الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستعمل رشيد رضا أيضاً لفظ "الحدوث" عند حديثه عن صفات الفعل، فيقول في سياق حديثه عنها وعن الفرق بينها وبين صفات الذات:"..هناك فرق بين الصفة كرحيم وقريب ومجيب وسميع وبصير، وبين الفعل الحادث كاستوى على العرش ونزل إلى السماء الدنيا"1.
وهذا يدل على فهمه لمذهب السلف فيها، كيف لا وقد وقف على "شرح حديث النزول لابن تيمية؟ 2.
1 مجلة المنار (29/615)
2 انظر: (ص:177) من هذا البحث
المطلب الرابع: صفات الذات الخبرية:
يقصد بالصفات الخبرية أو السمعية؛ ما كان الدليل عليها مجرد خبر الرسول دون استناد إلى نظر عقلي 3. ومنها صفات ذاتية كالوجه واليد والعين والقدم، ومنها صفات فعلية كالاستواء والنزول والمجيء والمحبة والرضا والسخط والغضب. وغير ذلك مما جاء به الكتاب الكريم واستفاضت به السنة النبوية.
ولقد اتحد موقف المتكلمين من هذه الصفات، إذ نفوها جميعاً، معتزلة وأشعرية، باعتبار أنها من سمات الأجسام، فتقتضي التشبيه والتجسيم، كما أن الفعلية منها تقتضي حلول الحوادث بذاته تعالى ـ كما مر قبل قليل 4. وقد أشرت قبلاً إلى أن متقدمي الأشعرية كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني كانا يثبتان من هذه الصفات الكثير. وأول من اشتهر عنه نفيها من الأشعرية هو إمام الحرمين الجويني 5 وتبعه على ذلك
3 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 135)، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (ص: 207) ط. الجامعة الإسلامية، الأولى، سنة 1408هـ.
4 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 2) مطبعة كردستان بمصر، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 217 و 230)، وانظر:(ص:362) من هذا البحث.
5 هو: أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، ت: 478هـ. [السير: 18/468ـ 477]
جميع متأخري الأشعرية 1. وأما السلف رحمهم الله فلم يختلف منهجهم في إثبات الصفات، فقد مشوا على صراط مستقيم، هو إثبات ما أثبته الله لنفسه دون تحريف أو تعطيل أو تمثيل، وتنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، كما مر تفصيله.
والمقصود الآن معرفة المنهج الذي سار عليه الشيخ رشيد رضا في هذا الباب.
أولاً: الوجه:
صفة الوجه من صفات ذات الله تعالى 2 ثبتت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} 3 وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} 4.
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى 5 وفي الحديث: "
…
لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره" 6.
وبناءً على ذلك أثبت أهل السنة هذه الصفة 7. وتأولها المتكلمون 8.
1 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 139)، ومحمد أمان الجامي: الصفات الإلهية (157ـ 171)
2 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 10) ت: خليل هراس.
3 سورة الرحمن، الآية (27)
4 سورة القصص، الآية (88)
5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب: قوله الله (:: {كل شيء هالك إلا وجهه} ، ح: 7406 (13/400) وانظر: ابن القيم: "مختصر الصواعق للموصلي"(ص: 337)
6 رواه مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 293 (179)[1/161] ط. عبد الباقي.
7 انظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 228)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 10)، وابن منده: التوحيد (3/ 36)، والدارمي: الرد على المريسي (ص: 157)، وأثبتها الأشعري: الإبانة (ص: 22) ت: فوقية حسن، والباقلاني: التمهيد (ص: 295)، وانظر: الأشعري: مقالات الإسلاميين (1/ 290)
8 انظر:: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 227)، والرازي: أساس التقديس (ص: 117 ـ 119)، والبغدادي: أصول الدين (ص: 109)، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 110)
وورد ذكر الوجه في آيات من الكتاب العزيز ولم يختلف السلف في شيء منها، إلا في قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1 فقد ورد عن بعض السلف تفسيرها بقبلة الله 2. ولكن هذا لا يعني إلا أنه قد وقع بينهم نزاع في معنى هذه الآية ولا يعني ذلك إنكارهم للصفة لأنها ثابتة في آيات أخر وأحاديث صحيحة 3.
