الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: قواعد الصفات
المطلب الأول: منهج السلف في الصفات وتقرير الشيخ رشيد له جملة
…
المطلب الأول: منهج السلف في الصفات وتقرير الشيخ رشيد له جملة:
إن الأخبار في الصفات جاءت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لكتاب الله عزوجل، نقلها الخلف عن السلف على سبيل المعرفة والإيمان والإثبات والتسليم مع اجتناب التأويل 1 والجحود 2 3.
والذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة، هو: الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها والتصديق بذلك وترك تحديد الكيفية في شيء منه 4.
1 التأويل لغة: الترجيح، واصطلاحاً: صرف اللفظ عن معناه إلى معنى يحتمله. التعريفات (ص:43)
2 الجحود: الإنكار مع العلم. والمراد به هنا إنكار الأخبار الواردة في الصفات. انظر: مختار الصحاح: جحد (ص: 40)، والمفردات: جحد: (ص: 187)
3 ابن منده: التوحيد (3/ 7) ت: د. علي ناصر الفقيهي.
4 ابن عبد البر: التمهيد (7/ 148)
يقول ابن خزيمة 1 [ت:311] : "فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر، مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا وتصدق ذلك قلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين.."2.
ويقول الآجري 3: رحمه الله [ت: 360] :"اعلموا ـ وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل ـ أن أهل الحق يصفون الله عزوجل بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به
…
" 4. ومن هذه النقول يتبين لنا أن مذهب السلف يقوم على ثلاثة أسس:
الأول: الإيمان بالصفات الواردة؛ وأعني به؛ إثباتها على حقيقتها لا على المجاز 5.
يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله[ت: 156] : "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من الصفات"6.
ففي هذا تصريح من هذا الإمام يدل على إجماع التابعين على الإيمان بالصفات.
1 شيخ الإسلام إمام الأئمة صاحب التصانيف سمع من إسحاق بن راهويه وحدث عنه خلق كثير، وحدث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين [السير:14/365ـ 366]
2 التوحيد وإثبات صفات الرب (ص: 10 ـ 11) ت: د. محمد خليل هراس.
3 هو الإمام المحدث القدوة شيخ الحرم الشريف محمد بن الحسين. [السير:16/133ـ 134]
4 الشريعة (ص:277)، وانظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 111)
5 انظر: ابن عبد البر: التمهيد (7/ 145)، وقوام السنة: الحجة (1/ 287) ط. دار الراية، الأولى 1411هـ. ت: محمد ربيع ومحمد أبو رحيم.
6 رواه البيهقي: الأسماء والصفات (2/ 150) ت: د. عماد الدين حيدر، وصحح ابن تيمية إسناده: الحموية (ص: 23)
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله[ت: 179] عن الاستواء، فقال: "الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة
…
" 1. فهذا تصريح أيضاً بوجوب الإيمان بالصفات، فما يقال في الاستواء يقال في غيره من الصفات.
الثاني: التنزيه: وأعني به تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه في أسمائه وصفاته.
فقد قرأ رجل عند أحمد قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 2، ثم أومأ بيده، فقال له أحمد: قطعها الله قطعها الله ثم حرد 3وقام 4.
وروي نحو ذلك عن مالك رحمه الله 5.
قال نعيم بن حماد 6 [ت: 228] : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه 7.
الأساس الثالث: التفويض: وأعني به تفويض الكيفية لا تفويض المعنى.
قال سفيان: "كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا
كيف ولا مثل" 8.
1 اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 441)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 150)، والذهبي: السير (8/ 100)
2 سورة الزمر، الآية (67)
3 حرد: أي غضب. مختار الصحاح: حرد (ص: 55)
4 اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 479)
5 انظر: ابن عبد البر: التمهيد (7/ 145)
6 هو: ابن معاوية: الإمام العلامة الحافظ أبو عبد الله المروزي، صاحب التصانيف، أول من كتب المسند. السير (10/ 595 ـ 612)
7 اللالكائي: مصدر سابق (3/ 587)
8 الدارقطني: الصفات (ص: 70) ت: علي ناصر فقيهي، واللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 478)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 62، 151)
وقال الأوزاعي: "كان الزهري ومكحول 1 يقولان: أمرّوا الأحاديث كما جاءت" 2 يعني أحاديث الصفات. وروي نحوه: عن وكيع 3 ومالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وغيرهم 4.
