الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1 قال الشيخ: "قوله هنا {وَاتَّبِعُوهُ} أعم من قوله في الآية التي قبلها {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} 2 فتلك في اتباع القرآن خاصة وهذه تشمل اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما شرعه من الأحكام من تلقاء نفسه، على القول بأن الله تعالى أعطاه ذلك وأذن له به، واتباعه في اجتهاده واستنباطه من القرآن إذا كان تشريعاً
…
"3.
وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هنا أيضا هو الصواب، فيجب أن تكون العبادة موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 4 وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 5.
1 سورة الأعراف، الآية (158) .
2 سورة الأعراف، الآية (158) .
3 تفسير المنار (9/303) .
4 سورة الحشر، الآية (7) .
5 سورة آل عمران، الآية (31-32)، وانظر: ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم (ص:56-57)، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:42) .
المطلب الثالث: بعض أنواع العبادة التي ذكرها رشيد رضا
لقد سبق أن ذكرت تعريف الشيخ رشيد للعبادة، حقيقتها، وصورها، وذكرت أن له مفهومين للعبادة، أحدهما أوسع من الآخر.
وهنا أود أن أقف عند بعض العبادات التي تكلم عنها الشيخ رشيد –رحمه الله وأبين منهجه فيها، فمنها:
أولاً: الدعاء:
يقرر الشيخ رشيد أن الدعاء صورة من صور العبادة1، بل هو أعظم مظاهر العبادة2، وهو العبادة الفطرية الوحيدة، وما سواه فعبادات تشريعية وضعية3.
لقد عرف الشيخ رشيد الدعاء لغة فقال: "وأصل الدعاء: النداء والطلب مطلقا أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب منه
…
"4.
ولكن ليس كل نداء وطلب عبادة، إلا "إذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب الظاهرة أو طلب منه ما لا ينال بالكسب، سواء كان اعتقاد السلطة له لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى. ولا يخرجه عن معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع
…
فالعبرة بالحقائق لا بالأسماء
…
" كما يقول الشيخ رشيد –رحمه الله-5.
ويستدل الشيخ رشيد على كون الدعاء عبادة بالكتاب والسنة، فيقول: "وقد ذكر الدعاء في القرآن أكثر من سبعين مرة، بل زهاء سبعين مرة بعد سبعين مرة
…
"6.
وهذه الآيات الكثيرة جاءت على صور مختلفة يبينها الشيخ بقوله: "بعض آيات الدعاء أمر بدعائه تعالى وحده7، وبعضها نهي عن دعاء غيره مطلقاً8، ومنها حجج على بطلان الشرك أو على إثبات التوحيد9، ومنها أمثال تصور
1 مجلة المنار (12/632) .
2 المصدر نفسه (12/395) .
3 الوحي المحمدي (ص:171 وص: 239-240) .
4 مجلة المنار (2/632) .
5 المصر نفسه.
6 الوحي المحمدي (ص:171) .
7 انظر: مثلاً: سورة الأعراف، الآية (55 و80 و131) .
8 انظر: سورة يونس، الآية (197) .
9 انظر: مثلاً: سورة الأعراف، الآية (197) .
كلا منها بالصور اللائقة المؤثرة1، ومنها إخبار بأن دعاء غيره لا ينفع ولا يستجاب2، وأن كل ما يدعى من دونه تعالى فهو عبد له3، وأن أفضلهم وخيارهم كالملائكة والأنبياء يدعونه هو ويبتغون الوسيلة إليه4
…
"5.
كما أن الشيخ يستدل بالسنة كذلك فيورد بعض الأحاديث التي تدل على أن الدعاء عبادة. فيقول: و"الدعاء هو العبادة" كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم6.... والمعنى أنه الركن الأعظم في العبادة على نحو "الحج عرفة" 7 وفي معنى هذا التفسير حديث أنس عند الترمذي مرفوعاً "الدعاء مخ العبادة" 8 وإسناده ضعيف يقويه تفسير للصحيح، وقد يفسرونه بالعبادة في جملتها دون أفرادها
…
"9.
أنواع الدعاء:
يقسم الشيخ رشيد الدعاء إلى قسمين: اضطراري واختياري. فالاضطراري هو ما يكون من الإنسان حال الضرورة وشدة الفزع واشتداد
1 انظر: سورة الحج، الآية (73) .
2 انظر: سورة فاطر، الآية (13/14) .
3 انظر: سورة الأعراف، الآية (194) .
4 انظر: سورة الإسراء، الآية (56-57) .
5 الوحي المحمدي (ص: 171) .
6 رواه أبو داود: الصلاة، باب: الدعاء، ح: 1479 (2/161) والترمذي: التفسير، باب: ومن سورة المؤمن، ح:/ 3247 (5/374) وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك (1/491) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
7 رواه الترمذي، ك: التفسير، باب: سورة البقرة، ح: 2975 (5/214) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: ك: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح: 3015 (2/1003)، ورواه أبو داود: ك: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، ح: 1914 (2/485) .
8 الترمذي: الدعوات، باب:؛ فضل الدعاء، ح: 3371 (5/456) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. قلت: وابن لهيعة صحيح الحديث. انظر: أحمد شاكر: شرح الترمذي (1/16) حاشية.
9 تفسير المنار (/458) .
البأس والإشراف على البأس، ويعتبر الشيخ رشيد أن هذا النوع هو مقياس ومعيار الإيمان والاعتقاد بالإله. فيقول: "وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص،
…
وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معياراً للإيمان لأن من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليها في تلك الحالة بطبعه وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه، ولا توجد إمارة على الشرك أظهر من هذه الإمارة
…
"1.
ومن هذا يتبين أن شرك المتأخرين أغلظ من شرك الأولين، لأن الأولين كانوا إذا مسهم الضر والخوف دعوا الله تعالى مخلصين له الدين، وإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم. فهم لا يشركون في حالة البأس، وإنما يشركون حال الرخاء.
أما المتأخرون فإنهم يدعون الأموات حال البأس وحال الرخاء جميعاً2.