والذي ظهر لي أن رشيد رضا قد أثبت صفة الوجه لله تعالى. وسوف أتناول نصوصه في ذلك متدرجاً من الواضح للأوضح من خلال تفسيره للآيات. فعند قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} 4 فسر رشيد رضا الآية بما يدل على أنه لا يعدها من آيات الصفات، ولكنه بين لنا في تفسيره لها مذهب السلف والخلف في الصفات، وإن كان رأى أنه لا يظهر لها معنى على المذهبين. قال:"إذا فهمت هذا علمت أنه لا حاجة هنا إلى إيراد طريقتي السلف والخلف في المتشابهات وآيات الصفات، كأن نقول: إن الوجه صفة لله تعالى، أوأنها كناية عن الذات، حتى يكون المعنى على الأول: وما تنفقون إلا ابتغاء صفة الله تعالى التي سماها وجهاً، وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات المحدثين ـ وعلى الثاني: وما تنفقون إلا ابتغاء ذات الله تعالى. هذا ما لا يظهر معه للآية معنى، وكل ما ذكرناه في تفسيرها أظهر منه وأجلى، وقد رأيت أن الأستاذ الإمام اكتفى كالمفسرين بجعله معنى مرضاة الله، وهو صحيح"5. وكما هو واضح أن تفسير رشيد رضا لهذه الآية في حياة "الأستاذ الإمام"، وقد رأيت حكاية رشيد رضا لتفسيره الآية. ولم يكن من السهل الإعلان بمخالفة الأستاذ الإمام. إلا أنني أشير إلى بيان رشيد رضا لمذهبي السلف والخلف وفهمه لهما وقوله: "صفة الله تعالى التي سماها وجهاً وآمنا بها مع تنزيهه تعالى عن صفات
1 سورة البقرة، الآية (115)
2 انظر: ابن كثير: التفسير (1/ 150)، وابن القيم:"مختصر الصواعق"(ص: 339)
3 انظر: ابن القيم: مختصر الصواعق (ص: 391 ـ 392)
4 سورة البقرة، الآية (272)
5 تفسير المنار (3/ 85)
المحدثين" وذكره لتأويل المتكلمين لها بالذات. مما يدل على فهم رشيد رضا للمذهبين، ولا أشك في أنه يرجح مذهب السلف وإن لم يصرح به، نظراً لما اختاره الأستاذ الإمام. ومهما يكن من شيء فلو لم يكن لله وجه على الحقيقة لما جاء استعمال هذا اللفظ في معنى الذات؛ فإن اللفظ الموضوع لمعنى لا يمكن أن يستعمل في معنى آخر إلا إذا كان المعنى الأصلي ثابتاً للموصوف، حتى يمكن للذهن أن ينتقل من الملزوم إلى لازمه 1. ويؤيد رأيي في ترجيح رشيد رضا لمذهب السلف، موقفه الذي يعلنه دائماً من اختياره لمذهب السلف وحياته عليه وموته عليه، لولا ما يجعله يشير إلى غيره أحياناً لعوارض ومناسبات أخرى 2.
النص الثاني الذي يلي هذا في الوضوح ـ حسب ما يظهر لي ـ تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3 فقد قال: "
…
وقد ورد في الأحاديث الكثيرة من الطرق العديدة أن هذه الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، وهو أعلى مراتب الكمال الروحاني الذي لا يصل إليه المتقون المحسنون العارفون إلا في الآخرة
…
" 4. ولا يخفى أن هذا التفسير كان في أثناء سورة يونس، أي بعد وفاة "الأستاذ الإمام" بزمن بعيد 5.
وفسر رشيد رضا حديث "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" 6 فقال: "..ومعنى الجملة: أنه تعالى لو كشف عن وجهه حجاب النور المخلوق
…
لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره منهم
…
" 7.
1 انظر: محمد خليل هراس: شرح الواسطية (ص: 114) .
2 انظر: (ص: 354) من هذا البحث.
3 سورة يونس، الآية (26)
4 تفسير المنار (11/ 350)
5 وانظر: (ص:58) من هذا البحث.
6 سبق تخريجه قريباً
7 تفسير المنار (9/ 141)
والنص الثالث؛ فعند قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} 1 قال: "
…
أي يدعون ربهم بالغداة والعشي مريدين بهذا الدعاء وجهه سبحانه وتعالى
…
كما قال تعالى حكاية عن المطعمين الطعام على حبه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} 2، وكما قال في حق الأتقى الذي ينفق ماله ليتزكى به عند الله تعالى ويكون مقبولاً مرضياً لديه:{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 3 ولعل أصل ابتغاء الوجه بالعمل هو أن يعمل ليواجه به من عمل لأجله فيعتني بإتقانه
…
وأعلى الثواب رضوان الله تعالى، وكمال العرفان والعلم به المعبر عنه في الأحاديث الشريفة برؤية وجهه الكريم، بلا كيف ولا تشبيه ولا تمثيل
…
" 4.