ولا ريب أن السلف يريدون بذلك تفويض الكيفية، إذ أن المعنى في هذا لا يفوض لأنه مفهوم بالضرورة من لغة العرب 5. فكانوا يفهمون معنى استوى على العرش، واستوى إلى السماء وغيره ويفرقون بين هذه المعاني 6. وأيضاً لو كان مذهب السلف نفي معنى الصفة لما قالوا: بلا كيف، فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضاً قولهم:"أمروها كما جاءت" يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني 7.
ومن قواعد السلف في الإيمان والتنزيه وتفويض الكيفية، قاعدتان كبيرتان:
أولاهما: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات وإنما أثبتناها لأن التوقيف ورد بها 8.
1 أبو عبد الله من أقران الزهري، عالم أهل الشام، ت: 113هـ. السير (5/155) .
2 اللالكائي (3/ 431) ، والبيهقي (2/ 198)، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 96)
3 أخرج قوله: عبد الله بن أحمد في السنة (1/267)
4 انظر: البيهقي: الأسماء والصفات (2/ 198)، وابن عبد البر: جامع بيان العلم (2/ 96)، والآجري: الشريعة (ص: 314)
5 انظر: ابن منده: التوحيد (3/ 7) .
6 انظر: اللالكائي: مصدر سابق (3/ 442 ـ 443)
7 انظر: ابن تيمية: الحموية (ص: 25)، وسيبويه: الكتاب (1/ 24)، وأحمد عبد الرحمن: مذهب التفويض (ص: 388)
8 انظر: قوام السنة: الحجة (1/ 175)، والخطيب البغدادي: رسالة في الكلام على الصفات (ص:20) ت: عمرو عبد المنعم، نشر مكتبة العلم بجدة، وهذا الموضع منها تجده في السير (18/ 283 ـ 284)، وانظر: شرح هذه القاعدة عند ابن تيمية: التدمرية (ص: 15 ـ 16) وفالح آل مهدي: التحفة المهدية (1/ 88)
الثانية: قولهم: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، ويلزم بها من أثبت شيئاً من الصفات ونفى شيئاً آخر أو من أثبت الأسماء ونفى الصفات 1.
ويتضح لنا من هذا أن مذهب أهل السنة مذهب وسط بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة 2. وقد سلك هذا السبيل المستقيم جمع كبير من العلماء الراسخين 3.
وممن سلك هذا المسلك الشيخ محمد رشيد رحمه الله:
وأرى أنه من المناسب أن أذكِّر ـ وباختصار ـ بالحقيقة التي بسطتها
1 انظر: ابن تيمية: التدمرية (ص: 11ـ 12) وصالح آل مهدي: التحفة (1/ 66)، وابن عثيمين: تقريب التدمرية (ص: 37)، وانظر أيضاً: ابن تيمية: شرح الأصفهانية (ص: 25)
2 انظر: ابن تيمية: الحموية الكبرى (ص: 17) .
