الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يدل عليه قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1:كفر، فيقول: "الإيمان بظاهر القرآن واجب بالإجماع فإن أوهم تشبيهاً جزمنا بأن التشبيه غير مراد بدليل العقل والنقل وفوضنا الأمر في كيفية ذلك وتأويله: أي ما يؤول إليه إلى الله عزوجل
…
وهو ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث والفقه المجتهدين
…
فعلم منه أن ما كفَّرهم به هو صحيح الإيمان، وأن ما يدعو الناس إليه هو عين الكفر والابتداع
…
"2.
وأود أن أشير إلى قوله: "
…
وتأويله أي ما يؤول إليه فإنه يبين معنى صحيحاً من معاني التأويل 3 وهو خلاف تأويل المتكلمين الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى آخر مرجوح أو غير مراد 4، وإذا ضممنا لهذا اعتبار الشيخ أن التأويل هو نوع من الإلحاد في أسماء الله وصفاته وقعت فيه بسبب التأويل الجهمية والمشبهة والأشعرية نستطيع أن نتبين بوضوح الموقف النهائي للشيخ رشيد من التأويل المذموم.
1 سورة الملك، الآية (16)
2 مجلة المنار (33/ 380 ـ 381)
3 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 77ـ 81) .
4 المصدر نفسه (ص: 79)
المطلب الثاني: موقف الشيخ رشيد من قواعد المتكلمين:
إن للمتكلمين ـ كما لأهل السنة ـ قواعد وأصول بنوا عليها مذهبهم في الصفات. ومن المناسب بعد أن تعرفنا موقف الشيخ من قواعد السنة، أن نعرف موقفه من قواعد المتكلمين. ونأخذ من هذه القواعد مسألتين:
الأولى: قانون التأويل، والثانية: المحكم والمتشابه.
أولاً: قانون التأويل:
نستطيع أن نقول: إن تأويل النصوص الدينية، لتتفق وبعض الأفكار
الفلسفية، ظاهرة تاريخية في التفكير الديني 1. إلا أن المتكلمين المسلمين لم يقنعوا بتأويلاتهم الباطلة فأرادوا أن ينسجوا من خيوطها البالية ثوباً منطقياً، موشى بزخرف القول، يواروا به سوءتهم العقلية، ومن أحجارها المتنافرة بيتاً "مجازياً" يستظلون به من شمس الحقيقة المشرقة، ولكن الخيوط البالية صنعت لهم ثوب سوء لا يستر شيئاً، وإذا البيت الذي أرادوه كبيت العنكبوت، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت. وضع المتكلمون قانوناً 2 للتأويل: وهو: قاعدة عامة يؤولون على أساسها نصوص الكتاب والسنة التي لا تقبلها عقولهم 3. وبُني هذا القانون على فرض محال هو: تعارض العلوم الضرورية، ثم وجوب تقديم العقلي منها على السمعي ونص هذا القانون: "إن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما، لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأن العقل أصل النقل، فتكذيبه ـ أي العقل ـ لتصديقه ـ أي النقل ـ يوجب تكذيبهما، فتعين تصديق العقل وتفويض علم النقل إلى الله أو الاشتغال بتأويل الظواهر"4.
وهذا القانون قد جعله المتكلمون قانوناً كلياً فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به، وردوا به نصوص الصفات التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله 5. وأصبح العقل هو الأصل فيما يثبت من صفات الله تعالى وما لا يثبت.
وقد بني هذا القانون ـ كما يظهر من نصه السابق ـ على افتراضات ومقدمات جدلية: ثلاثة: وهي:
1 انظر: د. محمد يوسف موسى: بين الدين والفلسفة (ص: 111)، وابن القيم: الصواعق (1/ 197) .
2 القانون: أمر كلي منطبق على جميع جزئياته التي يتعرف أحكامها منه. التعريفات (ص: 149)
3 ابن تيمية: درء التعارض (1/ 5) وسيأتي تعريف التأويل قريباً.
4 الرازي: أساس التقديس (ص: 172)، والمحصل (ص: 31)
5 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 5)
ثبوت التعارض بين العقل والنقل.
وانحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه.
وبطلان الأقسام الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع: وهو تقديم العقل 1.
