الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع:
موقف الشيخ رشيد من ابن تيمية ومدرسته
موقف الشيخ رشيد من ابن تيمية ومدرسته
…
المبحث الرابع: موقف الشيخ رشيد من ابن تيمية ومدرسته:
نستطيع أن نقول إن هذا العصر هو عصر "ابن تيمية" إذ كان لشخصيته ودعوته وعقيدته وإصلاحه عودة في هذا العصر ولكتاباته ظهور وانتفاضة، لم تكن لمصلح إسلامي قبله، ولا لمؤلف من المؤلفين القدامى 1. لقد كاد مذهب السلف أن يندرس، إذ لم يكن له وجود إلا في زوايا أهل الحديث من الحنابلة، والذين لم يكونوا ليجهروا به في الناس، لولا أن ظهر في أوائل القرن الثامن الهجري زعيم المجددين شيخ الإسلام ابن تيمية. لقد كان قوياً حتى واجه جميع الفرق والمذاهب القائمة في عصره بحرارة وشجاعة فأعلن مذهب السلف في جرأة وصراحة وكتب به فتوى لم تنشب أن سرت في العالم الإسلامي سير الريح 2. واختصم الناس فيه واختلفوا حوله فهو في نظر فريق شيخ الإسلام وقدوة الأنام، وفي نظر فريق آخر مشبه ومجسم ومنتقص للرسول صلى الله عليه وسلم 3.
لقد شعّ على يدي ابن تيمية نور الوحيين ـ الكتاب والسنة ـ كفلق الصبح، يبدد ظلام التقليد والفلسفة، وينشر صحيح الاعتقاد ومستقيم
1 انظر: أبو الحسن الندوي: ابن تيمية (ص: 60) ط. دار القلم الكويت الرابعة 1407هـ
2 انظر: محمد خليل هراس: ابن تيمية السلفي (ص: 6 و7) ط. دار الكتب العلمية، بيروت الأولى 1404هـ
3 المصدر السابق نفس الصفحة.
الأخلاق. وأصبح ابن تيمية ميزاناً توزن عليه أفكار الرجال طوال القرون السابقة المتطاولة. لأنه أصبح ممثل السلف في العصور المتأخرة، والقنطرة الموصلة إلى مذهبهم، حتى يذكر المترجمون في تراجمهم أن فلاناً كان من المائلين إلى ابن تيمية أو المائلين عنه 1.
ليس لدي أي دليل على أن الشيخ رشيد عرف شيئاً ذا بال عن شيخ الإسلام قبل وصوله إلى مصر، وأول مرة ورد فيها ذكر اسم شيخ الإسلام على لسان الشيخ رشيد كانت في المجلد الثالث من المنار في مناسبة تقريظه لرسالتين من رسائل شيخ الإسلام هما:"الواسطة بين الحق والخلق" و "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"2. فكيف كان الشيخ رشيد يرى شيخ الإسلام؟ في المجلد الرابع من المنار يقول الشيخ رشيد: "ولقد كان الإمام أحمد ابن تيمية في عصره ناصر السنة وخاذل البدعة والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد المجتهدين، وكان جرد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف لا سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله
…
" 3.
ويقول في موضع آخر متحدثاً عن ابن القيم وشيخه: "فقد كان هو وشيخه ـ بل شيخ الإسلام وعلم الأعلام أحمد ابن تيمية ـ أعلم أهل الأرض بالكتاب والسنة. وعندي: أنه لا يستغني أحد يطلب علم الدين عن الاطلاع على كتبهما
…
" 4. ورغم أن الشيخ رشيد لم يطلع على كل ما
1 انظر: الشوكاني: طلب العلم (ص: 14) ط. مكتبة القرآن، القاهرة، ت: عثمان الخشت.