3 منهم: أبو الحسن الأشعري [ت: 330] في "الإبانة" ط. الجامعة الإسلامية (ص: 52 ـ 54)، وط. دار الأنصار (ص: 70) وما بعدها، ت: فوقية حسين محمود. ومحمد بن إسحاق بن منده [ت:395] في "التوحيد" المجلد الثالث، والرد على الجهمية، ت: على ناصر فقيهي، ط. الأولى 1401هـ. والدارمي [ت: 280] في "الرد على الجهمية" و "الرد على المريسي". وعبد الله بن أحمد [ت: 290] في "السنة" المجلد الأول. ابن خزيمة [ت: 311] في "التوحيد"، ت: د. محمد خليل هراس. ابن بطة [ت: 387] في "الإبانة" المجلد الثالث "الرد على الجهمية". الآجري [ت: 360] في "الشريعة"(ص: 251) وما بعدها. والبيهقي [ت:458] في " الأسماء والصفات. واللالكائي [ت: 418] في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة". وابن عبد البر [ت: 463] في التمهيد (7/ 145) . وقوام السنة [ت:535] في الحجة (1/ 174)، ت: محمد ربيع بن هادي. وابن تيمية [ت: 728] الفتوى الحموية، والرسالة التدمرية، وبيان تلبيس الجهمية. وابن القيم [ت:751] في= = مختصر الصواعق. وابن الوزير [ت:840] في إيثار الحق على الخلق. ومرعي بن يوسف الكرمي في أقاويل الثقات، ط. مؤسسة الرسالة، الأولى 1406هـ (1/128) وما بعدها. والسفاريني [ت:1188] في لوامع الأنوار. والمقريزي [ت: 845] في الخطط (2/ 356) وما بعدها. ومحمد صديق حسن خان [ت: 1307] في قطف الثمر (ص: 31 ـ 32)، ت: د. عاصم القريوتي. ط. أولى 1404هـ
في المقدمة 1، وهي أن الشيخ محمد رشيد نشأ ـ حين نشأ ـ على ما ينشأ عليه لداته من طلبة العلم، على كتب الأشعرية وشروحها 2، وكان يظن ـ كغيره ـ أن هذه الكتب "هي وحدها منبع الدين وطريق اليقين" 3 و "أن مذهب السلف ضعيف"4 وأنه "أسلم ومذهب الخلف أعلم" 5 ثم بعد اطلاعه على الكتب التي تبين مذهب السلف حق البيان " لاسيما كتب ابن تيمية علم عِلْم اليقين أن مذهب السلف هو الحق الذي ليس وراءه غاية ولا مطلب وأن كل ما خالفه فهو ظنون وأوهام لا تغني من الحق شيئاً 6. وإذا بهذه الكتب "هي الكتب التي تجلي للمسلمين طريقة السلف المثلى وتورد الناس موردهم الأصلي، وإذا بقارئها يشعر ببشاشة الإيمان، ويحس بسريان برد الإيقان، وإذا الفرق بينها وبين كتب الأشاعرة كالفرق بين من يمشي على الصراط السوي وبين من يسبح في بحر لجي، تتدافعه أمواج الشكوك الفلسفية وتتجاذبه تيارات المباحث النظرية" 7.
وتبين للشيخ رشيد أن "مذهب السلف الصالح أسلم وأعلم وأحكم" 8 على خلاف ما يقوله متكلمو الأشعرية من أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم 9.
ونبدأ بكلام الشيخ رشيد الذي يبين به أهمية العلم بصفات الله تعالى وفائدته فيقول: "أما العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله فهو معراج الكمال الإنساني
…
" 10. ويقول عن فائدة العلم بهذه الصفات: "حسبكم من
(ص:156)
2 انظر: تفسير المنار (3/ 196)
3 مجلة المنار (8/ 614)
4 تفسير المنار (3/ 197)
5 المصدر السابق (3/ 196)
6 المصدر نفسه (3/ 197)
7 مجلة المنار (8/ 614)
8 المصدر نفسه والصفحة.
9 انظر: البيجوري: تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص: 108) ط. المعاهد الأزهرية.
10 تفسير المنار (7/ 500)
فائدتها أن تفيض على الأرواح من خشية الله وقوة الإيمان بعظمته وسلطانه ما يطهرها من الرجس ويجذبها إلى عالم القدس، ويبغض إليها الرذائل ويحبب إليها الفضائل تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لما عنده" 1.