وقد قام علماء السنة بدحض هذه المقدمات وكشف زيغها فتهدم البيت من قواعده على رؤوس المتكلمين، وأكتفي هنا بذكر أمرين أساسيين في الرد على هذا القانون من مئات الأوجه التي ذكرها أهل السنة: وهما:
أولاً: منع الأساس لهذا القانون، وهو تعارض العقل والنقل: فإن العلوم الضرورية لا تتعارض، فلا يمكن إثبات أن نقلاً صحيحاً عارض عقلاً سليماً 2.
ثانياً: أن القسمة لا تنحصر فيما ذكروه ـ على تقدير المحال ـ فيقال: يمكن تقديم الدليل العقلي تارة والسمعي أخرى فأيهما كان قطعياً كان مقدماً.
ثم إنه يجب تقديم الشرع، لأن العقل شهد له وصدقه، فلو قدم حكم العقل لكان ذلك قدحاً في شهادته، وإذا بطلت شهادته بطل قوله، ففي تقديمه طعن فيه وفي الشرع 3.
وكان الشيخ رشيد رحمه الله على منهج السلف في موقفه من قانون التأويل، وكان بوجه خاص متأثراً بشيخ الإسلام في هذا الموقف من هذا القانون الباطل، فيقول عن شيخ الإسلام بمناسبة الكلام عن نصره لمذهب السلف ومخالفته لجمهور المتكلمين.
"فالرجل ليس صاحب مذهب مخترع تعارضت أدلته مع أدلة هذه الفرق واشتبه عليه الأمر حتى نرجح قوله على كل منها أو نرجح غيره عليه،
1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 78)، وابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 521) .
2 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (1/ 79)، وشرح الأصفهانية (ص: 80) ، وابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 521)، وابن الوزير: إيثار الحق (ص: 123)
3 انظر: ابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 522، 528)، وابن الوزير: إيثار الحق (ص: 123)
بل هو ناصر مذهب جمهور السلف الصالح بالأدلة العقلية التي انخدع بنظرياتها كل من خدعته قليلاً أو كثيراً
…
ونحمد الله أن سخر لها من هدم كل ما خالف السلف من تلك النظريات بأدلة من جنسها هي أقوى منها، وأثبت بالبرهان أن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول.." 1.
ويقول عنه أيضاً: "وقد استوفى الرد على أولئك المخالفين للسلف من المنتسبين إلى مذاهب السنة والمبتدعة من الفلاسفة في كتابه "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" وإنني أنقل عنه هنا ما ختم به الوجه السابع من الوجوه التي تكلم فيها على تقديمهم العقل على النقل عند التعارض وهو: تفنيد ابن تيمية لقول المتكلمين بتقديم النظريات العقلية على النصوص السمعية"2. ثم نقل نقلاً طويلاً عن شيخ الإسلام في رد هذا التقديم 3 ثم يعلق قائلاً: "كل مؤمن سليم الفطرة صحيح العقل إذا قرأ هذا جزم بأنه الحق وأنه يجب على المسلمين ألا يغتروا بشهرة أحد من المتكلمين ولا الصوفية ولا الفقهاء الذين خالفوا السلف
…
" 4.
ويبين الشيخ رشيد وجهاً من أوجه الرد على أصحاب هذا القانون الفاسد وهو أن إحالتهم الناس على العقل دون الشرع إحالة على شيء لا ينضبط، وكان ينبغي أن يحالوا على الشرع لأنه معلوم ومقطوع بصدقه، وهو أمر منضبط.
يقول الشيخ رشيد: "ثم إن عقول الناس تختلف اختلافاً كثيراً فيما يوافق أصحابها وما لا يوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يحكمون عقولهم في الدين دين خاص به، وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم ـ إن صح أن يسمي اتباعهم لها ديناً وهو لا يصح ـ فتحكيم العقل
1 مجلة المنار (22/ 19)
2 المصدر نفسه (22/ 191)
3 وهو في درء التعارض، ت: رشاد سالم (1/ 168) وذكره شيخ الإسلام في ختام الوجه التاسع لا السابع كما ذكر الشيخ رشيد.
4 مجلة المنار (22/ 192)
في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح، وإنما المعقول أن يطلب العاقل الدليل على أصل الدين فمتى ثبت عنده وجب عليه أن يتبع كل ما علم أنه منه
…
" 1.
