الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الفطرة عند الشيخ رشيد رضا:
الفطرة وإن كانت شيئاً ضرورياً نجده في نفوسنا، يدفعنا لا سيما وقت الشدة واليأس من الأسباب، إلى التوجه إلى القوة العليا التي وإن كنا لا نراها بأعيننا إلا أننا جازمون بوجودها وقدرتها على مساعدتنا.
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} 1. حتى أولئك الذين ضلوا طريق الحق وانحرف بهم السبيل، وزاغت قلوبهم وخفت عقولهم، كانت تدفعهم فطرهم إلى التوجه إلى الإله الحق عندما يمسهم الضر ويعوزهم المنقذ، وقد يئسوا من الأسباب.. {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 2، وذلك وكما يقول الشيخ رشيد:"لأن الفزع إليه سبحانه عند شدة الضيق واليأس من الأسباب مركوز في فطرة البشر"3.
ومع ذلك كله، فإننا بحاجة للوقوف على معناها لغة وشرعاً لنتصورها تمام التصور، فيتيسر لنا الحكم عليها.
معنى الفطرة لغة:
قال الراغب: "أصل الفَطْر الشق طولاً، يقال: فَطَرَ فلان كذا فطْراً، وأفْطَرَ هو فُطُوراً، وانفَطَرَ انفِطاراً، قال تعالى {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} 4 أي: اختلال ووهي فيه،.. وفطَرْت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، ومنه الفِطْرة، وفَطْر الله الخلقَ، وهو إيجاده الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال، فقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
1 سورة الإسراء، الآية (67)
2 سورة الأنعام، الآية (63 و64)
3 تفسير المنار (7/ 409)
4 سورة الملك، الآية (3)
عَلَيْهَا} 1 إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي: أبدع وركز في الناس حق معرفته تعالى.. وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2 وقال: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} 3 {وَالَّذِي فَطَرَنَا} 4 أي: أبدعنا وأوجدنا.. وقيل للكمأة فُطْرٌ، من حيث أنها تُفطِرُ الأرضَ فتخرج منها" 5.
وقال الرازي 6: "الفِطْرَة هي الخِلْقة"7.
وقال الجرجاني: "والفِطْرَة الجِبِلَّة المتهيئة لقبول الدين"8. وقال الضحاك "وكل شيء في القرآن الكريم: فاطر السماوات والأرض فهو خالق السموات والأرض" 9.
معنى الفطرة شرعاً:
وأشار الشيخ رشيد إلى أنها وردت كذلك في السنة المطهرة "كما في حديث الصحيحين وغيرهما الناطق بأن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه 10 وفي بعض رواياته: يولد على فطرة الإسلام 11،وفي بعضها: على الملة 12، ومنها حديث عياض بن حمار
1 سورة الروم، الآية (30)
2 سورة فاطر، الآية (1)
3 سورة الأنبياء، الآية (56)
4 سورة طه، الآية (72)
5 مفردات القرآن الكريم، للراغب (ص: 640) ط. دار القلم، بيروت.
6 هو محمد بن أبي بكر الرازي، ت: 660هـ انظر: الزركلي الأعلام (6/55)
7 مختار الصحاح (ص: 212) ط. مكتبة لبنان، بيروت.
8 التعريفات (ص: 147) ط. الحلبي، مصر.
9 ابن كثير: التفسير (3/ 524) ط. دار الحديث، مصر.
10 البخاري: الصحيح: ك: الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات.. ح: 1358 ـ1359 ـ مع الفتح ـ، ومسلم: الصحيح: ح: 2658 (ج: 4/ 2047) ت: عبد الباقي.
11 لم أجده مرفوعاً، وانظر: البخاري: المصدر السابق: ك: الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات (3/ 260) مع الفتح، ومسلم: الصحيح، ك: القدر ح: (22) وما بعده
12 مسلم: الصحيح: ك: القدر، ح: 23 (2658) ج:4 /2048 ط. عبد الباقي.
المجاشعي المرفوع عند محمد بن إسحاق الذي ذكر فيه آدم فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالاً لا حرام فيه، فجعلوا ما أعطاهم الله حراماً وحلالاً" 1 وفي معناه آثار" 2.
فاختلف السلف رحمهم الله في التعبير عن معنى الفطرة في ذلك، وهذا الاختلاف في الحقيقة يرجع إلى تنوع التعبير، فهو اختلاف تنوع لا تضاد، ولا تعارض بين ما ذهب إليه كل واحد منهم.