وأما قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5 فيرى رشيد رضا تبعاً لشيخه، أنها ليست من آيات الصفات 6. وهو رأي قد قال به بعض السلف رحمهم الله وقد ذكرت قبل قليل أن ذلك يعني أنهم مختلفون في دلالة هذه الآية على الصفة، ولا يعني نفي الصفة، فإنهم يثبتونها بآيات وأدلة أخرى.
والخلاصة أن رشيد رضا يثبت "وجه الله تعالى"" صفة لهمن غير تشبيه ولا تمثيل، ولا كيف، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، وأن إثباته للصفة بعد وفاة شيخه كان أشد وأوضح. والله أعلى وأعلم.
ثانياً: العين الإلهية:
قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} 7 وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} 8،
1 سورة الأنعام، الآية (52)
2 سورة الإنسان، الآية (9)
3 سورة الليل، الآية (20)
4 تفسير المنار (7/ 437)
5 سورة البقرة، الآية (115)
6 تفسير المنار (1/ 434)
7 سورة هود، الآية (37)
8 سورة القمر، الآية (14)
وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} 1. وبناء على هذه الآيات يجب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من العين لا سيما وقد جاءت السنة موافقة للكتاب في ذلك. فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله {سَمِيعاً بَصِيراً} 2 ثم وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه 3 تحقيقاً للصفة. وفي أحاديث صفة الدجال "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" 4 وفي أحد رواياته "إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه" 5 وكان هذا كافياً عند أهل السنة لإثبات هذه الصفة 6. وتأولها الجهمية 7.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} ذهب الشيخ رشيد إلى إثبات هذه الصفة وما تلزمها من لوازم كالحفظ والعناية، فقال: " أي واصنع الفلك الذي سننجيك ومن آمن معك فيه حال كونك ملحوظاً ومراقباً بأعيننا من كل ناحية، وما يلزمه من حفظنا في كل آن وحالة
…
" 8.
1 سورة الطور، الآية (48)
2 سورة النساء، الآية (58)
3 رواه أبو داود: ك: السنة، باب في الجهمية، ح: ك 4728 (5/ 97 ـ الدعاس)، وعثمان الدارمي: الرد على المريسي (ص: 152)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 42 ـ43) ت: هراس.
4 ورد هذا المعنى في عدة أحاديث، انظر: البخاري: الصحيح: ك: الفتن، ح: 7127 و7131 (13/ 96 ـ97) مع الفتح، ومسلم: الصحيح: ك الفتن، ح: 100 و101 (2933)[4/ 2247 ـ 2248]
5 انظر: البخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب قول الله {ولتصنع على عيني} ح:7407. [13/401]
6 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 42 ـ 43 و48 و152)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 42)، والبخاري: الصحيح: ك: التوحيد، باب قول الله {ولتصنع على عيني} (13/ 401) مع الفتح، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 42)
7 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 2)، وعبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 227)
8 تفسير المنار (12/ 73)
ويشير رشيد رضا إلى نكتة جمع العين في الآية على أن المراد به شدة العناية بالمراقبة والحفظ. قال: " جمع الأعين هنا لإفادة شدة العناية بالمراقبة والحفظ
…
فإن العرب تعبر برؤية العين الواحدة عن العناية وبالأعين عن المبالغة فيها
…
" 1. ثم قال: "وهذا التفسير هو الظاهر بل المتبادر من هذا التعبير، وليس تأويلاً صرف به عن الظاهر لإيهامه التشبيه، فإنما مرادهم بالتأويل حمل اللفظ على المعنى المرجوح من معنييه أو معانيه لمانع من حمله على المعنى الراجح، وهو لا ينحصر في الحقيقة اللغوية
…
" 2.
والحق أن الله تعالى له عينان لا أعين كثيرة 3، وقد شنع الجهمية على أهل السنة بمثل ذلك في اليد الإلهية، وربما أراد رشيد رضا الاحتراز عن ذلك، فذهب في مسألة الجمع هذا المذهب، مع إثباته للعين ولوازمها من الحفظ والعناية. هذا خلاف ما ذهب إليه المغراوي من أن رشيد رضا لم يثبت هذه الصفة 4.
ومما يؤكد ما ذهبت إليه من إثبات رشيد رضا لهذه الصفة قوله بعد أن نقل كلاماً للسعد في تأويل بعض الصفات منها العين والوجه واليد، قال: "ومثل هذه الصفات التي هي في الحادث أعضاء وحركات أعضاء، الصفات التي هي في الحادث انفعالات نفسية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب والكراهة فالسلف يمرونها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عن انفعالات المخلوقين
…
والخلف يؤولون ما ورد من النصوص في ذلك
…
والحق أن جميع ما أطلق على الله تعالى فهو منقول مما أطلق على البشر، ولما كان العقل والنقل متفقين على تنزيه الله تعالى عن مشابهة البشر تعين أن نجمع بين النصوص فنقول: إن لله تعالى قدرة حقيقية ولكنها ليست
1 المصدر نفسه.