وأما القسم الثاني من الدعاء فهو الاختياري، فيقول عنه الشيخ رشيد: "
…
فإنه من الأعمال التي تزيد في الإيمان وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين
…
"3. وهذا النوع من الدعاء هو الذي يسميه السلف دعاء العبادة4.
الشرك في الدعاء:
ويقرر الشيخ رشيد أن دعاء غير الله تعالى شرك، وأن المدعو بهذا الدعاء قد اتخذ إلهاً من دون الله.
فيقول: "وشر أنواع الاعتداء في الدعاء التوجه فيه إلى غير الله ولو
1 مجلة المنار (6/408) .
انظر: محمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/24-26)، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:175)
3 مجلة المنار (6/408-409) .
4 عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد.
ليشفع عنده، لأن الحنيف من يدعو الله تعالى وحده، فلا يدعو معه غيره، كما قال:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 أي لا ملكاً ولا نبياً ولا ولياً
…
ومن دعا غير الله فيما يعجز هو وأمثاله عنه من طريق الأسباب كالشفاء من المرض بغير التداوي وتسخير قلوب الأعداء والإنقاذ من النار ودخول الجنة وما أشبه ذلك من المنافع ودفع المضار، فقد اتخذه إلهاً لأن الإله هو المعبود، والدعاء هو العبادة
…
"2. ويقول: "وكل من يدعى مثل هذا الدعاء فقد اتخذ معبوداً وإلهاً
…
"3.
ومن هذا الشرك ما نراه كثيرا من دعاء الأموات والمقبورين، زطلب الحاجات منهم، مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ولا ريب أن ذلك شرك صريح، يقول الشيخ رشيد مبينا هذه البلوى: "
…
وهل يكابر أحد في دعاء الألوف والملايين من عامتنا للموتى من الصالحين، إلا إذا كان لا يخجل من إنكار المحسوسات، ألا إنهم لا ينكرونه ولكنهم يؤولونه لهم بأنهم لا يقصدون به العبادة وإنما يقصدون التوسل!! ألفلظ يلوكونها ولا يفهمونها. الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"الدعاء هو العبادة" 4 أي هو الفرد الأعظم من أفرادها والركن ال: مل من أركانها، كقوله:"الحج عرفة" 5 فتجويز دعاء غير الله كتجويز الصلاة لغير الله بدعوى عدم قصد العبادة وتسميتها توسلاً أو ما يشاء أهل التأويل من الأسماء
…
"6
ولا ريب أن هذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد رأي سديد لا يخالفه فيه أحد من أهل السنة7.
1 سورة الجن، الآية (18) .
2 تفسير المنار (8/485) .
3 المصدر نفسه (8/442) .
4 سبق تخريجه.
5 سبق تخريجه.
6 مجلة المنار (12/395) .
7 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص:95 وص286) ط. الدار العلمية، الهند، والتوسل، له (ص:264) ، والعبودية، له (ص: 4) ط. مكتبة المعارف بالرياض، 1402هـ، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:22)، وعبد الرحمن حسن: فتح المجيد (ص: 176) .
ثانياً: التوكل:
التوكل عمل كمن أعمال القلب، ليس بقول لسان ولا عمل جوارح. وورد في تعريفه أقوال متعددة1. والحق: أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وأول درجاته: معرفة الرب بصفاته. فمن كان بالله وصفاته أعلم كان توكله أصح وأقوى2.
والتوكل من خصائص الإلهية، فمن توكل على غير الله فقد شبه هذا المتوكل عليه بالله تبارك وتعالى3.
وقد فرض الله عز وجل هذه العبادة على عباده فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 وقال: {عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5 وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ....} 6.
وقد تناول الشيخ رشيد هذه العبارة في تفسيره وبين علاقة التوكل بالأسباب، وبين أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل.
فعند قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 7 وقال: "وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ولا يتوكلوا على غيره، لأن النصر بيده وهو الموفق لأسبابه
…
"8 وقال مبينا أن التوكل عمل قلبي: "
…
فالتوكل محله القلب"9.
1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (2/114-117) .
2 المصدر نفسه (2/117) .
3 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:27)، وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:361) .
4 سورة المائدة، الآية (23) .
5 سورة آل عمران، الآية (122) .
6 الفرقان: من الآية58.
7 سورة آل عمران، الآية (122) .
8 تفسير المنار (4/207) .
9 المصدر نفسه والصفحة.
وعند قوله تعالى: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} 1 قال: "أي إليه وحده وكلنا أمرنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا
…
وذلك أن من أصول المعرفة بالله عز وجل التي يعرفها جميع رسله أن من توكل على الله كفاه {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2
…
"3.
والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، كما يظهر - بادئ الرأي - بل إن التوكل من أقوى الأسباب لحصول المتوكل فيه، كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به4.
فيربط الشيخ رشيد بين التوكل والأخذ بالأسباب، ولا يرى تعارضا بين الأمرين لأنه كما يقول: "فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح
…
"5. ويقول الشيخ رشيد: "
…
وإن من شروط التوكل الصحيح في الأمر القيام بكل ما أوجبه الله تعالى فيه من الأحكام الشرعية ومراعاة ما اقتضته حكمته فيه من الأسباب والسنن الكونية والاجتماعية. فمن يترك العمل بالأسباب فهو جاهل مغرور، لا متوكل منصور ولا مأجور
…
"6.
والأخذ بالأسباب هو هدي القرآن وسنة الأنبياء. وهذا ما يبينه الشيخ رشيد مستدلاً بآيات منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} 7. وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} 8. وقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 9. وقوله: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
1 سورة الأعراف، الآية (89) .
2 سورة الطلاق، الآية (3) .
3 تفسير المنار (9/7-8) .
4 ابن القيم: مدارج السالكين (2/118) .
5 تفسير المنار (4/207) .
6 المصدر نفسه (9/80) .
7 سورة النساء، الآية (71) .
8 سورة الأنفال، الآية (60) .
9 سورة البقرة، الآية (197) .
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 1. قال الشيخ رشيد: "فأمرهم بالحذر مع التنبيه على أنه متوكل على الله والتذكير بوجوب التوكل عليه، فجمع بين الواجبين، وبين أنه لا ينافي بينهما
…
"2.