وبعد بيانه لأهمية العلم بالله تعالى وصفاته وفائدة ذلك يعرّف الشيخ رشيد ما هو مذهب السلف بشكل عام، وما يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم، فليس كل رأي ينقل عن واحد من أهل العلم يكون مذهباً لأهل السنة، فيقول رشيد رضا في هذا:"وإنما مذهب أهل السنة والجماعة ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه ممن تبعهم في الاعتصام بنصوص الكتاب والسنة من غير تحريف 2 ولا تكلف بإرجاع ظواهرها إلى ما ابتدع من البدع والآراء التي أحدثها أهل الأهواء"3. ويمثل رشيد رضا للسلف بفقهاء الأمصار كالشافعي ومالك وأحمد وسفيان والأوزاعي وداود بن علي 4.
ثم يذكر الشيخ رشيد مذهب السلف وقاعدتهم العامة في الإيمان بصفات الله تعالى ـ والتي ذكرت ونقلت عنهم آنفاً ـ أنها تقوم على الإثبات والتنزيه، وتفويض الكيفية، فيقول: "فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق، الثابت عقلاً ونقلاً بقوله عزوجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5، فنقول: إن لله علماً حقيقياً هو وصفٌ له، ولكنه لا يشبه علمنا، وإن له سمعاً حقيقياً هو وصف له لا يشبه
1 مجلة المنار (2/ 606)
2 التحريف لغة: التغيير، وفي الاصطلاح: تغيير النص لفظاً أو معنى، وتحريف أسماء الله وصفاته هو: تغيير ألفاظها وتغيير معانيها إلى معان باطلة لا يدل عليها الكتاب والسنة. انظر: فالح آل مهدي: التحفة المهدية (1/ 26) .
3 تفسير المنار (7/ 552)
4 المصدر نفسه، وداود: هو ابن علي الظاهري، الإمام البحر الحافظ العلامة، المعروف بالأصبهاني، رئيس أهل الظاهر. السير (13/ 97)
5 سورة الشورى، الآية (11)
سمعنا، وإن له رحمة حقيقية هي صفة له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى، فنجمع بذلك بين العقل والنقل.." 1.
ويكرر الشيخ رشيد هذا المعنى مؤكداً عليه وعلى أن طريقة السلف في الإيمان بالصفات مع التنزيه هي التي تجمع بين العقل والنقل فيقول: "وإنما الطريقة المثلى في الجمع بين العقل والنقل في الصفات أن يقال: إنه قد ثبت بهما أن الله تعالى ليس كمثله شيء وثبت عقلاً أن خالق العالم لا بد أن يكون متصفاً بصفات الكمال، وثبت نقلاً عن الوحي الذي جاء به الرسل وصفه تعالى بالعلم والقدرة والرحمة والمحبة، والعلو فوق الخلق والاستواء على العرش وتدبير أمر العالم كله، فنحن نتخذ قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2 قاعدة ومرآة لفهم جميع ما وصف الله به تعالى نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو أنه ليس كمثله شيء وأنه سميع بسمع ليس كمثل أسماع المخلوقين، ويبصر ببصر ليس كبصرهم، وعليم بعلم ليس كعلمهم، ورحيم برحمة ليست كرحمتهم، ويحب بمحبة ليست كمحبتهم، ومستوٍ على عرشه استواء ليس كاستواء ملوكهم على عروشهم، وتدبير أمورهم تدبيراً ليس كتدبير ملوكهم ورؤسائهم لما يدبرونه إلخ
…
" 3.