2 المصدر نفسه.
3 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 48)، والأشعري: الإبانة (ص: 22)، وابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 135 ـ 137)
4 انظر: المغراوي: المفسرون (ص: 271)
كقدرة البشر، وأن له رحمة ليست كرحمة البشر، وهكذا نقول في جميع ما أطلق عليه تعالى جمعاً بين النصوص، ولا ندعي أن إطلاق بعضها حقيقي والبعض الآخر مجازي
…
" 1.
وتعليق رشيد رضا هذا على كلام السعد التفتازاني المتضمن كلامه على الاستواء والوجه واليد والتي أثبتها جميعاً رشيد رضا، وفي ضمنها أيضاً الحديث عن العين الإلهية وأدلتها، وسياق الكلام عليها سياقاً واحداً لهو دليل على إثباته هذه الصفة كما أثبت ما معها من الصفات وما أضافه في التعليق عليها كالرحمة.
ثالثاً: النفس الإلهية:
ذكر الله تعالى في غير ما آية في كتابه أن له نفساً، وكذلك جاء في السنة النبوية.
قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2 وقال: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 3 وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 4 وقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} 5. وفي الحديث: "يقول الله: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" 6. وفي الحديث أيضاً: "
…
سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه" 7.
1 تفسير المنار (3/ 197 ـ 199) ولم يهتد المغراوي إلى هذا الموضع أيضاً فقال ما قال.
2 سورة الأنعام، الآية (54)
3 سورة طه، الآية (41)
4 سورة آل عمران، الآية (30)
5 سورة المائدة، الآية (116)
6 البخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} ، ح: 7405 (13/395)
7 مسلم: الصحيح، ك: الذكر، ح: 79 (2726)(4/ 2090) ط. عبد الباقي.
ويقول أهل السنة: إن نفس الله تعالى لا تشبه نفس المخلوقين، كما ينزهونه عن ألا تكون له نفس كالعدم 1.
وكفرت الجهمية بهذه الآي والسنن، وزعم بعضهم أن الله تعالى أضاف النفس إليه على معنى إضافة الخلق إليه وزعم أن نفسه غيره كما أن خلقه غيره فهل يجوز على هذا التأويل أن يقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة أي كتب ربكم على غيره الرحمة؟! وهل يجوز: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، أي: ولا أعلم ما في غيرك؟! وهل يجوز أن يقول: واصطنعتك لنفسي: أي لغيري؟!
…
2 وقال بعضهم: نفسه ذاته 3.
وأثبت الشيخ رشيد النفس الإلهية مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس المخلوقين. وأنكر تأويلات المتأولين. فقال عند قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} 4: "
…
قيل إن إضافة كلمة نفس إلى الله تعالى من باب المشاكلة، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك كقوله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 5 {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 6 وقيل: إنها بمعنى الذات
…
وتنزيه الله عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه معروف بالنقل والعقل، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل
…
" 7.
وعند قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 8 قال: "
…
وذكر النفس
1 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 5 ـ 6)، وانظر: ابن أبي عاصم: السنة (1/ 270)
2 انظر: ابن خزيمة: المصدر السابق (ص: 8)، وابن حجر: الفتح (13/ 396)
3 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 93)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 11)، والراغب: المفردات (ص: 818)
4 سورة المائدة، الآية (116)
5 سورة الأنعام، الآية (54)
6 سورة آل عمران، الآية (28، 30)
7 تفسير المنار (7/ 266)
8 سورة آل عمران، الآية (28، 30)
ليعلم أن الوعيد صادر منه، وهو القادر على إنفاذه
…
" 1.
ومن هذين النقلين يتضح لنا رأي الشيخ رشيد في النفس، فقد جرى فيه على منهج السلف الذي أعلن مراراً وتكراراً أنه عليه يحيا وعليه يموت 2.
رابعاً: يد الله تعالى:
ورد لفظ "اليد" في القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع؛ وروداً متنوعاً متصرفاً فيه، مقروناً بما يدل على أنها يد حقيقية من الطي 3 والقبض 4 والبسط 5 والخلق باليدين 6 والإمساك 7 والحثيات 8 والكتابة بها 9، وغرس جنة عدن بها 10 واختيار آدم لليمين منها 11 وكلتا يديه تعالى يمين مباركة 12. وإن اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف الاستعمال يمنع المجاز 13.
