قادراً مريداً فاعلاً بالاختيار
…
وأن أفعاله تستند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه باختياره
…
" 1. ومع ذلك فإن الإنسان "غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم" 2.
وبهذا فارق رشيد رضا المعتزلة القائلين بعدم قدرة الله على أفعال عباده وإرادته لها، والأشعرية المنكرين لتأثير إرادة الإنسان ويعيب عليهم قولهم: "بأن لا تأثير للأسباب في مسبباتها ولا لقدرة الإنسان في عمله
…
" 3.
وهذه المرتبة ـ مرتبة الإرداة والمشيئة ـ قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه وأدلة العقول والعيان، وليس في لاوجود موجب ومقتضى إلا مشيئة الله وحده وإرادته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن 4.
1 تفسير المنار (8/ 56)
2 المصدر نفسه (4/ 195)
3 مجلة المنار (9/ 81)
4 انظر: ابن القيم الشفاء (ص: 80)
المطلب الرابع: الخلق:
وخلق الله تعالى لكل شيء متفق عليه بين الرسل وعليه جميع الكتب الإلهية، والفطرة والعقول والاعتبار، وخالف في ذلك مجوس هذه الأمة فأخرجوا طاعات عباده عن ربوبيته ومشيئته وخلقه، وجعلوهم هم الخالقين لها، ولا تعلق لها بمشيئة الله تعالى وخلقه 5.
وعن هذا الركن الهام من أركان القدر يقول رشيد رضا مثبتاً له: "إننا نؤمن بأن الله تعالى هو خالق كل شيء بقدرته وإرادته، واختياره وحكمته
…
" 6.
ويقول في موضع آخر: "وهنا أمران كل منهما ثابت في نفسه:
5 المصدر نفسه (ص: 91)
6 الوحي المحمدي (ص: 232)
أحدهما: أن الله خالق كل شيء، وثانيهما: أن هذا النوع من المخلوقات الذي يسمى الإنسان يعمل أعماله بقصد واختيار ولكنه غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم
…
" 1.
وهذا هو الصحيح فإن إرادة الإنسان ومشيئته تابعة لإرادة الله تعالى ومشيئته {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2.
ولكن كيف يجمع رشيد رضا بين الحقيقتين اللتين كانت سبب الخلاف بين المعتزلة والأشعرية، ورجح كل فريق منهم جانباً منها ـ كمت أشرت في التمهيد لهذا الفصل ـ؟ يقول رشيد رضا جواباً على هذا السؤال: "وجملة القول أن الله تعالى خالق كل شيء وأنه يخلق بقدر ونظام وحكمة وسنن، لا أنفاً ولا جزافاً ولا عبثاً وأنه حكيم في خلقه وأمره
…
وأنه خلق الإنسان قادراً مريداً فاعلاً بالاختيار
…
وأن أفعاله تستند إليه ويوصف بها لأنها تقوم به وتصدر عنه باختياره، لا لأنه محلها، وتنسب إلى مشيئة الله من حيث انه هو الخالق له بهذه الصفات، والمعطي له هذا التصرف والاختيار
…
" 3. ويقول: "ومعنى خلقه تعالى للأشياء بقدر وتقديره لكل شيء: أنه خلقها بنظام جعل فيها الأسباب على قدر المسببات عن علم وحكمة ولم يخلق شيئاً جزافاً ولا أنفاً كما يزعم منكرو القدر
…
" 4. والحق أن الشيخ رشيد قد تعثر في هذا الموطن الصعب. إن المعتزلة لم ينكروا الأسباب ولم ينكروا أن القدرة التي يقوم بها الإنسان بأعماله هي من الله تعالى، إنهم يرون أن الإنسان يعمل بقدرة من الله سبحانه 5، ولكن الخلاف في خلق الله تعالى لأفعال العباد الاختيارية على الحقيقة مع أنها واقعة منهم بالبداهة: وأهل السنة يقولون: "إن كل ما في الوجود مخلوق له تعالى، خلقه بمشيئته وقدرته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي
1 تفسير المنار (4/ 195)
2 سورة التكوير، الآية (29)
3 تفسير المنار (8/ 56)
4 المصدر نفسه (8/ 286)
5 انظر: زهدي حسن: المعتزلة (ص: 92 ـ 95)
يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويفقر ويغني، ويضل ويهدي، ويسعد ويشقي، ويشر صدر من يشاء للإسلام، ويجعل صدر من يشاء ضيقاً حرجاً 1، قال تعالى: {
…
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2 فقد جعل الأصنام منحوتة معمولة لهم وأخبر أنه خالقهم وخالق معمولهم، فإن "ما" ههنا بمعنى الذي، والمراد: خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقاً للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد 3.
ومن ناحية أخرى، فإن المعتزلة سلموا أن الله تعالى قد يخلق في العبد كفراً وفسوقاً على سبيل الجزاء، كما في قوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 4، وقوله:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} 5، وقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 6، ثم من المعلوم أن هذه المخلوقات تكون فعلاً للعبد وكسباً له يجزى عليها ويستحق الذم عليها والعقاب، وهي مخلوقة لله تعالى، فالقول عند أهل الإثبات فيما يخلقه ابتداءً كالقول فيما يخلقه جزاءً من هذا الوجه 7.
فإن قيل هذا قول من يقول: هي فعل للرب وفعل للعبد. قيل: إنها مفعولة للرب لا فعل له، إذا فعله ما قام به، والفعل عند أهل السنة غير المفعول، فهي مفعولة للرب وهي فعل للعبد، كما يقولون في قدرة العبد: إنها قدرة للعبد مقدورة للرب، لا أنها نفس قدرة الرب. وفي إرادة العبد هي إرادة العبد مرادة للرب 8.
1 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 78)
2 سورة الصافات، الآية (96)
3 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 17)
4 سورة الأنعام، الآية (110)
5 سورة البقرة، الآية (10)
6 سورة الصف، الآية (5)
7 ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 124)
8 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (3/ 240) وما بعدهان وابن القيم: الشفاء (ص: 92 ـ 93)