ويستدل الشيخ رشيد أيضا بالسنة على وجوب التوكل، وعلى عدم منافاته للأسباب. فيقول: "وأما الأحاديث الشريفة فأصح ما ورد في التوكل منها حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب
…
وقد روي بعدة ألفاظ منها "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" 3
…
وأنت ترى أنه قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرهما
…
ويلي هذا الحديث حديث "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً وتروح بطاناً" 4
…
وقد استدل به على أن التوكل يكون مع السعي لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق وهي خماص البطون لفراغها وترجع ممتلئة البطون، ولم يقل أنها تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه
…
وفي الباب حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته، وفي رواية أنه قال: أأعقلها وأتوكل؟ أم أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل" 5
…
"6.
1 سورة يوسف، الآية (67) .
2 تفسير المنار (4/208) .
3 البخاري: الصحيح، ك: الطب: باب: من اكتوى
…
، ح: 5705 (10/165) مع الفتح.
4 ابن ماجه: ك: الزهد، باب: التوكل واليقين، ح:4146 (2/1394) عبد الباقي، وصححه الألباني.
5 الترمذي: ك: صفة القيامة، باب: 60، ح: 2518 (4/668) وقال: "هذا حديث غريب" وفي الباب عن عمرو بن أمية، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (10/291)، وقال: رواه الطبراني بإسنادين وفي أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
6 تفسير المنار (4/209) .
وثمرة التوكل على الله تعالى هي الرضا وهي أعظم فوائده، فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي بعده فقد قام بالعبودية1.
ثالثاً: الحب:
حب الله تعالى هو حقيقة "لا إله إلا الله"2، ومن محاسن دين الإسلام - أن حب الله تعالى فيه عبادة، يتقرب بها إليه عز وجل قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3.
فأثبتت هذه الآية حب المؤمنين لربهم، وأن من أحب شيئاً من دون الله كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً في المحبة يحبهم كحبه تعالى4. ولقد بسط الشيخ رشيد القول في المحبة عند تفسير هذه الآية. فبين أن للمحبة أسباب منها: اعتقاد المحب في المحبوب صفات عالية تجذبه إليه، فيحب المؤمنون ربهم لما فيه من صفات الكمال والجلال والجمال كالقوة والقدرة والرحمة الشاملة. يقول: الشيخ رشيد: "
…
فذلك مما يجعل حبه تعالى أعلى من كل ما يحب للرجاء فيه وانتظار الاستفادة منه ولغير ذلك"5.
ويبين أن هذا الحب لا ينبغي إلا لله تعالى، فلا يلجأ إلا إليه فيقول:"ولكن متخذي الأنداد قد أشركوا أندادهم معه في هذا الحب، فحبهم إياهم من نوع حبهم إياه جل ثناؤه.."6.
1 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (2/122) .
2 انظر: ابن تيمية: العبودية (ص:4، 6) وما بعده وابن القيم: مدارج السالكين (3/18) والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:25، 26) .
3 سورة البقرة، الآية (165) .
4 ابن القيم: مدارج السالكين (3/20) .
5 تفسير المنار (3/68) وقارن: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:8) وانظر: ابن تيمية: العبودية (ص:6) وما بعدها.
6 تفير المنار (2/69) .
ويبين الشيخ الفرق بين حب المؤمنين لله تعالى وحب المشركين لأندادهم، فحب المؤمنين ثابت كامل لأنه متعلقة هو الكمال المطلق، وأما حب المشركين فموزع مزعزع لا ثبات ولا استقرار.
،أيضا فإن المؤمن الموحد محبوبا واحدا فقلبه مجتمع عليه، وشمله مؤتلف على هذا المحبوب المتصف بصفات الكمال والجلال، وأما المشرك – فيقول الشيخ رشيد عنه: "وللمشرك أنداد متعددون وأرباب متفرقون إذا حزبه أمر أو نزل به ضر لجأ إلى بشر أو صخر، أو توسل بحيوان أو قبر، أو استشفع بزيد أو عمرو، ولا يدري أيهم يسمع ويسمع ويشفع فيشفع، فهو دائما مبلل البال، لا يستقر من القلق على حال
…
"1.
ويشهد لهذا الكلام قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. أي مثل المشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء لمعبوديه عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة يتجاذبونه ويعاورونه في تحييره وتوزع قلبه بينهم، أما الموحد فهو الخالص لمعبوده فقلبه مجتمع عليه"3.
ومن أسباب المحبة التي يشير إليها الشيخ رشيد: الإحسان السابق، وأكبر نعمة وأعظم إحسان منّ الله به على الإنسان هي نعمة الدين، والوحي الهادي لأقوم طريق، يقول الشيخ رشيد: "فيجب أن يحب صاحب هذا الإحسان سبحانه وتعالى حبا لا يشرك به معه أحد
…
"4.
والمؤمنون يخصون الله تعالى بهذا الحب أيضا، بينما يشرك به المشركون أندادهم فيه، كما أشركوا به في الحب الذي سببه الإحسان
1 المصدر نفسه (2/69) .
2 سورة الزمر، الآية (29) .
3 انظر: أبو مسعود: إرشاد العقل السليم (7/253) .
4 تفسير المنار (2/70) .
اللاحق1. وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد هو المذهب الحق وعليه أهللعبادة محبة الله، بل إفراده تعالى بالمحبة، فلا يحب معه سواه وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه.."2.
رابعا: الذبح:
الذبح لله تعالى عبادة، وهو من خصائص الإلهية، فمن ذبح لغير الله تعالى فقد شبهه به وأشرك معه غيره في عبادته3. ولقد دلت على ذلك نصوص كثيرة منها قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4، فهذه الآية تعبد الله تعالى عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته ولذلك قال:{لا شَرِيكَ لَهُ} 5.