ويبين الشيخ رشيد خطراً من مخاطر التأويل، وهو تعلق أصحاب كل مذهب مبتدع به ليستدل على بدعته بتأويله النصوص وما جاز التأويل لقوم إلا وقد جاز للجميع، فليس تأويل فريق منهم بأولى من تأويل الآخر، يقول الشيخ:"وليعلموا أنه لا يوجد كلام قط لا يمكن حمله على غير المراد منه حملاً يقبله الكثير من الناس المشتغلين بالعلم، وليطالعوا كتاب "حجج القرآن" 2 ويتأملوا كيف استدل جميع أصحاب المذاهب المبتدعة في الإسلام بآياته التي هي في منتهى البلاغة في البيان على تلك المذاهب المتناقضة {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} 3
…
"4
وموقف أهل السنة من قانون التأويل الذي يجعل العقل هو الأصل، ليس عداءً للعقل، بل هو الموقف الذي يقره العقل ويقضي به.
فأهل السنة لا ينكرون النظر العقلي، فإن القرآن قد هدى الناس إلى الدلائل العقلية واستدل بالمعقول. وكما يقول الشيخ رشيد، مبيناً موقف أهل السنة من العقل: " وإنما أنكر بعض العقلاء وأهل البصيرة على أمثاله 5 من المتكلمين جعل العقائد الدينية، والصفات الإلهية، وأخبار عالم الغيب محلاً لنظريات فلسفية، وموقوفاً إثباتها على اصطلاحات جدلية ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستفد أصحابها منها غير تفريق الدين، واختلاف المسلمين، والبعد عن حق اليقين، ويرى هؤلاء أن كون القرآن من عند الله قد ثبت
1 مجلة المنار (34/ 758 ـ 759)
2 قد سبق التعريف بهذا الكتاب. انظر (ص: 99) من هذا البحث.
3 سورة البقرة، الآية (26)
4 مجلة المنار (13/ 421) وانظر أيضاً: تفسير المنار (3/ 175) وقارن مع ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 193) وما بعدها.
5 يعني: الرازي، فقد اتهم أهل السنة بإنكار النظر العقلي وسماهم حشوية، انظر: مفاتح الغيب (14/19)
ثبوتاً عقلياً من وجوه كثيرة فوجب اتباعه حتى يتلقى العقائد والأحكام منه مع اجتناب التأويل للصفات الإلهية والأمور الغيبية بالنظريات الكلامية كما كان عليه السلف الصالح.." 1.
وقانون التأويل، بعد أن يفترض افتراضاً مستحيلاً هو تعارض العلوم الضرورية، أعني العقل والنقل، فيقدم العقل، ملقياً النص الشرعي وراءه ظهرياً، ثم يعبث به، إما بالتأويل أو بالتفويض وهم ـ أي المتكلمين ـ لا يعرفون معنى التأويل ولا التفويض.
وفي هذا يقول الشيخ رشيد: "وقد غلط كثير من علماء الكلام والمفسرين في بيان مذهب السلف ومعاني التفويض والتأويل
…
كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو الأصل فيرد إليه الدليل السمعي ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقاً، والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أن كلاً من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي، فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا حتى نرجح أحدهما علىالآخر، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب ترجيح القطعي مطلقاً، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جداً
…
" 2.
وقد بين الشيخ رشيد رحمه الله هذا الغلط في معنى التأويل الذي اعتبره المتكلمون فقال: " إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواضعات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره. ذكر التأويل في سبع سور من القرآن
…
"3. ثم أورد الشيخ المواضع التي ذكر فيها التأويل وفسرها جميعاً ثم خلص إلى أن معنى التأويل في دلالة القرآن مخالف لما حمله
1 تفسير المنار (8/ 309 ـ 310)
2 تفسير المنار (1/ 253)
3 المصدر نفسه (3/ 172)
عليه المتكلمون، فقال: "فتبين من هذه الآيات أن لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي الذي يقع في المآل تصديقاً لخبر أو رؤيا أو لعمل غامض يقصد به شيء في المستقبل فيجب أن تفسر آية آل عمران 1 بذلك، ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه قدماء المفسرين، وهو جعله بمعنى التفسير كما يقول ابن جرير: القول في تأويل هذه الآية كذا، ولا على ما اصطلح متأخروهم من جعل التأويل عبارة عن نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، ومثله قول أهل الأصول: التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل
…
" 2.
والمعنى الذي ذهب إليه المتكلمون وغيرهم وحملوا عليه لفظ التأويل ليس فقط مخالفاً لدلالة اللفظ في القرآن، بل مخالف لدلالته اللغوية مطلقاً، وهي قريبة جداً من دلالة اللفظ في القرآن.