فعن أحمد: أنه الدين أو الإسلام، وهو المعروف عند عامة السلف 3.
وقيل: هي الخلقة على معرفة الله تعالى والإيمان به 4.
وقيل: هي ما خلقهم عليه من السعادة والشقاء 5.
وقيل: هي الميثاق الذي أخذ عليهم في عالم الذر 6.
قال شيخ الإسلام، نافياً التعارض بين هذه الأقوال:"..وأما قول من يقول: ولدوا على فطرة الإسلام، أو على الإقرار بالصانع، وإن لم يكن ذلك وحده إيماناً، أو على المعرفة الأولى يوم أخذ عليهم الميثاق، فهذه الثلاثة لا منافاة بينها، بل يحصل بها المقصود.."7.
وعن القول الرابع، وكان يقول به أحمد ثم تركه، وهو ظاهر مذهب مالك، يقول شيخ الإسلام مفسراً له: "أئمة السنة مقصودهم من ذلك أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر
…
وليس إذا
1 مسلم: الصحيح: ك: الجنة، ح: 63و64 (4/ 2197) وليس في طرقه ابن إسحاق.
2 تفسير المنار (7/ 608)
3 ابن عبد البر: التمهيد (18/ 72)، والبخاري: الصحيح: ك: التفسير، باب: لا نبديل لخلق الله (8/372) مع الفتح.
4 ابن عبد البر: التمهيد (18/ 68)
5 المصدر نفسه (18/ 78)
6 المصدر السابق (18/ 90)
7 درء التعارض (8/ 454)
كان الله قد كتبه كافراً يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير" 1.
تعريف الشيخ رشيد للفطرة:
ولقد عرّف الشيخ رشيد الفطرة لغة وشرعاً، في عدة أماكن من المجلة والتفسير وغيرهما من مؤلفاته.
فمن التعريف اللغوي لها؛ قوله عند تفسير قوله تعالى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 2: "..المراد بخلق الله دينه لأنه دين الفطرة وهي الخلقة، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 3 4.
وأيضاً فسرها بالصبغة، فعند قوله تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ} 5 قال: "أي: صبغتنا بما ذكر من ملة إبراهيم، صبغة الله وفطرته فطرنا عليها، وهي ما صبغ به أنبياءه ورسله والمؤمنين من عباده على سنة الفطرة"6.
وعند قوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} 7 قال: "إلا على الذي خلقني على الفطرة السليمة من هذه البدع الوثنية التي ابتدعها قوم نوح"8.
وقال: "فطر السماوات والأرض: أي ابتدأ خلقها"9.
1 المصدر السابق (8/ 389)
2 سورة النساء، الآية (119)
3 سورة الروم، الآية (30)
4 تفسير المنار (5/ 428) وقارن مع البخاري: الصحيح، ك: التفسير، باب: لا تبديل لخلق الله (8/ 372) مع الفتح.
5 سورة البقرة، الآية (138)
6 تفسير المنار (1/ 486)
7 سورة هود، الآية:(52)
8 تفسير المنار (12/ 115)
9 المصدر السابق (7/ 563)
وفسرها أيضاً بالجبلة: فقال: "وفطرة الله التي فطر الناس عليها هي الجبلة الإنسانية.."1.
ومن ذلك يتبين لنا أن هذه الكلمات: فطرة الله وصبغة الله، وخلقة الله، والجبلة، كلها بمعنى واحد، وهي معنى الفطرة اللغوي.
وأما تعريفه الشرعي لها، فيذهب الشيخ رشيد إلى تفسير الفطرة في قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} وفي الأحاديث الواردة فيها، كحديث "كل مولود يولد على الفطرة
…
" الحديث 2، بأنها الفطرة على المعرفة بالله تعالى وتوحيده، فقال بعد أن ذكر الآية والحديث بألفاظ مختلفة: "..إن الله تعالى فطر آدم عل معرفته وتوحيده وشكره وعبادته.." 3.
ويقرر في موضع آخر أن التوحيد هو "مقتضى الفطرة" 4 " ويمكن استنباطه بالفطرة" 5 وكما أن الله تعالى خلق آدم على هذه المعرفة، فقد خلق بنيه كذلك، فيقول الشيخ رحمه الله:"خَلْقُ بني آدم مستعدين لمعرفة الله تعالى وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنه ربهم، وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم، وما مُنِحُوه من العقل والفكر.."6.