يقول الشيخ رشيد عند تفسيره لهذه الآية: "والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقرباً إليه وتعظيماً له وطلبا لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له
…
"6. ويقول مبينا كيفية تسرب الشرك في هذه العبادة، إلى أهل الكتاب والمسلمين: "وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا
1 المصدر نفسه (2م70) وقارن: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:61-62) وعبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:339) وعبد الرحمن بن ناصر السعدي: القول السديد (ص:95) .
2 المقريزي: تجريد التوحيد (ص:61) ولنظر: أيضا: ابن تيمية: العبودية (ص:6 و35) .
3 المقريزي: تجريد التوحيد،) ص:(ص:28) .
4 سورة الأنعام، الآيتان (162 و163) .
5 عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:148) (
6 تفسير المنار (7/243) .
بقرابينهم مما شرعت له من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين وينذرونها لأولئك القديسين، وذلك كله من عبادة الشرك فمن فعلها من المسلمون1 فله حكم من فعلها من أولئك المشركين"2.
وعند قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 3، قال: "وهو ما يذبح ويقدم للأصنام أو غيرها مما يعبد والمنع من هذا ديني محض لحماية التوحيد لأنه من أعمال الوثنية، فكل من أهل لغير الله على ذبيحة فإنه يتقرب إلى من أهل باسمه تقرب عبادة، وذلك من الإشراك
…
"4.
وقد يتوهم البعض أن النهي عن الذبح لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي التحريم للذبح تعظيما لأولياء المسلمين. وجواب هذه الشبهة من وجوه: أحدها: أن ما كان يذبح في الجاهلية أنواع: منها ما يذبح عند الأصنام، ومنها ما يذبح عند النصب، وهي حجارة مجتمعة ليس لها صورة، ومنها ما يذبح بعيداً عنها. يقول الشيخ رشيد في ذلك: "فعلم من هذه النصوص أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهل به لغير الله من حيث أنه يذبح بقصد العبادة لغير الله.. خص ما ذبح على النصب بالذكر لإزالة وهم من توهم أنه قد يحل بقصد تعظيم بيت الحرام إذا لم يذكر اسم الله عليه، وحسبك أنه من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها
…
"5.
وبين الشيخ رشيد وجها آخر يرد به على هذه الشبهة فيقول: "الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة
…
ثانياً: أن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى
…
"6. يعني
1 كذا والصواب: المسلمين.
2 تفسير المنار (8/243) .
3 سورة البقرة، الآية (173) .
4 تفسير المنار (2/98) .
5 المصدر نفسه (6/146) .
6 مجلة المنار (8/193) .
وذلك موجود في الذبح للأولياء وغيرهم، وهو ينافي هذه الحكمة وهذا الإجماع.
ويستدل الشيخ رشيد رحمه الله تعالى بالأحاديث النبوية على ذلك فمنها حديث "لعن الله من ذبح لغير الله" 1، وحديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال:"كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوفِ بنذرك فإن لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم"2.
وفي هذا الحديث زيادة هي بيان عدم مشروعية الذبح في مكان كان يذبح فيه لغير الله تعالى سداً لذريعة الشرك3.
ويعد الشيخ رشيد الذبح باسم الرسول أو الولي داخلا في هذا الشرك فيقول: "
…
وقع كثير من المسلمين فيما كان عليه أولئك الضالون من مشركي العرب وغيرهم حتى الذبح لبعض الصالحين، وتسييب السوائب لهم كعجل البدوي المشهور أمره في أرياف مصر
…
"4. ويقول أيضا: "وعد منه الأستاذ الإمام ما يجري في الأرياف كثيرا من قولهم عنه الذبح –لا سيما النذور- باسم الله، الله أكبر ياسيد، يدعون السيد البدوي أن يلتفت إليهم ويتقبل النذر ويقضي حاجة صاحبه
…
ومثل ذلك السيد ذكر الرسول أو المسيح إذا لا يجوز أن يذكر عند الذبح غير اسم المنعم بالبهيمة المبيح لها، فهي تذبح وتؤكل باسمه لا يشاركه في ذلك سواه، ولا يتقرب بها إلى من عداه
…
"5.
1 انظر: مجلة المنار (8/191) والحديث رواه مسلم: الصحيح: ك: الأضاحي، ح: 43 (1978)(3/1567) .
2 مجلة المنار (8/191) والحديث رواه أبو داود: ك: الأيمان والنذور، باب: ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ح: 3313 (3/607) وصححه الحافظ في التلخيص الحبير (4/180) ط. شركة الطباعة، القاهرة، ت: عبد الله اليماني، 1384هـ.
3 انظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:161) .
4 تفسير المنار (8/18) .
5 المصدر نفسه (3/98) وأيضا (6/137) .
وقد قرن الله تعالى ذكر الصلاة والأمر بها والإخلاص فيها بذكر النسك وهو الذبح واقتصر على ذلك في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
…
} 1 وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2، وجمع بينهما واقتصر عليه والسبب في ذلك –كما يقول الشيخ رشيد-: "هو كونها أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم توجه القلب إلى المعبود، والخوف منه والرجاء فيه؟، وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر
…
إن كون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضروريات الدين
…
"3.
وأما أحسن ما قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى فلا ريب أن الصلاة والذبح لا يكونان في الدين الحق –إلا لله وحده- فلا جرم أن يكون إخلاصهما توحيدا والشرك فيهما هو الشرك.
خامسا: التوسل.
معنى الوسيلة:
تدل الواو السين واللام على الرغبة والطلب4 والحاجة5
قال عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة، أي: حاجة6.
وقال لبيد: بلى كل ذي دين إلى الله واسل7، أي: راغب.
1 سورة الأنعام، الآية (162) .
2 سورة الكوثر، الآية (2) .
3 تفسير المنار (8/242-243) .
4 ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (6/110) ت: عبد السلام هارون.
5 انظر: أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن (1/165) ت: سزكين.
6 نسب هذا البيت لعنترة: انظر: ديوانه: ضمن أشعار الستة الجاهليين (ص:396) ، وأبو عبيدة (1/165) .
7 البيت للبيد: ديوان لبيد (ص:28) ط. 1881 واللسان: وسل (48/724) .