فالتأويل في اللغة تفسير ما يؤول إليه الشيء 3، وهو من الأوْل: أي الرجوع إلى الأصل، ومنه: الموئل للموضع الذي يرجع إليه 4.
قال الأعشى:
على أنها تأوّلُ حب
ها
…
تأوّلَ رِبْعيّ السِّقابِ فأُصْحَبَا
فقوله تأول حبها: تفسيره ومرجعه، أي أنه كان صغيراً في قلبه فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديماً 5.
_________
1 يريد قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} الآية (7)
2 تفسير المنار (3/ 174) وانظر الأصفهاني: شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 415)، والجرجاني: التعريفات (ص: 43)
3 الرازي: مختار الصحاح: "أول"(ص: 13) .
4 الراغب: المفردات (ص: 99) .
5 انظر: أبو عبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن (1/ 86 ـ 87) ط. مؤسسة الرسالة. ت: سزكين، وانظر: ديوان الأعشى الكبير (ص: 113) بشرح: د. محمد محمد حسبن، والطبري: التفسير (3/ 113) ت: محمود وأحمد شاكر.
وبعد؛ فهذا الموقف من الشيخ رشيد تجاه التأويل عموماً، وقانونه الذي وضعه المتكلمون خصوصاً، هو الحق الموافق لمنهج أهل السنة والجماعة، ويكون إذاً ما ذهب إليه صاحب "أصول المبتدعة" 1، من حشر اسم الشيخ رشيد ضمن أسماء أنصار هذا القانون بعد اسم شيخه، هو بسبب الاستقراء الناقص، فإن هذا الذي ذكرته عن الشيخ هو الموقف الذي استقر عليه، وقد كان أول أمره يردد العبارات المشتهرة على الألسنة آنذاك، ومنها عبارات هذا القانون الفاسد 2. ولكن ها أنت ترى هذا الموقف المؤيد لمذهب السلف، والذي ينقل فيه الشيخ عن شيخ الإسلام نقولاً طويلة تصل إلى عشرات الصفحات لتقريره، وهو الموقف الأخير والصحيح أيضاً.
انتقاد على الشيخ رشيد:
فإن قيل: إنه قد وجد في كلام الشيخ بعض تأويل 3، فكيف يتفق هذا مع ما ذكرته عنه من موقفه العام من رفض للتأويل؟
قلت: الجواب ما يقوله الشيخ رشيد نفسه.
يقول الشيخ: "إن ما أدين الله تعالى به في صفات الله تعالى وأخبار عالم الغيب وغيرهما من كل ما كان عليه السلف من أمر الدين هو اتباع جمهورهم في إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله، ونفي ما نفياه من غير تعطيل ولا تأويل، وإنني إن ذكرت لبعض الآيات في ذلك تأويلاً فإنما أذكره لما أعلم بالاختبار من أن من الناس من لا يقتنع بحقية النص بدونه،
1 هو أخي الدكتور عبد القادر عطا صوفي ـ متخرج في قسم العقيدة ـ الجامعة الإسلامية ومؤلفه هذا من أحسن ما كتب. وانظر الموضع المنتقد في (1/ 167) ط. الأولى 1418هـ. وأرجو أن يتم التصحيح في الطبعات التالية إن شاء الله ويحذف اسم الشيخ رشيد منها.
2 انظر: مجلة المنار (1/ 293ـ 294 و2/ 457 ـ 458 و2/ 603 و5/ 809 و 6/ 252 و 7/ 390) وكل هذه المواضع لم يتجاوز " عام التمييز" وهو العام السابع للمنار.
3 أحمد بن عبد الرحمن القاضي: مذهب أهل التفويض (ص: 276) ط. دار العاصمة الرياض، الأولى 1416هـ.
مع العلم بأن علماء السنة قد صرحوا في القديم والحديث بأن من خالف ظواهر النصوص متأولاً لا يكفر، وإنقاذ كثير من الناس من الكفر بضرب من التأويل الذي ينافيه أمر عظيم
…
" 1.
ويقول أيضاً: ".. ولأن يكون أحدهم متديناً مؤولاً خير من أن يكون زنديقاً معطلاً"2.
ويقول في موضع آخر: "
…
وإن ما نذكره أو ننشره لنا أو لغيرنا من تفسير أو تأويل مخالف لمذهب السلف فغرضنا منه إما دفع شبهة عن الدين، وإما تقريب مسألة من مسائله لعقول بعض المرتابين
…
" 3.