ونلاحظ من هذا النص ربط الشيخ رشيد بين الفطرة والميثاق الأول، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ مزيد بيان لهذا الربط.
ونفهم من نصوص أخرى للشيخ رشيد، أنه يفسر الفطرة بمعنى الدين والإسلام، ولكنه دين وإسلام فطري مطلق، ويفرق بينه وبين الدين التعليمي الذي مصدره الوحي.
1 الوحي المحمدي (ص: 238)
2 سبق تخريجه.
3 تفسير المنار (7/ 608)
4 المصدر السابق (9/ 560)
5 المصدر نفسه (8/273)
6 المصدر السابق (9/ 574)
أما تفسيره للفطرة بأنها الدين، وأن تغييرها هو تغيير الدين فأخذته من قوله:"وتغيير خلق الله وسوء التصرف فيه عام يشمل التغيير الحسي كالخصاء، ويشمل التغيير المعنوي، وقد روي عن ابن عباس وغيره أن المراد بخلق الله دينه، لأنه دين الفطرة، وهي الخلقة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 1".
وأيضاً يفهم ذلك من قوله تعليقاً على قول شيخه "محمد عبده":"تغيير الفطرة الإنسانية بتحويل النفس عما فطرت عليهمن الميل إلى النظر والاستدلال وطلب الحق وتربيتها على الأباطيل والرذائل والمنكرات، فالله سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وهؤلاء يفسدون ما خلق الله ويطمسون عقول الناس"
" أقول: إن هذا القول هو بمعنى القول بأن المراد تغيير الدين لأن من قالوا: إنه تغيير الدين استدلوا بآية: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} كما ذكرنا آنفاً.."2. فالفطرة هي الدين عند الشيخ رشيد، وتحويلها وتغييرها هو تغيير للدين.
وأما تعريف الشيخ محمد عبده للفطرة وتغييرها فسنرجع له بعد قليل.
وأما تفسير الشيخ رشيد للفطرة بأنها الإسلام فيؤخذ من قوله عند تفسيره قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3، قال:"أي بمقتضى الفطرة"4.
وعند قوله تعالى: " {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 5، فقد فسر الشيخ محمد عبده إسلام الكره بأنه إسلام الفطرة
1 تفسير المنار (5/428)
2 المصدر السابق (5/429)
3 سورة آل عمران: الآية (80)
4 المصدر السابق (3/ 394)
5 سورة آل عمران: الآية (83)
فأريد هنا أن أنبه على أمرين: أحدهما: مسألة فطرية الاستدلال، فإن الشيخ محمد عبده، شارح العقائد العضدية، إن كان يريد بالاستدلال نظم الأدلة المنطقية على طريقة المتكلمين، فيقال له: إن هذا ليس فطرياً، بل لا يحسنه إلا من يحسن الجدل، وما هو إلا بالتعلم.
وإن كان يريد به:"نفس طلب العلم بالدليل والنظر فيما يدل على الشيء، فهذا مركوز في فطرة جميع الناس، فإنه ما منهم أحد إلا وعنده من نوع النظر والاستدلال، بل ومن نوع الجدال، بحسب ما هداه الله إليه من ذلك"1.
والذي يرجح عندي أنه إنما يقصد النظر والاستدلال بالمعنى الثاني، أي الفطري، قوله:"إن لم يكن ظاهر البداهة" فإن المتكلمين إنما يستدلون على ما هو ظاهر بالبداهة كحدوث الإنسان والعالم.
وأما الأمر الثاني: فهو أن الاستدلال على النحو الذي فصل قبل، هو دين الفطرة، ولا ريب، إلا أنه ليس هو الفطرة كلها، وكما نقلنا عن السلف والخلف قبل قليل، أن الفطرة التي أشارت إليها آية سورة الروم، وحديث الصحيحين وغيرهما هي الدين أو الإسلام أو المعرفة بالله تعالى والإيمان به.
وكما أن للفطرة سنناً أخرى جبل عليها الإنسان، وما إليها بفطرته وطبعه، فالإنسان " مدني بالطبع، ومتدين بالطبع، وبالفطرة كما يقول الإسلام"2.