2 انظر: مجلة المنار (3/ 651) وقد سبق أن ذكرت اعتقادي أن الشيخ رشيد عرف شيخ الإسلام بواسطة السفاريني في لوامع الأنوار ورجحت أن كتاب السفاريني وقع في يد الشيخ رشيد مبكراً. هذا ظن ويحتمل أن تكون هذه المناسبة في المجلد الثالث هي البداية، إلا أن كتاب السفاريني كان مفصلاً وشاملاً وقد طبعت هاتان الرسالتان في مطبعة الآداب والمؤيد بمصر. انظر: مجلة المنار (3 / 651)
3 مجلة المنار (4/ 272)
4 المصدر نفسه (6/ 140 ـ 141)
كتبه شيخ الإسلام وابن القيم إلا أنه من خلال ما قرأه واطلع عليه ـ يرى: "أنها من أفضل ما كتب علماء الإسلام هداية وتحقيقاً وانطباقاً على الكتاب والسنة، بل لا نظير لها فيما نعرفه من كتب المسلمين في مجموع مزاياها
…
" 1.
ويبرر لنا الشيخ رشيد حكمه هذا ببيان حيثياته فيقول: " أما كتب شيخ الإسلام في الكلام فتمتاز على كتب جميع المتكلمين ببيان الفصل بين مذاهب الفلاسفة والمتكلمين على اختلاف فرقهم وتحرير دلائلهم وشبههم عليها، وبين مذهب السلف الصالح المأخوذ من نصوص الكتاب والسنة وفهم علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لها
…
ووالله إنه لا يغني عنها ولا عن شيء منها الوقوف على أشهر كتب الأشاعرة وأمثالهم كشروح وحواشي الدوانية والتفتازانية والمواقف والمقاصد فإن أكثر هذه الكتب فلسفية يونانية، ولا يمكن الوصول إلى معرفة عقيدة سلف الأمة الصالح منها
…
" 2.
ومن مميزات كتب شيخ الإسلام كما يشهد به الشيخ رشيد قائلاً: "وأشهد الله بأنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما أحاط به ـ يعني ابن تيمية ـ من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة والمبتدعة
…
والوقوف على أدلتهم وتحقيقها وتحرير الحق الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه
…
" 3.
ويقر الشيخ رشيد على نفسه ـ اعترافاً بالحق ـ فيقول: "فأنا أشهد على نفسي أنني لم يطمئن قلبي لمذهب السلف إلا بقراءة كتبهما
…
" 4، وهذه الشهادة تؤيد ما ذكرته من أن ابن تيمية يعد بحق الطريق أو القنطرة الموصلة لمذهب السلف.
1 المصدر نفسه (23/ 339)
2 مجلة المنار (15/ 555)
3 المصدر نفسه (31/ 122)
4 المصدر نفسه (33/ 680) وكرر ذلك انظر: تفسير المنار (1/252 ـ253)
وقد كان لشيخ الإسلام خصوم وأعداء في القديم والحديث هم دائماً ـ أعداء الاستدلال بالكتاب والسنة وأنصار البدعة 1.
وقد وصل بهم التعصب إلى اتهام الشيخ بالكفر، وقد قام تلامذته رحمه الله ومن كبار علماء عصره ـ بالرد على هذه الافتراءات ـ قديماً 2 ـ وفي الحديث أيضاً.. فقد قام الشيخ رشيد بالدفاع عن شيخ الإسلام في كل مناسبة، فعن مخالفة شيخ الإسلام لجمهور المتكلمين يقول الشيخ رشيد: "ولا يهولنك تخطئة هذا الرجل ـ يعني ابن تيمية ـ لجميع أولئك الأساطين من الفلاسفة والنظار غروراً بشبهة الشيطان أنه لا يعقل أن يكون هو أعلم منهم وأذكى حتى يكون أحق بالصواب وأولى، فالرجل ليس صاحب مذهب مخترع تعارضت أدلته مع أدلة هذه الفرق واشتبه علينا الأمر حتى نرجح بالأدلة العقلية التي انخدع بنظرياتها كل من شذ عنه قليلاً أو كثيراً، وأساس مذهبهم الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله وصحّ عن رسوله على الوجه الذي كان عليه خير الأمة قبل افتتانها بالنظريات التي فرقتها شيعاً
…
" 3.