وأيضاً يقول ناصحاً لقرائه: " وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أن من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. وأئمة السلف قد تأولوا بعض الظواهر كما فعل الإمام أحمد وغيره في آيات المعية وآخرون في غيرها"4.
ففي هذه النقول ما يدل على عذره للمتأولين وتجويزه للأسباب التي ذكرها، وربما دفعه إلى هذا الحالة التي كان يمر بها عصره، كما بينته في التمهيد من ظهور أفكار إلحادية بسبب التقدم العلمي.
غير أن الشيخ في ذلك يفرق بين التأويل الذي تسيغه اللغة وبين تأويل الباطنية الجهمية الأول، فيقول: "تأويل غلاة المبتدعة؛ كالباطنية وقدماء الجهمية المعطلين المخرج للكلام عن مدلولات اللغة
…
وهذا لا يجوز بحال من الأحوال ولا هو بالذي يعد عذراً للمتأول
…
" 5.
1 مجلة المنار (31/ 69)
2 المصدر نفسه (18/ 603)
3 المصدر نفسه (21/ 490)
4 تفسير المنار (1/ 253)
5 مجلة المنار (31/ 69)
فليس كل تأويل يعذر صاحبه، وأما ما ذكره الشيخ عن أحمد وغيره في كلامهم عن المعية فسيأتي في موضعه.
ومهما يكن من شيء فإن التأويل لا يجوز بحال، وأعني به التأويل المذموم الذي لا يدل عليه النص الشرعي، ولو كان بحجة إنقاذ شخص من عثرة قد تؤدي به إلى الكفر، فإنني لا أرى التأويل بعيداً عن الكفر 1.
ثانياً: المحكم والمتشابه:
ومن الأصول التي بنى عليها المتكلمون مذهبهم في الصفات ـ وهو مما له ارتباط وثيق بمسألة التأويل ـ إدخالهم أسماء الله وصفاته أو بعضها في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى تمسكاً بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2.
فجعل المتكلمون أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، فكأن الله تعالى أنزل كلاماً لا يفهم أحد معناه 3.
وإنما أنزل تعالى القرآن، ليفهم ويتدبر، بلسان عربي مبين، قال تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 4 وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
1 وللاستزادة في هذا الموضوع انظر: البحث القيم الذي كتبه الدكتور محمد لوح للدكتوراه: "جناية= = التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية". وقد طبعته دار ابن عفان، الخبر، ط. أولى 1418هـ. وانظر أيضاً: ابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 84)
2 سورة آل عمران، الآية (7)، وانظر ابن القيم: الصواعق المنزلة (2/ 520) .
3 انظر: البغدادي: أصول الدين (ص: 112)، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 93)، والبيجوري: تحفة المريد (ص: 108)، ومن كتب أهل السنة: ابن تيمية: الإكليل (ص:33) ط. المطبعة السلفية ومكتبتها، مصر 1394هـ. وابن القيم: الصواعق المنزلة (1/ 104 و 249)
4 سورة الزمر، الآية (27 ـ 28)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1 فأخبر تعالى أنه أنزله ليعقلوه 2.
وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ـ الصفات وغيرها ـ وفسروها بما يوافق دلالتها 3.
فليس في القرآن شيء لا يعلم معناه. ولما سئل مالك رحمه الله عن الاستواء، لم يقل: الاستواء متشابه أو مجهول، بل قال: الاستواء منه غير مجهول. يعني أنه معلوم المعنى، وقال: الكيف غير معقول. يعني الكيفية 4.
والذي استأثر الله بعلمه في الآية ليس علم المعنى ولكن علم التأويل وفرق بين المعنى والتأويل.
وقد فرق الله في القرآن بين هذين المعنيين، قال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} 5، فقد أخبر الله في هذه الآية أنه فصّل الكتاب، أي بينه وميزه بحيث لا يشتبه. ثم قال: هل ينتظرون إلا تأويله: وإنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها فمع علم معناه وتفصيله لم يعلم تأويله، فعلم أن فرقاً بين علم المعنى وعلم التأويل 6.