تفسير آخر للفطرة عند الشيخ رشيد:
وإن كنا قد رأينا الشيخ رشيد قد وافق السلف في تفسير الفطرة الشرعي، إلا أنه كان له رأي قديم، وقد عاد إليه وذكره، وقال إنه لا يخالف ما ذهب إليه في الجديد، إلا أنني رأيت من واجبي أن أقف قليلاً
1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (7439)
2 رشيد رضا: الوحي المحمدي (ص:21)
عند هذا الرأي لأنه يحتاج إلى تفصيل وتوضيح. قال الشيخ رشيد رحمه الله:
"وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق والباطل، ورواية مسلم هكذا: "كل مولود تلده أمه على الفطرة فأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فإن كانا مسلمين فمسلم" وهو الذي جرينا عليه في كتابنا الحكمة الشرعية ولا تنافي.."1.
والذي أريد أن أقوله: إن ظاهر كلام الشيخ يد ل على أن الناس خلقوا مستعدين للأمرين دون ميل إلى أحدهما، فإذا كان الخير وهو معرفة الله تعالى وما يتبعها، والشر هو إنكار ذلك وما يتبعه من الكفر كان الناس مخلوقين خالين من هذين، كالصفحة البيضاء التي تقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وحينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والتمجيس والإسلام، وهذا يقتضي أنها ـ أي الفطرة ـ لا تذم ولا تمدح، وهذا القول غير صحيح، فالآية تشعر بمدح هذه الفطرة، والأمر بلزومها، فلا بد أن يكون في هذه الفطرة الممدوحة ميل إلى الحق والمعرفة بالله ومحبته وعبادته، لولا المعارض المانع من ذلك، وإلا لما استحقت المدح والأمر بلزومها.
"وأما إذا كان المراد بهذا القول أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر، ولكن بما عرض من الفساد خرجت عن هذه الفطرة، فهذا القول قد يقال: إنه لا يرد عليه ما يرد على ما قبله، فإن صاحبه يقول: في الفطرة قوة يميل بها إلى المعرفة والإيمان.."2.
ويتضح من هذا النقل أن الفطرة لا بد أن تكون ميلاً إلى الحق والمعرفة حتى تكون ممدوحة، مأموراً بلزومها، وإلا لو كانت مستوية الأجزاء لامتنع مدحها لاستواء نسبتها حينئذ إلى ما استعدت إليه دون ميل منها إلى أحد أفراده. ومهما يكن من شيء فإن التعريف الصحيح هو ما
1 مجلة المنار (8/ 21) وانظر: أيضاً التفسير (9/ 574) وانظر: مسلم: الصحيح، ك: القدر، ح: 25 (2658)(4/2048)
2 ابن تيمية: درء التعارض (8/ 445) .
ذهب إليه الشيخ رشيد بوضوح، لا سيما في آخر مؤلفاته ـ الوحي المحمدي ـ بأنها الدين.
مفسدات الفطرة:
إذا كان التوحيد هو من مقتضى الفطرة، كما أن من مقتضاها الميل إلى النظر والاستدلال، وطلب الحق بالدليل، فإن الشيخ رشيد يعتبر الشرك والتقليد من أكبر المفسدات لهذه الفطرة، فيقول:
"ومن أصول الدين وأسسه الفطرية العبودية للسلطة الغيبية التي تنتهي إليها الأسباب وتقف دون اكننناه حقيقتها العقول، أي لمصدر هذه السلطة والتصرف في الكائنات كلها ـ وهو الله عزوجل ـ وكأن أكبر وأشد مفسدات الفطرة حصر تلك السلطة العليا في بعض المخلوقات التي يستكبرها الإنسان ويعيا في فهم حقيقتها بادئ الرأي،.. وهذا هو أصل الشرك.. ويتلو هذا الفساد والإفساد: التقليد الذي يمده ويؤيده ويحول بينه وبين العقول التي كمل الله بها فطرة البشر وبين عملها الذي خلقت لأجله وهو النظر والاستدلال لأجل التوصل إلى معرفة الحق والخير.."1.
والحق أن المشركين الذين فسدت فطرتهم إنما استندوا إلى التقليد في قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2.
ويرى الشيخ رشيد أن هذا الفساد الذي يعرض للفطرة فيغيرها ويبدلها، من الممكن أن يعالج، وتعود الفطرة لسلامتها واستقامتها، وذلك باتباع دين الإسلام الذي هو دين الفطرة. 3.