وبالنسبة للفروع الفقهية يقارن رشيد رضا بين الأئمة الأربعة المشهورين وبين ابن تيمية فيقول: "إنه اطلع على ما لم يطلعوا عليه كلهم من الأخبار والآثار لأنه اطلع على ما رووه وعلى غيره وحفظه وعرف ما قالوه هم وما قاله غيرهم من أقرانهم في أسانيدها ومعانيها، فهو في فتاويه يذكر خلاف الأئمة المجتهدين في المسألة وأدلة كل منهم ويمحص هذه الأدلة فيبين الراجح منها بالدليل، فمن تأمل فتاويه بنظر الإنصاف يرى أن ما رجحه هو الحق في الغالب
…
" 4، ومع ذلك يرى الشيخ رشيد أنه "لا ينبغي لأحد
1 انظر لمزيد التفصيل: صلاح الدين مقبول: دعوة شيخ الإسلام وأثرها في الحركات الإسلامية المعاصرة (ص: 186 ـ 271) ط. مجمع البحوث الإسلامية، نيودلهي، الهند، الأولى 1412هـ.
2 وأشار الشيخ رشيد إلى كتاب "الرد الوافر" ونصح بمطالعته. المجلة (27 / 424)
3 مجلة المنار (22/ 190)
4 المصدر نفسه (28 / 423 ـ 424)
أن يقول إن ابن تيمية أعلم من هؤلاء الأربعة هكذا على الإطلاق
…
" 1.
وأكبر دفاع عن شيخ الإسلام للشيخ رشيد كان بسبب تعدي بعض الرافضة على مذهب السلف وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، فقد أجاب الشيخ رشيد على كل كلمة نسبها الرافضي لشيخ الإسلام 2 وتلامذته لا سيما "الوهابية" أتباع محمد بن عبد الوهاب وهو ما يجب بسطه قليلاً.
موقف الشيخ رشيد من دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب:
تعتبر دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب امتداداً لدعوة ابن تيمية في التمسك بالمنهج السلفي. ولا جرم إذن أن يكال لهذا مثل الذي كيل لسلفه. وأن يدافع عن ابن عبد الوهاب من يدافع عن ابن تيمية.
لم يعرف الشيخ رشيد عن دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" في الشام إلا ما يعرفه عامة الناس آنذاك وما تتناقله الألسن من الكذب والافتراء على دعوة "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" 3، ولم يعرف الشيخ رشيد حقيقة هذه الدعوة إلا بعد قدومه مصر والاطلاع على تاريخ الجبرتي 4. ولقد وصلت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى مصر عن طريق أولاده وأحفاده الذين أتي بهم واليها محمد علي ومعهم علمهم وكتبهم، لقد قدم إلى مصر عدد كبير من أسرة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ودرس بعضهم في الأزهر، وكان طلقاء يمشون بين الناس 5، ولهذا السبب ولأنهم درسوا في الأزهر ودرّسوا وصنفوا انتشرت
1 المصدر نفسه (28/ 424)
2 انظر: مجلة المنار (30 / 47) وما بعدها، فقد نشر الشيخ رشيد ترجمة ابن تيمية كاملة من "الدرر الكامنة" مع التعليق والتنبيه والرد.
3 انظر: رشيد رضا: صيانة الإنسان (المقدمة ص: 7 ـ 8) ط. الثالثة 1378هـ
4 انظر: رشيد رضا: المرجع السابق (ص: 8)
5 انظر: الأمير محمد علي: مصدر سابق (ص: 5 و6) وانظر: البسام: علماء نجد (1/ 177و 178 و185 و204) ط. دار العاصمة، الرياض، الثانية 1419هـ، وابن بشر: عنوان المجد (2/ 20 و84)
هذه الدعوة بمصر وعرفت 1. لقد بقي عبد الرحمن بن حسن تلميذ الجبرتي مدة ثمان سنوات في مصر قبل عودته إلى وطنه، وبقي ابنه "عبد اللطيف" ثلاثين عاماً في الأزهر 2. ومن هذا يتضح أن دعوة الشيخ محمد وصلت لمصر مبكراً، وهناك عرفها الشيخ رشيد على حقيقتها. فماذا عرف عنها؟ يقول الشيخ رشيد: "لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين
…
ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي وإقامة شرائع الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة
…
" 3.