وبناءً على ذلك أثبت أهل السنة صفة اليد لله تعالى، على ما يليق به
1 تفسير المنار (3/ 282)
2 انظر: المصدر نفسه (1/ 252 ـ 253)
3 سورة الزمر، الآية (67)
4 سورة البقرة، الآية (245) وسورة الزمر، الآية (67)
5 سورة البقرة، الآية (245) وسورة المائدة، الآية (64)
6 سورة ص، الآية (75)
7 مسلم: الصحيح، ك: صفات المنافقين، ح: 19 (2786)[4/ 2147] ط. عبد الباقي.
8 الترمذي: صفة القيامة، باب: 12، ح: 2437، وابن ماجه: السنن، ك: الزهد، باب: صفة أنه محمد (، ح: 4286، وصححه الألباني.
9 البخاري: ك: القدر، باب: تحاج آدم وموسى، ح: 6614 (11/ 513) .
10 الحاكم: المستدرك (2/ 392)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 47)
11 الترمذي: ك: التفسير، باب: 95، ح:(3368)(5/ 453) وقال: حسن غريب، وابن أبي عاصم: السنة (1/ 91)، والحاكم: المستدرك (1/ 64) وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
12 ابن القيم: الصواعق "المختصر"(ص: 334)
13 المصدر نفسه (ص: 323)
تعالى 1، وأولها المتكلمون بالقدرة أو القوة أو النعمة 2.
ولقد سار رشيد رضا في هذه الصفة على منهج أهل السنة، فقد أثبتها مستدلاً بالكتاب والسنة. فيرد الشيخ رشيد على المنكر لهذه الصفة بقوله: "ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين، قد قرأ أو سمع قوله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 3 وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4
…
" 5. ويحدد رشيد رضا الألفاظ الواردة في إثبات هذه الصفة، ويرد ما لم يرد منها في الكتاب والسنة، فيقول: "وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 6 وثبت في حديث مسلم 7 والنسائي 8: "وكلتا يديه يمين" والحديث في إثبات الشمال لا يصح
…
" 9.
وعند قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 10 قال: "أي بل هو صاحب الجود الكامل، والعطاء الشامل، عبر عن ذلك ببسط اليدين لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه" 11 ثم
1 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 25)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 67)، والآجري: الشريعة (ص: 320)، وابن منده: التوحيد (3/ 118)، والبيهقي: الأسماء والصفات (2/ 43)، وقد أثبتها الأشعري: الإبانة (ص: 22)، والباقلاني: التمهيد (ص: 295)
2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 228)، والرازي: أساس التقديس (ص: 125) = =والبغدادي: أصول الدين (ص: 110)، وانظر: الأشعري: المقالات (1/ 290)
3 سورة الفتح، الآية (10)
4 سورة ص، الآية (75)
5 مجلة المنار (29/ 595)
6 سورة الزمر، الآية (67)
7 الصحيح: ك: الإمارة، ح: 18 (1827)[3/1458] .
8 السنن: ك: آداب القضاة، باب: فضل الإمام العادل (8/ 221) ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
9 مجلة المنار (29/ 595)، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (13/ 408) ط. الريان، مصر.
10 سورة المائدة، الآية (64)
11 تفسير المنار (6/ 455)
قال: "نعم إن التثنية ليست بمعنى الجمع، واليد واليدين لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك. وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية 1، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم
…
" 2 وفي مسألة "الكناية" يرى رشيد رضا: أن الكناية لا تنافي الحقيقة كما ينافيها المجاز 3.
ورغم أن رشيد رضا يوافق ابن جرير الطبري 4 على إثبات هذه الصفة لله تعالى وأنها يد إلهية ليست بجارحة 5 ويقول:: "ونحن معه في إثبات الصفات، ننعى على المؤولين النفاة
…
" 6 إلا أنه لم يوافق ابن جرير في استدلاله على هذه الصفة بالتثنية الواردة في الآية 7، ويذهب إلى أن التعبير من باب الكناية ولكنه يقول: "ليس في هذا القول المروي عن ابن عباس 8، تأويل ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى
…
" 9.
والذي يظهر من هذا أن رشيد رضا يثبت الصفة بلا ريب ولكنه يخالف في الاستدلال بالتثنية الواردة في الآية عليها. كما أنه استدل على هذه الصفة بآيات أخرى. ولا يعني ذلك إنكاره للصفة. على أن الاستدلال بالتثنية على عدم إرادة المجاز في الآية هو استدلال صحيح، استدل به غير واحد من أهل السنة وليس ابن جرير منفرداً في ذلك 10.
1 سيأتي تعريف الكناية والفرق بينها وبين المجاز. انظر (ص:409) من هذا البحث.
2 تفسير المنار (6/ 456)
3 انظر: مجلة المنار (17/ 827) و (ص:409) من هذا البحث.