الفرق بين الدين الفطري والدين التشريعي:
وإذا قيل الدين الفطري، وأن الإنسان يولد على الفطرة، فليس معناه أن الإنسان يولد عالماً بالشريعة، فإن هذا مما ينافيالفهم الصحيح
1 تفسير المنار (5/ 429)
2 سورة الأحزاب: الآية (23)
3 الوحي المحمدي (ص:241)
لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} 1.
فيفرق الشيخ رشيد بين الدين الفطري والدين التعليمي الذي مصدره الوحي.
"فالدين الفطري هو خلق الله وآثار قدرته، وليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل عليهم السلام فإن هذه الأحكام من كلام الله الذي أوحاه إليهم ليبلغوه وليبينوه للناس، لا مما خلقه في أنفس الناس وفطرهم عليه.."2.
ويسميه أيضاً الدين المطلق ويشرحه قائلاً: "والدين المطلق الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق الكون، والسنن والأسباب التي قام بها نظام كل شيء في العالم، فربُّ هذا السلطان هو فاطر السموات والأرض وما فيهما، والمصدر الذاتي للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطري، وطلب العرفان الغيبي المودعين في الغريزة.."3.
ونقف هنا عند قول الشيخ:"المصدر الذاتي للنفع الضر المحركين لشعور التعبد الفطري" ففيه إشارة هامة إلى أن اعتقاد النفع والضر هو المحرك للعبادة، ويجب أن نكون على ذكر منه لأننا سنرجع إليه عند الكلام عل الشرك في العبادة لا سيما الدعاء، وسنرجع أيضاً بعد قليل إلى التعبد الفطري والعبادة الفطرية، ونرى شرح الشيخ رشيد لها، وقبل ذلك نقف على العلاقة بين الدين الفطري والدين التعليمي. (أو الشرعي)
العلاقة بين الدين الفطري والدين الشرعي:
ويقابل هذا الدين الفطري الدين التعليمي أو التشريعي، ويعرفه الشيخ رشيد بأنه "وضع إلهي يوحيه الله إلى رسله لئلا يضل عباده بضعف اجتهادهم واختلافهم في العمل بمقتضى غريزة الدين.."4.
1 سورة النحل: الآية (78)
2 تفسير المنار (5/ 429)
3 الوحي المحمدي (ص:23)
4 المصدر نفسه (ص: 240ـ 241)
وعن العلاقة بينهما يقول الشيخ رشيد إن الدين التعليمي: "شرع لتكميل استعداد البشر للرقي في العلم والحكمة ومعرفة الله عزوجل المعدة إياهم لسعادة الآخرة، فليس فيه شيء يصادمها، فهذا الدين التعليمي حاجة من حاجّ الفطرة البشرية لا يتم كمالها بدونه، فهو لنوع الإنسان كالعقل لأفراده.."1. ويقول:
" إن الدين الفطري هو الأصل الذي بني عليه الدين التشريعي 2. فالإسلام ـ مثلاً ـ ومثله كل دين ورسول أرسله الله تعالى قد "شرع لمساعدة العقل على حفظ مواهب الله تعالى في الفطرة ومنع الهوى من إفسادها وصدها عن الوصول إلى كمالها، ولذلك سمي دين الفطرة.."3.
ثم يشرح لنا هذا المعنى ـ كون الإسلام دين الفطرة ـ قائلاً: "..هو أنه موافق لسنن الله تعالى في الخلقة الإنسانية لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية حقوقها ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها.."4.
وإن كان هذا هو شأن الإسلام، ومثله كل دين صحيح أنزله الله، فإن الأديان المحرفة المطورة "المجددة" تبدو ـ بعد التحريف ـ وكأنها شرعت لتقاوم الفطرة الإنسانية، وتسير في اتجاه معاكس لخلقة الله تعالى، لذلك فإنها قد وجدت ردّ فعل يناسب هذا الاتجاه، وهو انصراف أصحابها عنها لا سيما ذوي العقول العصرية منهم.
لقد بدل الإسلام الاعتقاد السائد بأن الأديان شرعت "لمقاومة مقتضى الخلقة وأن أصوله فوق قضايا العقول وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها نعيم الدنيا، وأنه لا حق لصاحب الدين في طلب الدليل.. أما القرآن فقد أتى على مثل هذه القواعد التقليدية فنسفها نسفاً وبين للناس أن الدين مع الفطرة في قرن، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة،
1 المصدر نفسه.