وعن أثر هذه الدعوة في نجد يقول الشيخ رشيد: "وقد كان من حسنات تأثير محمد بن عبد الوهاب المجدد للإسلام في نجد إبطال عبادة الجن وغير الجن منها، ولم يبق فيها إلا أهل تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله
…
" 4. ومن ذلك الحين والشيخ رشيد هو نصير دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مصر 5، وينشر رسائله ويرد على أعدائه 6. ولقد وصلت إلى الشيخ رشيد مؤلفات الشيخ عبد اللطيف بن
1 انظر: صالح العبود: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية (ص: 682) وما بعدها.
2 انظر: البسام: المصدر السابق (ص: 185 و204)
3 صيانة الإنسان: المقدمة (ص: 6 ـ 7)
4 تفسير المنار (8/ 369)
5 انظر: مجلة المنار (29/ 433 و531 و595) وانظر أيضاً (21/ 241 و281)
6 نشر الشيخ رشيد رسالة كسف الشبهات للشيخ محمد. [المجلة (21/ 284) وانظر: (21/ 229) ] ونشر رسائل للشيخ عبد اللطيف (27/ 505 و585) وغير ذلك. وانظر (12/ 389) وألف "الوهابيون والحجاز" لهذا الغرض.
عبد الرحمن بن حسن ونشر بعضها في مناره 1 ويقول عنه وعن كتبه: ".. الذي يظهر أن الشيخ عبد اللطيف كان أوسع علماً بفنون العربية وأصول الفقه ومصطلح الحديث من جده شيخ الإسلام، ولكن جده هو الذي هدى إلى العلم الواسع الدقيق بتوحيد الله تعالى الذي هو أساس الإسلام وقام بالدعوة وهدى الله به الألوف ومئات الألوف إلى دين الله الخالص، وكان أولاده وأحفاده ـ ومنهم عبد اللطيف هذا ـ من بعض حسناته
…
" 2.
وفي حياة الشيخ رشيد قامت الدولة السعودية الثالثة، فكان الشيخ رشيد ـ من قبل قيامها ومن بعده ـ أكبر نصير لها، ونستطيع أن نقول: إن مجلة المنار صارت لسان حال الدولة السعودية الثالثة، ومقالها أيضاً، دفاعاً عنها ودعاية لها وتأييداً لملكها في كل محفل ومناسبة، ونستطيع بسهولة أن ندرك ذلك بمطالعة الأجزاء الأخيرة من مجلة المنار 3، ولقد كان موقف الشيخ رشيد من دعوة الشيخ محمد والدولة السعودية محل دراسة وبحث للعلماء والباحثين 4.
1 انظر: (29/ 531)
2 مجلة المنار (28/ 424) وعبد اللطيف بن عبد الرحمن هو: العلامة القدوة الفهامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة 1225هـ ودرس في الأزهر، وتوفي في الرياض 1293هـ. انظر: البسام مصدر سابق (ص: 202) وما بعدها
3 انظر: مثلاً: (26/ 540، 27/162و 272 وما بعدها، 27/ 555، 28/ 1 و238و465 و 29/ 163 و 167و 185 و223 و432 و 696و 764 و 792، 30/ 111و226و 394و521و 633، 33/ 108و 305)
4 ومنها: محمد عبد الله السلمان: الشيخ رشيد رضا، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. والدكتور صالح العبود: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأثرها في العالم الإسلامي. (ص: 685) وما بعدها