ومن ذلك يتبين لنا أن الشيخ رشيد يرى أن مذهب السلف ـ الذي يجمع بين الإثبات والتنزيه ـ قد دل عليه النقل والعقل كما أثبته ابن تيمية في درء التعارض وغيره. ولقد اتّهِم ابن تيمية ومدرسته بابتداع هذا المذهب ـ أعني مذهب إثبات الصفات ـ وأنهم لم يسبقوا إليه، وقد رد رشيد رضا على أحد الرافضة الذين رددوا هذه الدعوى بقوله: "وهذا كذب وافتراء وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى الرفض الذي من أصوله
1 تفسير المنار (1/ 77)
2 سورة الشورى، الآية (11)
3 مجلة المنار (28/ 270)
تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل وجعله عزوجل كالعدم ـ تعالى الله عما يقول المبتدعون علواً كبيراً. فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين قد قرأ أو سمع وقوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1 وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2..وسمع قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 3 وما في معناها، وقوله تعالى في الملائكة:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 4 وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} 5 وقوله عزوجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} 6 إلخ، وليعلم القارئ أن ما عزاه هذا الرافضي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه الأعلام ثم إلى الوهابية مما ليس في القرآن فهو في الأحاديث الصحيحة
…
" 7.
فهذا التدليل من الشيخ رشيد على صفات الله تعالى يبين أن هذه الصفات ثابتة إما في الكتاب والسنة أو في أحدهما.
ويقرر الشيخ رشيد أن السلف يجمعون بين الإثبات والتنزيه ـ الثابت شرعاً وعقلاً ـ فيقول: "والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب ووصفه بما وصف به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك، وعدم التحكم في التفرقة بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام
…
" 8.
1 سورة الفتح، الآية (10)
2 سورة "ص"، الآية (75)
3 سورة طه، الآية (5)
4 سورة النحل، الآية (50)
5 سورة الفجر، الآية (22)
6 سورة البقرة، الآية (186)
7 مجلة المنار (29/ 595)
8 المصدر نفسه (29/ 536)
ونستطيع ومن خلال هذا النص أن نتتبع تقرير رشيد رضا للقاعدة الثانية التي اعتمد عليها أهل السنة في إثبات الصفات، وهي أن "القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر"1.
ولقد صرح رشيد رضا بنقل هذه القاعدة عن السفاريني في لوائح الأنوار، وسيأتي. كما أنه نقل القاعدة الأخرى، صنو هذه، وهي أن القول في الصفات كالقول في الذات، من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح حديث النزول"2. وهاتان القاعدتان هامتان في تقرير مذهب السلف في الصفات.
ولا يقتضي إثبات الصفات لله تعالى تشبيهاً له بالمخلوق، إذ أن الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك في الحقائق، وهذا ما يقرره الشيخ رشيد إذ يقول: "
…
وأن هذا وغيره مما وصف به نفسه في كتابه لا ينافي كمال تنزيهه تعالى عما لا يليق به من نقائص عباده، ولا تقتضي مماثلته لهم فيما وهبهم من كمال، فإن الاشتراك في الأسماء لا يقتضي الاشتراك في المسميات، وأسماء الأجناس المقولة بالتشكيك في الممكنات تختلف من وجوه كثيرة، منها النقص والكمال، فكيف بها إذا كانت مشتركة بين الخالق والمخلوقات، فذاته تعالى أكمل من ذواتهم، ووجوده تعالى أعلى من وجودهم، وصفاته تعالى أسمى من صفاتهم، وهو ورسوله أعلم منهم بصفاته وأفعاله
…
" 3.
ويقودنا هذا إلى البحث عن شبهة المعطلة التي عطلوا صفات الله تعالى بسببها، والحق أن هذه الشبهة عامة في كل أهل البدع، وهي واحدة، عند الذين أنكروا الأسماء والصفات جميعاً، وعند من أثبت الأسماء دون الصفات، وعند من أثبت بعض الصفات دون بعض، ألا وهي: نفي
1 انظر: ابن تيمية: التدمرية (ضمن مجموع الفتاوى) : (3/ 17)
2 انظر: مجلة المنار (34/ 281)
3 الوحي المحمدي (ص: 46 ـ 47)
التشبيه 1. يقول الشيخ رشيد رحمه الله: "وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرها من لوازم الأجسام، فبهذه الشبهة عطلوا أكثر صفات الله تعالى حتى صارت عندهم في حكم العدم. والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص وبما يجب الإيمان به وأشد منهم تنزيهاً للرب تبارك وتعالى
…
" 2.