4 هو: محمد بن جرير بن يزيد، الإمام العالم المجتهد، عالم العصر، صاحب التصانيف البديعة، كان من أفراد الدهر علماً ولقي النبلاء والفضلاء. قل أن ترى العيون مثله، ت: 310هـ. انظر: الذهبي: السير (14/ 267 ـ 282)
5 تفسير المنار (6/ 456)
6 المصدر نفسه (6 /455)
7 المصدر نفسه.
8 انظر: ابن كثير: التفسير (2/ 71 ـ 72) .
9 تفسير المنار (6/ 456)
10 انظر: ابن خزيمة: التوحيد (ص: 86)، والأشعري: الإبانة (ص: 126 ـ 127)، والبيهقي: الاعتقاد (ص: 88) ت: أحمد عصام، وابن تيمية:"الرسالة المدنية"[ضمن مجموع الفتاوى (6/ 365 ـ 366) ]، وابن القيم: الصواعق "المختصر"(2/ 324)
وليس صحيحاً ما ذكره المغراوي من أن رشيد رضا ذهب في هذه الآية مذهب المؤولة، وأنه اختلط عليه الإثبات والتفويض 1.
خامساً: الصورة الإلهية:
الصُورة ـ بالضم ـ الشكل، جمعها: صُور وهي الشكل، والهيئة والحقيقة 2.
وكل موجود من الموجودات له صورة في الخارج، كما أن له صورة ذهنية 3. والصورة الإلهية وردت في أحاديث كثيرة لا يمكن دفعها ـ وإن لم ترد في الكتاب ـ إلا أنها وردت في السنة واشتهرت. منها حديث:
"خلق الله آدم على صورته" 4، وفي رواية:"على صورة الرحمن" 5، وصححه الأئمة 6.
وحديث: "رأيت ربي في أحسن صورة"7.
وقد أثبت أهل السنة ما دلت عليه هذه الأحاديث دون التصرف فيها بالتأويل فالصورة كالصفات الأخرى، ثبتت لله تعالى بالوحي فوجب الإيمان بها، مع التنزيه وعدم التشبيه 8.
1 انظر: المغراوي: المفسرون بين التأويل والإثبات (1/ 266) .
2 انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة (3/ 320)، والزبيدي: تاج العروس (3/ 342)
3 ابن تيمية: نقض التأسيس (3/ 245 و275)[مخطوط]
4 البخاري: الصحيح، ك: الاستئذان، باب: بدء السلام، ح: 6227 (11/ 5)
5 ابن أبي عاصم: السنة (1/ 229)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 38) ت: هراس.
6 انظر: ابن تيمية: نقض التأسيس (3/ 222)[مخطوط] وابن حجر: فتح الباري (5/217)
7 الترمذي: السنن: ك: التفسير، تفسير سورة "ص"، ح:3288، (5/ 369) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل عن البخاري تصحيحه.
8 انظر: ابن تيمية نقض التأسيس [ج: 3 مخطوط (ص: 206 ـ 255) ]، وانظر: ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث (ص: 221)
وأولها الجهمية بالصفة، كما أنهم تلاعبوا في إرجاع الضمائر في الروايات المتقدمة 1.
وأما الشيخ رشيد فقد أشار إلى حديث البخاري: "خلق الله آدم على صورته" وقال: "قيل إن الضمير في صورته لآدم أي: صورته المعهودة لم يتغير من طور إلى طور آخر وقيل إنه قاله لمن ضرب عبده فالضمير للعبد، ولكن ورد في رواية أخرى "على صورة الرحمن""2.
فالشيخ رشيد قد أورد بعض التأويلات المذكورة، ثم أورد رواية أخرى تردها ولكنه لم يعلق عليها بشيء.
كما أنه أورد روايات أخرى فيها ذكر الصورة ونقل كلام الشراح عليها ثم قال: "ذكر النووي في شرحه لحديث أبي هريرة من صحيح مسلم مذهب السلف في أمثال هذه الألفاظ والصفات وهو الإيمان بها وحملها على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته وتنزيهه كما تقدم
…
" 3.
وأما مذهب السلف فهو ما ذكرته قبل قليل من الإيمان بالصورة ومعناها اللغوي ـ مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ـ وإمرار الأحاديث على ظاهرها، وتفويض الكيفية لا المعنى، وأرجو أن يكون هذا هو مراد الشيخ رشيد. وهذا هو مذهب السلف في كل الصفات وكما قرره الشيخ رشيد غير مرة، ومن الممكن أن نتأول على ذلك قوله في معنى الصورة:
"وقد اختلفوا في معنى الصورة وأولوها أيضاً، والأظهر أنها عبارة عما يقع به التجلي من حجاب ومنه رداء الكبرياء الذي سبق الكلام فيه
…
" 4.