وتوسل إليه بوسيلة: إذا تقرب إليه بعمل. وتوسّل إليه بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرةٍ تعطفه عليه 1، والجمع: وسائل. قال:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل 2
والوسيلة: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به 3. فعيلة من الوسل 4.
وقد ورد هذا اللفظ: "الوسيلة" في القرآن الكريم في آيتين منه: الأولى: قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5
ومعنى الآية: اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه 6.
الثانية: قوله تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
…
} 7.
والمعنى: يبتغي أيهم هو أقرب الوسيلة إلى الله، أي: يتقرب إليه بالعمل الصالح 8.
فالوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها هي ما يتقرب به إليه من العبادات، واجبات أو مستحبات 9.
1 ابن منظور: اللسان (48/ 724)
2 لم يعرف قائله. انظر: محمود شاكر: حاشية الطبري (10/ 290)
3 ابن الأثير: النهاية (5/ 185)، والراغب: وسل (ص: 871)
4 انظر: الطبري: التفسير (10/ 290)
5 سورة المائدة، الآية (35)
6 الطبري (10/ 290) ت: محمود شاكر، والنحاس: معاني القرآن (2/ 303)، والزجاج: معاني القرآن (2/ 171)
7 سورة الإسراء، الآية (75)
8 انظر: الزجاج: معاني القرآن (3/ 246)، وابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79)
9 ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79) ت: د. ربيع بن هادي.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يستخدمون هذا اللفظ بهذا المعنى، كما في قول حذيفة يصف ابن مسعود رضي الله عنهما: أنه أرقب إلى الله عزوجل وسيلة 1. وفي رواية زلفى 2، وهما بمعنى واحد.
فالوسيلة إذن هي ما يتقرب به إلى الله تعالى من أنواع العبادات المشروعة، الواجبات والمستحبات، وهذا هو ما دل عليه الكتاب وهو المعروف من لغة العرب ولغة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن لقد وقع غلط وتعبير في هذا الاستعمال واصطلح فيه على معنى جديد لم يكن معروفاً عند العرب لا قبل الإسلام ولا بعده. فلقد اختصر هذا المعنى الذي دل عليه الكتاب واصطلح على أن يكون بمعنى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم والقسم به علىالله تعالى، وبغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيهم الصلاح، من الأحياء وحتى من الموتى 3.
وهذا المعنى الجديد لم يكن معروفاً عند الصحابة رضي الله عنهم وإنما كانوا يفهمون من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم التوسل بدعائه وشفاعته 4.
فقد وقع في هذا اللفظ "التوسل" و "الوسيلة" إجمال واشتباه، نتيجة لهذا الاصطلاح الجديد، ووقع اشتراك في معناه بين ما كانت تفعله الصحابة وتفهمه، وبين ما لم يكونوا يفهمونه منه، ولا يفعلونه من هذا الاصطلاح الحادث 5.
وبناءً على ذلك قسم التوسل إلى مشروع، وهو ما دل عليه الكتاب والسنة من الأعمال التي يتوسل بها إلى الله تعالى، وممنوع وهو ما يأذن به الله ولا رسوله مما ابتدع ولم يرد فيه نص.
فالتوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ومعنى ثالث لم ترد
1 أحمد: المسند (5/ 395)
2 المصدر نفسه (5/ 389)
3 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 80، 152، 158، 197)
4 المصدر نفسه (ص: 80، 297) وانظر أيضاً (ص: 118)
5 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 79 و152 و297)
به السنة: الأول: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وبطاعته. وهو أصل الدين.
والثاني: دعاؤه وشفاعته كما في قول عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا 1 أي بدعائه وشفاعته 2.
وأما القسم الثالث: وهو الممنوع، وهو الإقسام على الله تعالى بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم وذواتهم، فلا يدل عليه دليل من الكتاب ولا من السنة. فالقسم على الله تعالى بالمخلوق غير جائز 3. والسؤال من غير قسم ترده أدلة الكتاب والسنة 4.
تعريف الشيخ رشيد للوسيلة لغة وشرعاً:
ولقد عُني الشيخ محمد رشيد رحمه الله تعالى بمسألة التوسل ـ كل العناية ـ وبين وفصّل معانيها المشروعة والممنوعة، وأجاب على شبهات المتوسلين التي تمسكوا بها واستدلوا بمعناها على توسلهم المصطلح عليه.
فعرف الشيخ رشيد الوسيلة في اللغة مستنداً لأقوال أهلها ومحتجاً بشواهد من شعر العرب، وكلام السلف.
فعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 5 قال الشيخ رشيد: "والوسيلة إليه هي ما يتوسل به إليه، أي ما يرجى أن يتوصل به إلى مرضاته والقرب منه واستحقاق المثوبة في دار كرامته. ولا يعرف ذلك على الوجه الصحيح إلا بتعريفه تعالى، وقد تفضل علينا بهذا التعريف بوحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم
…
" 6.. ونقل المعنى اللغوي
1 البخاري: ك: الاستسقاء، باب: سؤال الناس الإمام الاستسقاء
…
، ح:1010.
2 ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 81)
3 المصدر نفسه (ص: 84، 212) وما بعدها.
4 المصدر نفسه (ص: 212)
5 سورة المائدة، الآية (35)
6 تفسير المنار (6/ 369)
عن المفردات ولسان العرب، بنحو ما نقلت في أول المبحث، وذكر المعاني التي أوردوها ومنها القربة والمنزلة عند الملك والحاجة وأورد ما استدلوا به من الشعر. ثم قال:"وإنما يؤخذ عن أهل اللغة أصل المعنى ويرجح به بعض التفسير بالمأثور على بعض"1.
وذكر الشيخ معنى آخر للوسيلة، الوارد في حديث الأذان من قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة" 2 وقال: "وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للوسيلة يؤيده قول نقلة اللغة. أن من معانيها المنزلة عند الملك. فيظهر أن هذه الوسيلة الخاصة هي أعلى منازل الجنة
…
" 3. ثم بين الفرق بين معنى الوسيلة في القرآن ومعناها في السنة فقال: "فالوسيلة في الحديث اسم لمنزلة في الجنة معينة وفي القرآن اسم لكل ما يتوصل به إلى مرضاة الله من لعم وعمل" 4.