وبناءً على هذه الشبهة أنكر المتكلمون حقيقة الصفات الإلهية فصرفوها إلى معان مجازية، أو أولوها فأرجعوها إلى القدرة أو الإرادة فيقولون: الرحمة هي الإحسان بالفعل، أو إرادة الإحسان. كما يحكي عنهم رشيد رضا 3.
والحق أنهم ـ لجهلهم بطريقة القرآن ـ قد وقعوا فيما أرادوا أن يفروا منه فإنه يلزمهم فيما تأولوه مثل ما يلزمهم فيما أخرجوه عن ظاهره.
يقول الشيخ رشيد مبيناً ذلك: "ذلك أن المبتدعة يقيسون الخالق على المخلوق، فيزعمون أن المعاني الحقيقية لتلك الصفات الإلهية تستلزم التشبيه الممنوع عقلاً ونقلاً، فوجب إخراج الألفاظ الدالة عليها عن مدلولها وحملها على معاني مجازية ليتفق العقل مع النقل، وفاتهم أن تلك المعاني المجازية هي مستعملة في المخلوقات كالمعاني الحقيقية، فالذين أولوا رحمة الله تعالى بإحسانه إلى خلقه فاتهم أن الإحسان المستعمل في اللغة تعبيراً عن صفات المخلوقين وأعمالهم محال على الله تعالى أيضاً
…
كما يلزم ذلك متكلمي الأشعرية الذين وافقوا المعتزلة والجهمية والرافضة في تأويل ما عدا الصفات الثمانية التي يسمونها صفات المعاني
…
" 4.
1 انظر: البيجوري: تحفة المريد (ص: 108) وابن خزيمة: كتاب التوحيد (ص: 27 ـ 28) ت: محمد خليل هراس.
2 مجلة المنار (29/ 534)
3 تفسير المنار (3/ 198)، وانظر: الباقلاني: التمهيد (ص: 299)
4 مجلة المنار (29/ 536)
ويرى الشيخ رشيد أن الذي يهدم هذه الشبهة المبتدعة هو القول بمذهب السلف الجامع بين الإثبات والتنزيه، ويسلم من التعطيل والتشبيه ويبرأ من تكذيب الكتاب العزيز والسنة الصحيحة. فيقول: "ومذهب سلف الأمة يهدم هذه البدعة وشبهتها من أساسها
…
وخلاصته: أننا نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفاته وأفعاله بمعانيها الصحيحة المتبادرة من اللغة مع القول بالتنزيه ككون محبة الله لأنبيائه وأوليائه ورحمته لعباده ليستا كمحبة المخلوقين ورحمتهم فيما بينهم، كما أن علمه تعالى ليس كعلمهم
…
" 1.
وبهذا الحل الصحيح والسلفي، يزول الإشكال الذي وقع فيه المتكلمون وجعلهم يفرقون بين المتماثلات، فيؤمنون ببعض الصفات ويكفرون ببعض مع أنها جميعاً من باب واحد وطريق ثبوتها واحد. يقول الشيخ رشيد: "ومن عجيب صنع بعضهم أنهم ذكروا السمع والبصر والكلام وعدوها من الصفات التي عليها مدار الإيمان بالألوهية على أنهم سموها صفات سمعية، ولم يذكروا الحكمة والرحمة والمحبة مع أن السمع ورد بها والدلائل العقلية عليها أظهر
…
وإنني أنقل في هذا المقام جملة من كلام أهل الأثر وتابعي السلف في معنى ما تقدم من عدم التفرقة بين صفات الله تعالى
…
" ثم نقل الشيخ رشيد ـ عن التدمرية ـ قاعدة السلف الهامة والتي يرتكز عليها إثبات السلف للصفات وهي أن "القول في بعض الصفات كالقول في البعض" 2.
وبهذه القاعدة يجاب عدة من الطوائف المنحرفة من الذين يفرقون بين المتماثلات ويجمعون بين المتناقضات كالجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية 3.