1 انظر: الرازي: أساس التقديس (ص: 83) وما بعدها، وانظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 5)
2 تفسير المنار (7/ 474) بالحاشية.
3 المصدر نفسه (9/ 146)
4 المصدر نفسه والصفحة، إلا إن كان الشيخ رشيد يريد بالتجلي أنه يتجلى في صورة كما ورد في بعض الروايات، يتجلى وتبدى. انظر: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 316 (191)[1/ 177 ـ 178]، والترمذي: السنن: ك: صفة الجنة، باب: ما جاء في أسواق الجنة، ح: 2549، وقال: هذا حديث غريب (4/ 686)، وابن ماجه: السنن: ك: الزهد، باب: صفة الجنة، ح: 4336، وضعفه الألباني.
وإن كان قوله "عبارة عن
…
" هو التأويل الذي رفضه السلف وأقرهم على ذلك الشيخ رشيد.
سادساً: الرؤية:
زعمت الجهمية والمعتزلة أن الله تعالى لا يُدرك ولن يُدرك بشيء من الحواس الخمس 1. ولذلك فقد نفوا رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة 2. وأما أهل السنة فإنهم يقولون بجواز الرؤية في الدنيا عقلاً ولكنها لم تقع لأحد قط، لا نبي ولا غير نبي، ولم يختلفوا في ذلك، إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم، وجوازها في الآخرة عقلاً، ووقوعها قطعاً 3. واستدلوا بالكتاب والسنة: فمن الكتاب: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4 وقوله تعالى: {كَلَاّّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 5. ومن السنة: أحاديث بلغت مبلغ المتواتر 6. منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته" 7، وهذا دليل واضح وضوح الشمس والقمر. وعلى ذلك مضى السلف. قال الإمام الدارمي: "فهذه الأحاديث كلها وأكثر
1 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 13 ـ 14)، وعبد الجبار: فضل الاعتزال (ص: 346)، وشرح الأصول (ص: 348) ، وابن تيمية: منهاج السنة (2/ 315 و363)، والأشعري: المقالات (1/ 238)، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 207)
2 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 232) وما بعدها و (ص: 348) .
3 انظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 54)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 185 وص: 197) وما بعدها. وابن أبي عاصم: السنة (ص: 193)، وابن تيمية: منهاج السنة (2/ 329) وما بعدها، وابن القيم: حادي الأرواح (ص: 223) ط. مطبعة المدني، بمصر.
4 سورة القيامة، الآية (22ـ 23)
5 سورة المطففين، الآية (15)
6 انظر: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 59)، والآجري: الشريعة (ص: 57)، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 215) ط. التركي.
7 رواه البخاري: الصحيح، ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} ، ح: 7434، (13/ 429) مع الفتح، وانظر: الدارمي: الرد على الجهمية (ص: 46)، وابن خزيمة: التوحيد (ص: 178) وما بعدها، وابن أبي عاصم: السنة (ص: 193)
منها قد رويت في الرؤية، على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والنظر من مشايخنا، ولم يزل المسلمون قديماً وحديثاً يروونها ويؤمنون بها، لا يستنكرونها ولا ينكرونها
…
" 1.
وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعيني رأسه على ثلاثة أقوال، ثالثها التوقف 2. والحق أنه لم يرد في شيء من الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم رآه يقظة بعينه 3. وقد ورد النفي في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:"قلت يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه" 4 واختاره أحمد 5 والدارمي 6 الذي علل ذلك بضعف قدرة الإنسان على ذلك في الدنيا وأن الله تعالى ينشئهم نشأة أخرى في الآخرة تقوى على ذلك 7.
وقد اتخذ الشيخ رشيد موقفاً سديداً في هذه المسألة، فقد أثبت رؤية الله تعالى في الآخرة. وذكر الخلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى في الدنيا وذهب إلى القول بالنفي.
فأما رؤية الله تعالى في الدنيا، فيقول بنفيها عموماً، للنبي صلى الله عليه وسلم، ولغيره بطريق الأولى، فيقول: "اختلف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج بين إثبات ونفي ووقف، واختلف المثبتون في الرؤية هل هي بعين البصر أم بعين القلب والبصيرة؟
…
والتحقيق أنه قد وردت أحاديث مرفوعة صحيحة في النفي دون الإثبات، كحديث:"نور أنى أراه" 8 وكحديث: "واعلموا أنكم
1 الرد على الجهمية (ص: 54)
2 انظر: القاضي عياض: الشفاء (1/ 152 ـ 156) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الأولى 1416هـ.