وربط الشيخ رشيد المعاني التي أوردها علماء اللغة بالمعاني الشرعية التي رويت عن السلف. وبين أنه لا تعارض بين الروايات المروية عن السلف في هذا. فقال معلقاً على قول الشاعر: إن الرجال لهم إليه وسيلة ـ السابق ـ: " واستدل بالبيت على تفسير الوسيلة بالقربة وإرادة القربة من البيت أظهر من إرادة الحاجة. على أنه لا ينافيه، كما لا ينافيه تفسيرها بالمحبة، فإن طلب الحاجة من الله ومحبة الله مما يتقرب به إليه. وتفسير الوسيلة بما فسرناها به أعم وهو المطابق للغة
…
" 5.
الانحراف في معنى الوسيلة والتوسل:
وبعد ما بين الشيخ رشيد المعنى الصحيح للوسيلة لغة وشرعاً أشار
1 المصدر نفسه (6/ 370)، وانظر: المفردات: للراغب (ص: 870) ، ولسان العرب لابن منظور (48/ 724)
2 انظر: البخاري: ك: الأذان، باب: الدعاء عند النداء، ح: 614 (2/ 112) مع الفتح.
3 المصدر نفسه (6/ 370)
4 تفسير المنار (6/ 370)
5 المصدر نفسه (6/ 369)
إلى أنه قد وقع في تفسير هذا المعنى بدءاً من القرون الوسطى ـ وإن لم يحدد لنا متى حدث ذلك بالتحديد ـ إلا أنه قال: "
…
وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين المتقين، أي: تسميتهم وسائل إلى الله تعالى، والإقسام على الله بهم، وطلب الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو في حال البعد عنها. وشاع وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم مع الله تعالى أو يدعونهم من دون الله تعالى والدعاء هو العبادة
…
" 1.
ويعتبر الشيخ رشيد هذا المعنى إلحاد في أسماء الله تعالى من جهة المعنى، إذ أن الوسيلة هنا ـ في هذا الاصطلاح ـ بمعنى الإله؛ إذ معناه المعبود، أو بمعنى الرب المدبر للأمر، ويقول: فهذا إلحاد في معاني أسماء الله تعالى لا في ألفاظها
…
" 2.
ويبين الشيخ أيضاً انحراف العامة في معنى التوسل فيقول: "
…
المعروف عند عامة أهل عصرنا من معنى التوسل أن يعتمد المرء في قضاء حاجاته من جلب نفع أو دفع ضر أو نجاة في الآخرة من عذاب الله أو فوز بنعيم على أشخاص الأنبياء والصالحين، وسؤالهم ذلك أو سؤال الله تعالى بأشخاصهم أن يعطيه إياه دون العمل بما جاء به الرسل عن الله من علم اعتقادي وعمل صالح
…
وهذا التوسل مخالف لأصول الإسلام وهداية القرآن، وجارٍ على قواعد الوثنية
…
" 3.
ثانياً: في بيان الشيخ رشيد للتوسل المشروع:
ويبين الشيخ رشيد التوسل المشروع بقوله: "وإنما التوسل الصحيح هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من العلم والعمل الصالح، والتوسل بالصالحين من سلف الأمة باتباع طريقتهم في الورع والتقوى، وتحري العمل
1 المصدر نفسه (6/ 371)
2 المصدر نفسه (9/ 448)
3 مجلة المنار (27/ 421)
بالكتاب والسنة
…
" 1.
ويقول في موضع آخر: "وجملة القول أن التوسل هو التقرب، وإنما يتقرب إلى الله بما شرعه على ألسنة رسله لا بأشخاصهم، وباتباع الصالحين في ذلك لا بذواتهم، وأن غير ذل غير مشروع ومنه ما هو شرك بالله كدعاء غيره بما لا يدعى به غيره
…
ومنه ما هو ذريعة للشرك، ومنه ما هو معصية
…
" 2.
ويعتمد الشيخ رشيد على شيخ الإسلام ابن تيمية في بيانه المعاني المرادة بلفظ التوسل، وما هو صحيح منها وما هو باطل، فينقل عن قاعدة جليلة ـ والذي طبعه الشيخ مرتين 3 ـ نقلاً طويلاً أقتصر منه على قوله: "فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معانٍ:
أحدها: التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياتهن ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ولا في حياته ولا بعد مماته؛ لا عند قبره ولا عند غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة
…
" 4.
وننتقل من قول شيخ الإسلام في أدلة وشبهات المجوزين للتوسل الممنوع، إلى عرض الشيخ رشيد لهذه الشبهات وجوابه عليها.
1 المصدر نفسه (6/ 907)
2 المصدر نفسه (27/ 421)
3 انظر: تفسير المنار (6/ 371) وأيضاً: مجلة المنار (12/ 624)
4 تفسير المنار (6/ 372) وقارن مع ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 81) وما بعدها.
ثالثاً: حجج المتوسلين:
اعتمد أهل التوسل الممنوع على شبهات وروايات إما صحيحة لا تدل على ما ذهبوا إليه، أو تدل عليه ولكنها ضعيفة لا تقوم بها حجة. ومن هذه الأحاديث:
حديث عثمان بن حنيف؛ "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: "إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت فهو خير لك" فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ن ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفعه فيّ وشفعني فيه. قال: ففعل الرجل، فبرأ"1. فاستدلوا به على التوسل بالذوات 2.
وقد أجاب الشيخ رشيد عن هذا الاستدلال بعد أن ذكر مخرجيه، فقال: "
…
والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بشخصه ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته، فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته دعاء لم يصح عند أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، إذ قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا 3
…
ولو كان التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعاً معروفاً عندهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس رضي الله عنه
…
" 4.
1 أحمد: المسند (4/ 138)، والحاكم: المستدرك (1/ 313)، والترمذي: ك: الدعوات، باب: 119، ح: 3578، وقال: حسن صحيح غريب.