وبعد ذلك العرض لشبهة المتكلمين ونقدها ودحضها، حتى لم يبق لهم
1 المصدر نفسه (29/ 536)
2 تفسير المنار (3/202) وما بعدها، وقارن مع السفاريني: لوائح الأنوار (1/ 185) ط. المنار.
3 انظر: ابن تيمية: الرسالة التدمرية (ص: 11) وما بعدها، وفالح بن مهدي: التحفة المهدية (1/ 65) وما بعدها.
حجة في نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، يلخص الشيخ رشيد هذه المسألة بقوله: "وحاصل ما تقدم أن جميع ما أطلق عل الله تعالى من الأسماء والصفات هو مما أطلق قبل ذلك على الخلق إذ لو وضع لصفات الله تعالى ألفاظ خاصة وخوطب بها الناس لما فهموا منها شيئاً، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 1، وقد جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بما دل عليه العقل من تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وكونه لا يماثل شيئاً ولا يماثله شيء، فعلم أن جميع ما أطلقوه عليه من الألفاظ الدالة على الصفات كالقدرة والرحمة على الأفعال والحركات كالخلق والرزق والاستواء على العرش وعلى الإضافة ككونه فوق عباده لا ينافي أصل التنزيه، بل يجب الإيمان بها وبما تدل عليه مع التنزيه
…
" 2.
وأما الأساس الثالث من أسس المنهج السلفي الذي بني عليه مذهبهم في الصفات، وهو تفويض الكيفية فيقول عنه الشيخ رشيد ـ في سياق بيان الواجب على المسلم في باب الصفات ـ:"فعليك أن تؤمن بما صحّ عنهما أي عن الله ورسوله من إثبات ونفي، من غير زيادة ولا نقص، بلا تعطيل ولا تمثيل، ولا تأويل وليس عليك ولا لك أن تحكم رأيك وعقلك في كنه ذاته ولا صفاته، ولا في كيفية مناجاته وتكليمه لرسله، ولا في كنه ما هو قائم به وما يصدر عنه. على هذا كان أصحاب الرسول وعلماء التابعين وأئمة الحديث والفقه قبل ظهور بدعة المتكلمين"3.
وعند كلامه على صفة الاستواء يقول: "ومن جملة الصفات التي أمرها
1 سورة إبراهيم، الآية (4)
2 تفسير المنار (3/ 201) وقول رشيد رضا: "أطلق قبل ذلك على الخلق" لا يعني ـ كما قد يتوهم ـ أن صفات الخلق أقدم من صفات الخالق، إذ أنها أطلقت قبل ذلك، والصواب أن قبل هنا تفيد قبلية مقيدة غير مطلقة، كقولك: حضرت قبل مجيء القطار، أي كان حضورك سابقاً على مجيء القطار، متقدماً بالنسبة لهذا المجيء المعين، فسبق الحضور هنا ليس سبقاً مطلقاً عاماً، وكذلك هنا فالقبلية هنا مقيدة بقوله قبل ذلك، أي قبل إطلاقها ‘لى الله تعالى في الشرع، إذ أنها لم تعرف إلا بالشرع. وانظر: عباس حسن: النحو الوافي (3/144) ط. دار المعارف، مصر. السادسة
3 الوحي المحمدي (ص: 46 ـ 47)
السلف على ظاهرها وأجروها على ما جاء به القرآن والسنة من دون تكلف ولا تأويل: صفة الاستواء.." 1.
ويقول أيضاً:"
…
على هيئة لا يعلمها إلا هو، وفي كيفية لا يدري بها سواه" 2. ثم يعلق على هذا في الحاشية قائلاً:"إنما يذكر لفظ الهيئة والكيفية في هذا المقام كما يذكر لفظ الصفة بناء على أن ما يستعمل في الكلام عن الباري تعالى من الألفاظ إنما يشار به إلى المعنى الشريف الذي يعرفه الخلق أنفسهم مع نفي التشبيه والتمثيل من كل وجه بناء على ما ثبت من التنزيه عقلاً ونقلاً، ومن العلماء من يعبر عن مذهب السلف بنفي الكيفية لا بإثباته مع نفي العلم به، وهو ما عبروا عنه بالبلكفة، المنحوتة من قولهم بلا كيف"3.