2 المصدر نفسه.
3 تفسير المنار (8/ 253)
4 مجلة المنار (8/ 18ـ 21)
وضعفه هو ضعف الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة.." 1.
وكذلك فإن معنى ولادة كل مولود عل الفطرة " أنه يولد مستعداً للارتقاء بالإسلام الذي يسير به على سنن فطرته التي خلقه الله عليها.. وإن كان له أبوان
…
على غير ملة الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة.."2، ويعنى أنهما يفسدان فطرته الاستعدادية بتلقينه ديناً محرفاً منسوخاً بدلاً من إكمالها"3.
العبادة الفطرية:
وإذا كان الدين التعليمي التشريعي يشتمل على عبادات تشريعية الوضع، فهل يشمل الدين الفطري على عبادة فطرية كذلك؟ وما هي العبادة الفطرية؟
ويجيب الشيخ رشيد عن هذين السؤالين بالإثبات، فيرى أن الدين الفطري الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق الكون.. يشتمل على عبادة فطرية هي:"التوجه الوجداني إلى هذا الرب الغيبي في كل ما يعجز الإنسان عنه من نفع يحتاج إليه، ويعجز عنه بكسبه ودفع ضر يمسه، أو يخافه، ويرى أنه يعجز عن دفعه بحوله وقوته، وفي كل ما تشعر فطرته باستعداده لمعرفته، والوصول إليه مما لا نهاية له.. وإنما روح العبادة الفطرية ومخها هو دعاء ذي السلطان العلوي، والقدرة الغيبية التي هي فوق ما يعرفه الإنسان ويعقله في عالم الأسباب، ولا سيما الدعاء عند العجز وفي الشدائد، قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" 4 هكذا بصيغة الحصر، أي هو الركن المعنوي الأعظم منها.."5.
1 المصدر نفسه، نفس الموضع.
2 المصدر السابق: نفسه. وقارن مع: ابن تيمية: درء التعارض (8/ 461)
3 الوحي المحمدي (ص:241)
4 الترمذي: السنن: ك: التفسير، ح: 2969 وقال: هذا حديث حسن صحيح (5/ 211) وابن ماجه، ك: الدعاء، باب1، ح: رقم: 3828، (2/ 1258) وقال الألباني: صحيح.
5 الوحي المحمدي (ص:239ـ 240) .
ولذلك ـ وكما يقول الشيخ رشيد ـ: "فقد ذكر الدعاء في القرآن أكثر من سبعين مرة، بل زهاء سبعين بعد سبعين مرة، لأنه روح العبادة ومخها، بل هو العبادة التي هي دين الفطرة كله، وما عداه من العبادات فوضعي تشريعي من تعليم الوحي، فهو يغذيها وينقيها من شوائب الآراء وينفي عنها تقاليد الأهواء.."1.
فوظيفة العبادة التشريعية هي ما ذكر الشيخ رشيد، من تقوية الشعور الفطري، وتنقية العبادة الفطرية مما قد يشوبها من الآراء والتوجهات الفاسدة المفسدة لها، بسبب الجهل أو التقليد الأعمى.
ونلاحظ في تعريف الشيخ رشيد للدين المطلق أو الفطري، أنه يفسر لنا سبب هذا التوجه الفطري بالدعاء إلى فاطر السماوات والأرض، بأنه الاعتقاد بأنه المصدر الذاتي للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطري، وهو الدعاء 2.
وهي ملاحظة هامة، سنرجع إليها إن شاء الله تعالى عند الكلام على مباحث الألوهية.
ويؤيد ما ذهب إليه الشيخ رشيد من تقرير هذه العبادة الفطرية، ما ذكره الله تعالى في كتابه عن الناس عامة وعن المشركين أيضاً، من أنهم يلجأون إليه عند يأسهم من الأسباب، وقربهم من الهلاك 3.
الفطرة والميثاق:
ويربط الشيخ رشيد بين الفطرة والعهد الإلهي، أو الميثاق الأول، الذي أخذه الله تعالى على بني آدم، بربوبيته تعالى لهم، وإقرارهم بذلك.
فعند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ..} 4 قال:
1 الوحي المحمدي (ص: 171)
2 راجع (ص:445) من هذا البحث.