2 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 129و 262)،وقاعدة جليلة (ص: 115 و258)
3 سبق تخريجه (ص:) من هذا البحث.
4 مجلة المنار (30/ 110)
وهذا الجواب جواب صحيح، فالمراد من حديث الأعمى هو المراد في حديث الاستسقاء بالعباس، وهو التوسل بالدعاء، وهو من التوسل الجائز المشروع. قال شيخ الإسلام: "
…
إنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء وقال في آخره: اللهم فشفعه فيّ، فعلم أنه يشفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته
…
"1.
ولو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائزاً بعد موته لما عدل الصحابة عن التوسل به إلى التوسل بمن دونه كالعباس وغيره. فعلم أنهم إنما كانوا يتوسلون بدعاء النبي وشفاعته، ولذلك فإنه يجوز التوسل بدعاء من دون النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم.
حديث خطيئة آدم:
ومن الحجج التي يرددها أهل التوسل الممنوع، الحديث الموضوع الذي يروى أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وجرى ما جرى استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله
…
الحديث 2.
والحق أن هذا الحديث موضوع ولم يخرج في كتب السنة التي تعتمد الصحيح أو ما يقاربه، وإنما روي وحكم عليه المحدثون بالوضع.
وهذا ما قاله الشيخ رشيد فيه: "
…
منها الحديث الموضوع الذي يتخذه هذا الشيخ 3 وأمثاله من القبوريين حجة على ما يسمونه التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وسؤال الله تعالى بحقهم عليه وبأشخاصهم وهو ما رواه الحاكم في مستدركه عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً أنه "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي،
1 الرد على البكري (ص: 263)
2 المصدر نفسه (ص 4) وما بعدها، وانظر: مجلة المنار (32/ 312)
3 يريد أحد المشايخ المجيزين للتوسل وقد أشار إليه السائل.
قال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" 1.
وقد أطال الشيخ رشيد في الرد على من احتج بهذا الحديث وزعم صحته، بناءً على تصحيح الحاكم له، وإن تعقبه الذهبي وحكم بوضعه. فقال:"قال الدجوي 2 إن الذهبي في التلخيص لم يزد على قوله: "بل هو موضوع وعبد الرحمن بن زيد واه" وأقول: بل زاد على ذلك أن قال بعده: رواه عبد الله من مسلم الفهري ولا أدري من ذا؟...."3.
وقال أيضاً: "
…
ذكر الدجوي أهون ما قال أهل الجرح والتعديل في جرح عبد الرحمن بن زيد واحتج به على أن حديثه غير موضوع، وأنه قد يكون صحيحاً إذ قال: معلوم أن الذي يغلب عليه الوهم قد يصح حديثه إلخ، وأقول في تفنيد قوله هذا: إن عبد الرحمن ليست علة ضعفه غلبة الوهم عليه كما زعم، بل أهون ما قالوا فيه أنه واه وضعيف جداً وأنه لا يعقل ما يروي، وكان الشافعي يهزأ بخرافاته عن أبيه ويجعلها مضرب المثل في الكذب
…
" 4.
وأيضاً من أوجه الطعن التي ذكرها الشيخ رشيد في سند هذا الحديث قوله: "إن القاضي عياض 5قد ذكر حديث آدم هذا في الفصل الأول من
1 الحاكم: المستدرك ()، وانظر: مجلة المنار (32/ 310 ـ311)
2 هو الشيخ يوسف الدجوي، محرر باب الفتوى في مجلة الأزهر "نور الإسلام".
3 مجلة المنار (32/ 312)
4 المصدر نفسه (32/ 313)
5 هو: عياض بن موسى اليحصبي، الإمام العلامة شيخ الإسلام، توفي: 544هـ. انظر: السير (20/ 212)
الجزء الأول من الشفاء 1 حكاية عن أبي محمد المكي 2 وأبي الليث السمرقندي 3 وهما من الذين يكثرون من حكاية الموضوعات لم يروه عن أحد من أهل الحديث ولا عزاه إلى كتبهم." 4.
والطعن في سند هذا الحديث ـ بحق ـ هو أحد السبل في الجواب عما ادعاه المتوسلون، وفي الجواب عنه أيضاً أوجه أخرى منها: أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي التي تيب عليه بها كما قال تعالى:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ
…
} 5 الآية.
وقد قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا
…
} الآية 6.فأخبر الله تعالى أنه أمرهم بالهبوط بعد هذه الكلمات التي تيب بها عليه، فمن ذكر أو ادعى أن هذه الكلمات غير التي ذكرها الله في القرآن لم يكن معه حجة في خلاف ظاهر القرآن 7.
ووجه آخر وهو: أن قولهما {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 8 يتضمن الإقرار والاستغفار ومن ندم واستغفر وتاب غفر له وإن كان دون آدم عليه السلام. فحصل بها المقصود ولم
1 انظر: الشفا: الجزء الأول (ص: 138) وهو في الباب الثالث. ط. مؤسسة الكتب الثقافية، الأولى، 1995م.
2
3 الإمام الفقيه المحدث الزاهد: نصر بن محمد بن إبراهيم، توفي 375هـ. السير (16/ 322)
4 مجلة المنار (32/ 313)
5 سورة البقرة، الآية (37)
6 سورة الأعراف، الآية (23)
7 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 10)
8 سورة الأعراف، الآية (23)
يحتج لغيرها 1.
حديث آخر وجواب الشيخ رشيد عليه:
ومما احتج به أهل التوسل الممنوع ـ ولا حجة لهم فيه ـ الحديث الذي رواه أحمد 2 وابن ماجه 3 وفيه: "من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا
…
" الحديث.
وهذا الحديث ضعيف الإسناد 4 كما أن لفظه ليس فيه حجة على ما ادعوه، فإنه سؤال بحق السائلين، وحقهم على الله تعالى أن يجيب من سأله ودعاه كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 5 فهذا حقهم أوجبه الله تعالى على نفسه.
وأما حق المشي إلى الصلاة فهو حق العابدين على الله تعالى أن يثيبهم، فهذا سؤال وتوسل بالعمل الصالح وهو جائز لا ريب، فهو من التوسل المشروع لا الممنوع 6.
