الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم
المطلب الأول: حاجة العالم لبعثة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم
…
تمهيد:
ومن المناسب أن يفرد خاتم النبيين وأفضلهم على الإطلاق، ببحث مستقل، وقد سلك رشيد رضا في "نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم" مسلكاً صحيحاً إذ أنه بين أولاً حاجة العالم لهذا النبي صلى الله عليه وسلم ورد شبهة كفاية أديان أهل الكتاب عن رسالته، ثم بين استعداد العالم لهذه الرسالة، ثم بين أدلة صدق هذه النبوة، حتى إنه لا تثبت نبوة نبي قبله ما لم تثبت نبوته بهذه الأدلة. وهو ما أعرضه في المطالب التالية.
المطلب الأول: حاجة العالم لبعثة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم:
بين رشيد رضا ـ تمهيداً لإثبات نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم حاجة العالم لهذه النبوة واستعداده لها. فقال: "كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة، وظلمات من الفتن، وفساد الأخلاق، وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها، فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم مدنيته على أساس من الحكمة، يثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة،
فأظهر له جل ثناؤه الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية، فما كان كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب
…
" 1. ويقول: "بيان حاجة الأمم إلى الإصلاح المحمدي يتوقف على معرفة تاريخ الأمم قبل الإسلام، لا سيما تاريخ أهل الكتاب الذين يدعون أن في كتبهم ما يغني عن هداية الإسلام وإصلاحه
…
" 2. ويستند رشيد رضا إلى عبارة شيخه محمد عبده في وصف هذه الحاجة فيقول: "كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز عروش الملوك وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم
…
وصيحة فصحى تزعج الغافلين
…
وبالجملة تؤب 3 بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الله له: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} 4 ليبلغ بسلوكه كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعد في الدارين له
…
" 5. وفصل رشيد رضا في بيان الحالة التي كانت دول ذلك الزمان قد وصلت إليها من التدني والسقوط.
وأما حاجة أهل هذا العصر لهداية هذه الرسالة ـ فكما يقول ـ: "إن حاجة الأمم قد اشتدت في عصرنا هذا إلى هدايته، حتى أشدها إمعاناً في عداوته ولجاجاً في نكايته، وجهلاً بحقيقته"6.
ويرى رشيد رضا أن هذه البعثة كانت قمة " التطور" للمراحل التي مرت بها البشرية، فالاستعداد لها وقبول دعوتها مرحلة من المراحل التي سارت فيها الإنسانية على سنة الترقي والتدرج، فلما بلغت البشرية "سن الرشد" وهذا الحد من العقل وهبها الله تعالى تلك الهداية الجديدة وأيدها بالدلائل التي بلغ من قوة العقول أن تدركها، وأن تصل من مقدماتها إلى
1 مجلة المنار (6/ 173)
2 المصدر نفسه (5/ 329 ـ 338)
3 تؤب: أب لكذا أي تهيأ له. المفردات (ص: 59)
4 سورة الإنسان، الآية (3)
5 مجلة المنار (5/ 338)
6 الوحي المحمدي (ص: 40 ـ 41)
نتائجها، وقد كانت النبوات السابقة وآياتها تلائم حالاتهم النفسية ومكانتها العقلية، ولما كان الاستعداد يتفاوت في الأمم كانت أمة أولى من أمة بتقدم عهد النبوات فيها، وكانت تلك الأمة المتقدمة جديرة بأن تكون إماماً للأمة المتأخرة، سنة الله في الخلق 1.
وبناءً على ذلك فإن آية هذه البعثة ليست كآيات من سبقه من الأنبياء لأن "الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها، لأن البشر قد بدؤوا يدخلون بها في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع من تصدر منهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون، بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعدادهم العقلي مع هذا الخضوع
…
فجعل حجة خاتم النبيين عين موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وبإعجازه اللفظي والمعنوي، وبأنباء الغيب الماضية والحاضرة والآتية، ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال، هذا الفصل بين النبوات الخاصة الماضية والنبوة العامة الباقية، قد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"ما من الأنبياء نبي إلى وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 2
…
" 3.
وأما الآيات الكونية التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فيثبتها رشيد رضا إلا أن له فيها رأياً سوف نراه قريباً.
ويورد رشيد رضا اعتراضاً على تقريره حاجة العالم لبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ويجيب عليه فيقول: "فإذا قيل: إنه كان في الدنيا دينان سماويان، أي دين اليهود ودين النصارى، وكتابان إلهيان وهما: التوراة والإنجيل، فكان يغني عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلهام الله تعالى رؤساء الدينين وحملة الكتابين أن يقيما
1 تفسير المنار (2/ 294 ـ 295) بتصرف.
2 سبق تخريجه (ص:679)
3 الوحي المحمدي (ص: 79 ـ 80)
أصولهما ويسيرا على صراطهما، ويدعون الناس إلى ذلك. نقول في الجواب: إن دين اليهود كان خاصاً بشعب إسرائيل، وهم المخاطبون بالتوراة دون من سواهم، لعلم الله تعالى أن هذا الكتاب يصلح لهدايتهم وحدهم في زمانهم الذي أنزل فيه وبعده إلى أجل مسمى. وبعد ذلك أفسد بنو إسرائيل في الأرض فسلط الله عليهم الوثنيين فسبوهم وخربوا ديارهم وأحرقوا كتابهم
…
ولولا أن الله أخبرنا في كتابه بأن اليهود نسوا حظاً مما ذكروا به لا جميع ما ذكروا به، ولولا أنه احتج عليهم بعدم العمل بالتوراة والحجة تقوم ببعض كلام الله تعالى كما تقوم به كله ـ لما صدقنا كلمة واحدة من كتبهم ولا وثقنا بحكم واحد من أحكام شريعتهم. وحاصل القول: أن الله تعالى لم يجعل التوراة منذ شرعها هداية عامة مرشدة لجميع البشر إلى كمال الفطرة فكيف تصلح لذلك بعدما طرأ عليها وعلى الناس ما طرأ؟
وأما السيد المسيح عليه السلام فإنه لم يأت بدين جديد وإنما ديانته اليهودية وشريعته التوراة، ولكنه كان مكملاً لأن اليهود جمدوا على ظواهر الشريعة حتى صاروا كالماديين، فأرسله الله "إلى خراف إسرائيل الضالة"
…
وأما "الديانة البولسية" التي انتشرت في أوروبا بتعليم بولس 1 ثم مساعدة قسطنطين ومن بعده من الملوك
…
فهي لا تنطبق على ما قلناه سابقاً في وجه حاجة البشر إلى إرسال الرسل لهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، بتربية الروح والجسد وليس فيها قاعدة واحدة من قواعد الفطرة، وإنما هي عبارة عن شيء واحد، وهو الإيمان بالمسيح على الوجه الذي يقولونه وأنه لا حاجة مع هذا الإيمان إلى العمل بالشريعة
…
" 2.
وإذن لم يكن وجود هذين الدينين كافياً ومغنياً عن بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
1 هو: أحد تلامذة الحواريين، ادعى الإيمان بعد محاربة تلامذة المسيح، وبذل جهوداً كبيرة في تطوير المسيحية، ونجح في ذلك. انظر: شارل حينيبير: المسيحية نشأتها وتطورها (ص:101) وما بعدها ترجمة د. عبد الحليم محمود، ط. المكتبة العصرية بيروت.
2 مجلة المنار (5/ 333 ـ 334)