3 انظر مثلاً: سورة الإسراء، الآية (67)
4 سورة البقرة، الآية (27)
"..هذا هو القسم الأول من العهد الإلهي، وهو العام الشامل، والأساس للقسم الثاني المكمل الذي هو الدين، فالعهد فِطري خَلقي، وديني شرعي، فالمشركون نقضوا الأول؛ وأهل الكتاب الذين لم يقوموا بحقه نقضوا الأول والثاني جميعاً.. والله تعالى وثق العهد الفطري بجعل العقول بعد الرشد قابلة لإدراك السنن الإلهية في الخلق، ووثق العهد الديني بما أيد به الأنبياء من الآيات البينات.. وقد وثق العهد الأول بالعهد الثاني أيضاً.."1.
وقد فسر الشيخ رشيد هذا العهد الفطري على البشر بقوله: "فعهد الله هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والاعتبار والتجربة والاختبار أو العقل والحواس
…
ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالاً صحيحاً.." 2.
فعهد الله هو العقل والحواس السليمة التي وهبها الله تعالى للناس ليفهموا بها سننه في الخلق والكون فيهتدوا بسببها، إلى الإيمان، وليس قولاً ورداً وقبولاً.
ويتضح لنا ذلك الرأي أكثر، عند تفسير آية سورة الأعراف الآتية، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 3،
قال الشيخ رشيد: "هذه الآيات سياق جديد في شؤون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرهم وركب في عقولهم من الاستعداد للإيمان به وتوحيده وشكره.."4.
ويشرح الشيخ رشيد هذا الميثاق الفطري فيقول: "والمعنى: واذكر أيها
1 تفسير المنار (1/ 242)
2 المصدر نفسه (1/ 242)
3 سورة الأعراف، الآيات (172، 173)
4 تفسير المنار (9/ 386)
الرسول.. ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطناً بعد بطن، فخلقهم على فطرة الإسلام، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وأن فوق العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات، والعلل والمعلولات سلطاناً أعلى على جميع الكائنات، هو الأول والآخر، وهو المستحق للعبادة وحده.." 1.
ويبدو واضحاً أن الشيخ يرى أن هذا الميثاق كان إرادة كونية وخِلقة طبيعية، خلق عليها الناس، وفطروا على إقرارها، كقانون السببية، الذي هو أساس الاعتقاد البشري الفطري بوجود الخالق.
وليس هذا الميثاق والحوار والسؤال والجواب وحياً قولياً، ولا كان الجواب بلسان المقال، بل بلسان الحال، ويصرح الشيخ بذلك قائلاً:"أي: أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسلة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلاً قول إرادة وتكوين، لا قول وحي وتلقين، ألست بربكم؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال، لا بلسان المقال: بلى أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا"2.
وبهذا يميل الشيخ رشيد إلى أحد القولين في تفسير هذا الميثاق، وهو الرأي القائل، بأن استخراج الذرية، هو خلقه تعالى لها جيلاً بعد جيل، على ترتيبهم في الوجود، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، ودلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد، فتكون هذه الآية من باب التمثيل 3.
1 المصدر نفسه (9/ 387)
2 المصدر نفسه (9/ 387)
3 انظر: أبو السعود: إرشاد العقل السليم (3/ 290)، وصديق حسن خان: فتح البيان (3/ 452)، وناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن (3/ 56)، ومحمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان (2/300)، النسفي: مدارك التأويل (2/ 85) ط. دار إحياء الكتب العربية، مصر.
وأما الرأي الثاني، وهو المؤيد بالأحاديث المرفوعة والموقوفة فهو:"أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق.."1.
وهذا الرأي الذي مال إليه الشيخ رشيد قائلاً: "هذا ما يتبادر فهمه من الآيات لذاتها.." 2 قد قال به من قبله بعض السلف، ومن القائلين به: شيخ الإسلام ابن تيمية 3 وابن القيم 4.
والعلة من هذا الإشهاد عند الشيخ رشيد ـ ومعه أصحاب هذا الرأي ـ "..أي: فعلنا هذا منعاً لاعتذاركم أو احتجاجكم يوم القيامة بأن تقولوا إذا أنتم أشركتم: إنا كنا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده
…
والمراد أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل، بعدما أقام عليهم من حج الفطرة والعقل" 5.