ولقد أجاب الشيخ رشيد عن هذا الحديث نحو ما ذكرته فقال بعد ذكره للفظ الحديث: "
…
وهو من طريق عطية العوفي 7 وقد ضعفه أ؛ مد والجمهور
…
على أن معنى الدعاء المذكور لو صح لا يدل على توسل بالأشخاص، فإن حق السائلين على الله تعالى أن يستجيب دعاءهم كما وعد بقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 8 فكأنه يقول: أسألك بوعدك
1 انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 10ـ 11)
2 المسند (3/ 21)
3 ابن ماجه: السنن، ك: المساجد، باب: المشي إلى الصلاة، ح: 778 (1/ 256) عبد الباقي، وضعفه الألباني: الضعيفة (ص: 24)
4 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 215) ت: د. ربيع المدخلي.
5 سورة البقرة، الآية (186)
6 انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة (ص: 215، 277) وما بعدها.
7 انظر ترجمته في تقريب التهذيب (2/ 24) ، والميزان (3/ 79 ـ 80)
8 سورة غافر، الآية (60)
الحق أن تستجيب دعائي، وحق الصالحين عليه 1 أن يثيبهم على صلاحهم كما وعد في آيات كثيرة ومنه توسله بممشاه إلى الصلاة بالصفة التي ذكرها فهو توسل بعمل صالح من أعماله لا بشخص عامل آخر" 2.
وهذا الحديث هو كحديث الثلاثة الذين توسلوا إلى الله تعالى بصالح عملهم بعدما أطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار 3 فكل توسل بعمل صالح عَمِلَه، وهو جائز لا ريب.
التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم:
ويحتج المتوسلون بحديث موضع آخر هو "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" 4 ومع أن جاهه صلى الله عليه وسلم أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، إلا أن هذا الحديث كذب وليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث. قال شيخ الإسلام ـ بعد إثباته وجاهة النبي وقدره صلى الله عليه وسلم: "
…
ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه
…
" 5.
قال الشيخ رشيد: "هذا الحديث موضوع لا أصل له، ولا يمكن أن تجده في شيء من دواوين السنة لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد، ويذكر بلفظ "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة وغيره: هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث
…
"
1 ليس هذا في روايتي أحمد ولا ابن ماجه، وإنما هو لفظ السؤال الموجه إلى الشيخ رشيد فلعله أجاب عنه احتمالاً ورداً لكل وجه.
2 مجلة المنار (27/ 423)
3 انظر: البخاري، ك: الإجارة، باب: من استأجر أجيراً فترك أجره، ح:2272.
4 لا يوجد هذا الحديث في شيء من كتب السنة. انظر: ابن تيمية: الرد على البكري (ص: 11 وص: 45)
5 قاعدة جليلة (ص: 254)
ونقل الشيخ رشيد النص الذي نقلته آنفاً عن شيخ الإسلام 1.
ومثل السؤال بجاه النبي صلى الله عليه وسلم السؤال بحقه، فلا حق لأحد على الله تعالى إلا ما كتبه على نفسه، وهذا ما يقرره الشيخ رشيد: فعند قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} 2 قال الشيخ رشيد: "
…
وكانت اليهود تستفتح على مشركي العرب بالنبي المنتظر يقولون: إنه سيظهر فينصر كتابه التوحيد الذي نحن عليه ويخذل الوثنية التي تنتحلونها
…
وشذ بعضهم
…
فقال: إنهم كانوا يقولون إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة والإنجيل ـ فكانوا ينصرون وفيه روايات ضعيفة عن ابن عباس 3 لم يعرج ابن كثير على شيء منها ولعله لأنها على ضعف روايتها ومخالفتها للروايات المعقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لأحد على الله فيدعى به
…
" 4.
ومن الجهود التي بذلها الشيخ رشيد ـ رحمه الله تعالى ـ في محاربة التوسل الممنوع، نشر الكتب السلفية التي تتناول هذه المسألة معتمدة على الكتاب والسنة، ولقد سبق أن ذكرت أن الشيخ رشيد طبع كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام مرتين، وطبع أيضاً سنة 1324هـ الموافق 1906م كتاب "فصل المقال في توسل الجهال" الذي ألفه الشيخ الموحد أبو بكر خوقير الكتبي أحد علماء مكة المكرمة 5.
وكذلك طبع الشيخ رشيد كتاباً لأحد الطلبة النجديين بالأزهر يرد فيه
1 مجلة المنار (27/ 421)
2 سورة البقرة، الآية (89)
3 انظر: الدر المنثور ()
4 تفسير المنار (1/ 380 ـ 381)
5 انظر: مجلة المنار (9/ 824) ، وللشيخ أبي بكر خوقير جهاد معروف في سبيل دعوة التوحيد، أوذي بسببها وأودع السجن بسبب مؤلفاته التي تنشر دعوة التوحيد وتؤيدها. انظر: مجلة المنار (31/ 240 و320)
على أحد كبار علماء الأزهر المجيزين للتوسل، واسم الكتاب "البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية" لمؤلفه الشيخ عبد الله بن علي النجدي القصيمي. وطبع سنة 1350هـ.
ويتكون من مقدمة وأربعة أبواب، وفي المقدمة تعريف كلمة الوسيلة، وتقسيم التوسل إلى ممنوع ومشروع، وهو أحد عشر نوعاً.
والباب الأول في الرد على ما استدل به المتوسلون التوسل الممنوع من أدلة القرآن. والثاني: في إبطال ما ادعي من أدلة السنة، والثالث: في الأدلة العقلية، والرابع: في أقوال العلماء 1.
وبهذا يكون الشيخ رشيد قد أحسن في بيان توحيد الألوهية عموماً ووضّح العبادة وحقيقتها ووجوب إخلاصها لله تعالى وحده، ومن أهم مظاهرها الدعاء والتوسل. وقد سلك كل سبيل لنشر هذه الدعوة معتمداً على كتب السلف لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته.
1 انظر: مجلة المنار (32/ 308) وما بعدها.