ومثل هذا أيضاً قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} 7 ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله، ومفهومه أنه يمكن أن
1 سورة يوسف، الآية (1ـ 2)
2 ابن تيمية: الإكليل (ص: 47)
3 المصدر نفسه (ص: 48) ، والصواعق (1/ 100 ـ 101)
4 انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 441)، وانظر: ابن تيمية: الإكليل (ص: 50)
5 سورة الأعراف، الآية (52ـ 53)
6 ابن تيمية: الإكليل (ص: 12)
7 سورة يونس، الآية (39)
يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله، فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام، وإتيان تأويله نفس وقوع المخبر به، فالخبر له صورة علمية في الذهن، وله حقيقة ثابتة في الخارج، فمعرفة معناه هو معرفة الصورة العلمية في الذهن، وتأويله هو الحقيقة الخارجية 1، فإن كان أمراً فتأويله هو نفس الفعل المأمور به، وإن كان خبراً فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع 2.
وأما الشيخ رشيد رضا فإنه قد عرّف المحكم والمتشابه فقال: "المحكمات من أحكم الشيء بمعنى وثقه وأتقنه، والمعنى العام لهذه المادة: المنع، فإن كل محكم يمنع بإحكامه تطرق الخلل إلى نفسه أو غيره
…
والمتشابه: يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضاً، وعلى ما يشتبه من الأمر أي: يلتبس
…
وقد وصف القرآن بالإحكام على الإطلاق في أول سورة هود بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} 3، وهو من إحكام النظم وإتقانه أو من الحكمة التي اشتملت آياته عليها. ووصف كله بالمتشابه في سورة الزمر:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} 4 أي: يشبه بعضه بعضاً في هدايته وبلاغته وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف
…
" 5.
ثم ذكر أقوال المفسرين في المحكم والمتشابه، ثم أقوال شيخه، ولم يقنع بشيء إلا بما كتبه شيخ الإسلام في تفسيره لسورة الإخلاص، فقال عنه: "
…
فإذا هو منتهى التحقيق والعرفان، والبيان الذي ليس وراءه بيان
…
" 6.ثم لخصه فقال: "أثبت فيه أن ليس في القرآن كلام لا يفهم
1 ابن تيمية: الإكليل (ص: 18)
2 المصدر نفسه (ص: 11)
3 سورة هود، الآية (1)
4 سورة الزمر، الآية (23)
5 تفسير المنار (3/ 163)
6 المصدر نفسه (3/ 172)، وانظر: ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص (ضمن مجموع الفتاوى (17/372) وما بعدها) ، ونقل عنها رشيد رضا (22) صفحة من (ص: 175ـ 196) . انظر: تفسير المنار (3/ 175 ـ 196)
معناه، وأن المتشابه إضافي إذا اشتبه فيه الضعيف لا يشتبه فيه الراسخ، وأن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى هو ما تؤول إليه تلك الآيات في الواقع، ككيفية صفات الله تعالى وكيفية عالم الغيب من الجنة والنار وما فيهما، فلا يعلم أحد غيره تعالى كيفية قدرته وتعلقها بالإيجاد والإعدام وكيفية استوائه على العرش مع أن العرش مخلوق له وقائم بقدرته، ولا كيفية عذاب أهل النار، ولا نعيم أهل الجنة
…
وإننا نبين ذلك بالإطناب مستمدين من كلام هذا الحبر العظيم، ناقلين بعض ما كتبه فنقول: إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي
…
" 1.
ثم ذكر معاني التأويل كما نقلت عنه قبل قليل، وخلص إلى أن "لفظ التأويل لم يرد في القرآن إلا بمعنى الأمر العملي
…
" إلى آخره 2، ثم قال بناءً على ذلك أنه "يجب أن تفسر آية آل عمران بذلك ولا يجوز أن يحمل التأويل فيها على المعنى الذي اصطلح عليه
…
" 3.
لقد اعتمد رشيد رضا على شيخ الإسلام تماماً في تحقيقه هذه المسألة وقد نقل عنه نقلاً طويلاً فيها هو كما قال: "هو منتهى التحقيق والعرفان والبيان الذي ليس وراءه بيان" ولكن لم يكن هذا موقف رشيد رضا من المتشابه قبل اطلاعه على كتب ابن تيمية، بل كان له موقف قديم رجع عنه بعد ذلك 4.
1 تفسير المنار (3/ 172)
2 المصدر نفسه (3/ 172ـ 175)
3 المصدر نفسه.
4 انظر: هذا الموقف القديم في مجلة المنار (1/ 772 ـ 773 و2/ 605 ـ 607 و 6/ 252)