ولقد ذكر الشيخ رشيد الرأي الثاني، وأشار إلى أن الأحاديث التي تؤيده موقوفة، وأنها "كانت موضوع بحث ومناقشة بين علماء المعقول والمنقول.."6.
ومن واجبي الآن أن أبين للقراء، أن الرأي الثاني هو الصواب، وهو
1 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (8/ 482) ، وحاشية محمد رشاد سالم (8/ 482) و483) ، وانظر: أحمد شاكر: المسند (4/ 151) بالحاشية. وانظر: الطبري: جامع البيان (13/ 222) ت: محمود وأحمد شاكر، وصديق حسن خان: المصدر السابق، وأبو السعود: المصدر السابق، والجمل: الفتوحات الإلهية (2/ 207)،والنسفي: المصدر السابق، ومحمد الأمين الشنقيطي: المصدر السابق.
2 تفسير المنار (9/ 388)
3 درء التعارض (8/ 482 ـ 485)
4 الروح (ص: 250 ـ 265)
5 تفسير المنار (9/ 387 ـ 388)
6 المصدر السابق، وانظر: مصادر حاشية رقم (2) في الصفحة السابقة.
الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتؤيده الأحاديث الصحيحة، المرفوعة والموقوفة، ومنها وأصرحها حديث ابن عباس 1 وقد صح مرفوعاً، فوجب المصير إليه وطرح ما سواه.
ومما يؤيد المرفوع الآثار الموقوفة 2 وعدم بيان الميثاق في بعض الأحاديث ليس مستلزماً لعدمه، وعليه فإن قوله تعالى {أَنْ تَقُولُوا} مسقط لعذر الغفلة والنسيان، لأنه متعلق بفعل مضمر يقتضيه الكلام، والمعنى: فعلنا ما فعلنا من الأمر بذكر الميثاق وبيان كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا عن ذلك الميثاق غافلين لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه 3، وأما سبب نسيانه، فلأن "تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها بمرور الزمان عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات.."4.
وقد روي عن بعض السلف، أنه كان يذكر ذلك العهد والميثاق 5.
استدلال الشيخ رشيد بالفطرة:
واستدل الشيخ رشيد ـ بعد تعريفه للفطرة، وتفسيره لها، بالفطرة، على وجود الله تعالى ومعرفته، واعتبرها دليلاً أصيلاً يحال عليها في هذه المسألة، وأجاب عن الاعتراضات الواردة على هذا الدليل.
فاستدل أولاً لها من الكتاب العزيز؛ فقال: "..ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ
1 انظر: تعليق أحمد شاكر على الطبري (13/ 222) حاشية، وتعليقه على المسند (1/ 151) حاشية
2 انظر هذه الآثار عند الطبري: جامع البيان (13/ 222 ـ 250) وتعليق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله عليها.
3 أبو السعود: المصدر السابق (3/ 291)
4 انظر: الجمل: الفتوحات الإلهية (2/ 209) .
5 الجمل: المصدر نفسه، وصديق حسن خان: فتح البيان (3/ 457)
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ..} 1 فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} بقولهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} يدل على أنهم لميكونوا شاكين في وجود الله تعالى وإنما شكهم في النبوات.." 2.
ويستدل الشيخ أيضاً بالاستقراء التاريخي، "فإنه لم توجد أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم"3.
وبناءً على ذلك "فقد ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا حاجة بهم إلى الاستدلال عليها، لولا ما أحدثته اصطلاحات العلوم والفنون من البحث في الضروريات والبدهيات"4.
فإذا قيل: إذا كان الدين ومعرفة الله تعالى ضرورية فطرية، فكيف وجد من الناس من أنكر وجود الخالق، فلو كان هذا الاعتقاد فطرياً ضرورياً في البشر لما وجد من ينكره، ويجيب الشيخ قائلاً:
"والجواب الصحيح: أن هؤلاء الشّذاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام"5. ".. ويحال شذوذهم على مرض عرض لهذا الشعور الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها" 6.
وإذا كان الإيمان بالله تعالى فطرياً، فالدين حاجة من حاجات البشر الضرورية، وأما الإلحاد والتعطيل فهو "نقص في الفطرة والخلقة، أليس يولد
1 سورة إبراهيم، الآيات (9ـ 10)
2 مجلة المنار (2/ 523)
3 المصدر نفسه.
4 مجلة المنار (7/138)
5 المصدر نفسه (2/523)
6 المصدر نفسه (7/138)