3 انظر: عياض: الشفاء (1/ 152)، وابن تيمية: درء التعارض (2/ 106) ، ومنهاج السنة (2/ 316 و636 ـ 637)
4 مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 291 (1/ 161)
5 انظر: ابن تيمية: منهاج السنة (2/ 637)
6 الرد على الجهمية (ص: 55)
7 المصدر نفسه (ص: 55 ـ56)، وانظر: ابن تيمية: المنهاج (2/ 331 ـ 333)
8 سبق تخريجه.
لن تروا ربكم حتى تموتوا" 1...." 2 ويرجح رشيد رضا رأي أم المؤمنين عائشة في النفي 3 لأنه " أصح سنداً وأقوى دليلاً" 4 وأما رأي ابن عباس 5 رضي الله عنهما فهو بالاستنباط من الأدلة ولم يكن عنده حديث مرفوع 6.
وهذا الذي ذهب إليه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعين رأسه يقظة في الدنيا هو الراجح عند جمهور أهل السنة كما سبق. وهو مذهب أم المؤمنين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما 7.
وأما الرؤية في الآخرة، فبعد أن ذكر الشيخ رشيد تعارض أدلة المثبتين والنافين لها من القرآن يقول: "وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصاً قاطعاً في مذهبه ففي الأحاديث المتفق عليها ما هو نص قاطع لا يحتمل التأويل في الرؤية وتشبيهها برؤية البدر والشمس في الجلاء والظهور وكونها لا مضارة فيها ولا تضام ولا ازدحام
…
" 8.
غير أن الشيخ رشيد لا يترك الاستدلال بأدلة القرآن بل يستدل بها ويبين وجه دلالتها، فلقد ذكر استدلال أهل الإثبات بقوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} 9، وقال: ".. فنفي الإدراك يستلزم إثبات رؤية لا إدراك فيها، فكأنه قال: لا تدركه الأبصار التي تراه وهو يدرك الأبصار التي يراها ويحيط بها. ونظيره قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
1 رواه مسلم: الصحيح: ك: الفتن وأشراط الساعة، ح: 95 (2930)[4/ 2245]، وانظر: ابن ماجه: السنن، ك: الفتن، باب: فتنة الدجال، ح:4077.
2 تفسير المنار (9/ 147)
3 انظر: مسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 287 (177) وما بعده (1/ 159)
4 تفسير المنار (9/ 147)
5 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 285 (176)(1/ 158)، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (1/79)
6 تفسير المنار (9/ 148)
7 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الإيمان، ح: 283 (175) وح:287 (177)[1/ 158 ـ 159]
8 تفسير المنار (9/152)
9 سورة الأنعام: الآية (104)
وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 1 أي هو يحيط بهم علماً لأنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} 2، وهم لا يحيطون به علماً لأن إحاطة المحاط به بالمحيط محال، وهو يستلزم إثبات أصل العلم به لا نفيه كآية نفي الإدراك بالأبصار، وكل منهما جار على قاعدة معروفة في اللغة؛ وهي أن نفي المقيد يقصد به إلى القيد، وإن نفى وصف خاص لمعنى عام يستلزم إثبات ذلك العام، كقولك: فلان لا يشبع ـ فإنه إثبات للأكل ونفي للشبع.." 3.
وأما ما يستدل به النفاة من كلام السيدة عائشة رضي الله عنها، فيجيب عنه الشيخ بما يأتي:"وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عن المثبتين، أن يقال: إنها تريد نفي الرؤية في الدنيا، كما قال بذلك الجمهور، ولا تقاس شؤون البشر في الآخرة على شؤونهم في الدنيا، لأن لذلك العالم سنناً ونواميس تخالف هذا العالم.."4.
ويلخص الشيخ رشيد رأيه في هذه المسألة فيقول: "خلاصة الخلاصة أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق وأنها أعلى وأكمل النعيم الروحاني الذي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة والرضوان، وأنها أحق ما يصدق عليه قوله تعالى في كتابه المجيد: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 5،.. وأن هذا وذلك مما يدل على مذهب السلف الذي عبر بعضهم عنه بأوجز عبارة اتفق عليها جميعهم، وهي: "رؤية بلا كيف"
…
6".
وما ذهب إليه الشيخ رشيد في هذه المسألة أيضاً هو اعتقاد أهل السنة رحمهم الله 7.
1 سورة طه: الآية (110)
2 سورة البروج: الآية (20)
3 تفسير المنار (9/136)
4 المصدر نفسه (9/ 154)
5 سورة السجدة: الآية (17)
6 تفسير المنار (9/ 177) وانظر: المجلة (19/282) والوحي المحمدي (ص:183)
7 كما أثبتها: الأشعري: الإبانة (ص: 35) والباقلاني: التميهد (ص:301)