ويصرح أيضاً بلفظ التفويض فيقول:"استواء يليق بالرب ويفوض إليه علم كنهه.."4. أي تفويض الكنه والكيفية.
ويقول: "فالسلف يتبعون في آيات الصفات التفويض"5. ولا ريب أنه يريد تفويض الكيفية، كما هو مذهب السلف، فالشيخ رشيد رحمه الله قد نهج في هذا الباب نهج السلف، وأقام مذهبه على نفس الأسس التي أقاموا عليها مذهبهم في الصفات من الإيمان بها وإثبات معانيها، مع تنزيه الخالق تعالى عن مشابهة المخلوقين، وتفويض كيفية صفاته إليه تعالى.
موقف رشيد رضا من طائفتي المعطلة المشبهة ورده عليهم وبيانه وسطية أهل السنة:
اختلف الناس في باب الصفات فكانوا ثلاث طوائف:
الأولى: أهل التعطيل: وهم الذين نفوا أسماء الله وصفاته، وبعضهم
1 مجلة المنار (17/ 827)
2 المصدر نفسه (17/827)
3 المصدر نفسه بالحاشية.
4 المصدر نفسه: هامش.
5 مجلة المنار (28/ 269) وأيضاً: تفسير المنار (2/ 263و6/ 453 ـ 454) فقد ذكر فيها لفظ التفويض.
أثبت الأسماء دون الصفات، وبعضهم أثبت الأسماء وبعض الصفات.
الثانية: أهل التمثيل: ومالوا إلى ضروب من التشبيه والتمثيل فشبهوا الخالق بالمخلوق.
ثالثاً: أهل سواء السبيل: وهم أهل السنة والجماعة 1، وقد وقفت على مذهبهم قريباً، وعرفت تقرير الشيخ رشيد لهذا المذهب.
ومن المناسب الآن أن نعرف موقف الشيخ رشيد من هذه الفرق المخالفة لهذا المنهج.
يبين الشيخ رشيد أن المشبهة والمعطلة الجهمية قد ألحدت في أسماء الله تعالى بضروب من التأويل تقتضي التشبيه أو التعطيل 2، فيقول: "
…
فالمشبهة ذهبت إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شيء كرجل من خلقه زاعمة أنه وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك كالسمع والبصر والكلام والوجه واليد والرجل والضحك والرضا والغضب.
والجهمية ذهبت إلى تأويل جميع صفات الله حتى جعلته كالعدم
…
" 3. ويقول عن الأشعرية: "وقد غلا بعض الأشعرية في القرون الوسطى في التأويل غلو الجهمية والمعتزلة أو أشد.." 4. ويذكر بعض مظاهر هذا الغلو فيقول: "كامتناع بعض المبتدعة من ذكر بعض الآيات والأحاديث في صفات الله تعالى التي زعموا وجوب تأويلها في عقائدهم ودروسهم وعدم ذكرها في مجالسهم إلا مقرونة بالتأويل، وادعاء أن معناها غير مراد
…
وإن ادعاء أن بعض كلام الله وحديث رسوله مما يجب كتمانه واستبدال نظريات بعض المتأخرين أمثالهم به لمطعن كبير في الدين وفي سلف الأمة الصالحين
…
" 5. ويرد رشيد رضا على أحد مظاهر هذا الغلو في التأويل الذي بلغ مبلغه حتى ادعي أن الإيمان بظاهر القرآن ككونه تعالى في السماء
1 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 245)، وانظر أيضاً: د. محمد با كريم با عبد الله: وسطية أهل السنة (ص: 307)
2 تفسير المنار (9/ 446)
3 المصدر نفسه والصفحة.
4 المصدر نفسه والصفحة.
5 المصدر نفسه والصفحة.