الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذلك يتخذ رشيد رضا موقفاً متشدداً في هذه المسألة، فيرى ـ وينقله عن الشافعي ـ أن رؤية الجن خاصة بالأنبياء، ويريد بذلك أن يقطع حجة الدجالين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل بولايتهم للشياطين، وولاية الشياطين لهم، "وقد خوفوا الناس منهم حتى أوقعوا الرعب في قلوبهم، وأوقعوهم في ضلالات كثيرة"1.
والحق أن رؤية الناس الجن وكلامهم إياهم ثابت لا يدفع، وهذا يكون للصالحين على سبيل الكرامة، ولغير الصالحين، كما يقع لبعض السحرة وتسخيرهم لهم في الشرور وغيرها 2. والفرق بين هؤلاء وهؤلاء بيّن والحمد لله، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ـ بيان الفرق بين كرامات الأولياء وخوارق الأشقياء.
1 المصدر نفسه (8/368ـ 369) ولم أجد هذا الكلام المنسوب للشافعي في مناقب البيهقي، ط. دار التراثن مصر، الأولى، 1391هـ، ت: السيد صقر.
2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/232 و 19/ 41ـ 42) وبدر الدين الشبلي: آكام المرجان (ص:15) وانظر: عبد الكريم نوفان: عالم الجن في الكتاب والسنة (ص:19)
المطلب الثالث: دخول الجن في جسم الإنسان:
وردت إشارة واحدة في القرآن الكريم تشير إلى تأثير الجن في الإنسان، هي قوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 3، أي لا يقومون إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له" 4.
ووردت في السنة عدة أحاديث تثبت صرع الجن للإنس وغلبتهم على عقله، وورد فيها معالجته صلى الله عليه وسلم للمصروعين، منها:
حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق عن أم أبان بنت الوازع عن أبيها
3 سورة البقرة: الآية (275)
4 ابن كثير: التفسير (1/308)
أن جدها الوازع 1 انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق معه بابن له مجنون أو ابن أخت له، قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قلت يا رسول الله إن معي ابن لي، أو ابن أخت لي مجنون آتيك به فتدعوا الله عزوجل له، قال له:"ائتني به". فانطلقت إليه وهو في الركاب فأطلقت عنه، وألقيت عليه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ادنه مني، واجعل ظهره مما يليني، قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض أبطيه ويقول: أخرج عدو الله، أخرج عدو الله، فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس نظره الأول، ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم يبن يديه فدعا له فمسح وجهه"، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه" 2.
ومنها حديث ابن عباس "أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن به لمماً، وإنه يأخذه عند طعامنا فيفسد علينا طعامنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، فثع 3 ثعة فخرج من فيه مثل الجرو 4 الأسود فشفي"5.
ففي هذه الأحاديث دلالة على دخول الجني في جسم الإنسي وصرعه له. وعلى هذا كان السلف. فقد قال عبد الله بن أحمد لأبيه: " إن قوماً يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي، فقال: يا بني يكذبون، هو ذا يتكلم على لسانه"6. وقال ابن تيمية: "وليس في أئمة المسلمين من ينكر
1 هو من وفد عبد القيس: انظر: الطبراني: المعجم الكبير (5/275) .
2 هذا الحديث عزاه ابن تيمية إلى أبي داود في السنن، وليس هناك، وإلى أحمد في المسند ولم أجده فيه، وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وأم أبان لم يرو عنها غير مطر. مجمع الزوائد (9/2) وهو في المطبوع من الطبراني الكبير (5/275) ت: حمدي عبد المجيد السلفي.
3 الثع: القيء، والثعة: المرة الواحدة. ابن الأثير: النهاية (1/212)
4 الجِرو: صغار القثاء، وقيل الرمان، ويجمع على: أجرٍ. ابن الأثير: النهاية (1/264)
5 رواه أحمد (1/ 254، 268) وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه فرقد السبخي، وثقه ابن معين والعجلي، وضعفه غيرهما. مجمع الزوائد (9/2)
6 انظر: ابن تيمية مجموع الفتاوى (19/12)
دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك" 1.
وفي الأناجيل المتداولة الآن أخبار عن المسيح عليه السلام تدل على علاجه للمصروعين، وإخراج الجن منهم 2.
ولقد سئل الشيخ رشيد رحمه الله عن دخول الجن والشيطان في بدن الإنسان بناء على ما ذكر في الأناجيل، وبناء على ما ورد عن السلف، لا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
وفيما يتعلق بما أثبتته الأناجيل، فقد أجاب الشيخ أولاً: بأن الأناجيل لا يعتمد عليها إذ ليس لها أسانيد صحيحة 3.
وقد أمرنا أن لا نصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم فيما لا حجة له أو عليه في كتابنا، ثم قال:"على أننا إذا سلمنا بأن بعض الشياطين دخلت في أجسام بعض الناس، وأنها خرجت على يد المسيح معجزة له فلا يلزم من ذلك أن نقيس خرافات عجائز الزار على معجزات الأنبياء المصطفين الأخيار "4.
وأما ما ورد عن شيخي الإسلام فيجيب عنه الشيخ رشيد بقوله: "
…
وإن كان شيخا الإسلام من أجل الثقات عندنا فيما يرويانه عن أنفسهما وعن غيرهما بالجزم ـ فإننا نقول: إن وقائع الأحوال في هذا المقام فيها إجمال، هي قابلة لأنواع شتى من الاحتمال، على أن ما يؤخذ منها على ظاهره لا حجة فيه على شيء من أعمال الدجالين التي ينكرها الشرع والعقل، وأين دجل هؤلاء الفساق المحتالين من معجزة أو كرامة يكرم الله بها نبياً مرسلاً أو ولياً صالحاً، فيشفي على يديه مصروعاً ألم به شيطان أم لم يلم؟ وما إلمام الشيطان ببعض الناس بالمحال عقلاً حتى نحار في فهم
1 مجموع الفتاوى (24/277)
2 انظر: متى: (4/ 24 و 8/ 16 و9/ 32 ـ 33)
3 تفسير المنار (8/370)
4 مجلة المنار (6/709 ـ 710)
أمثال هذه الروايات النادرة عند أهل الكتاب وعندنا، بل عند جميع الأمم، وإن بعض الأمراض العصبية التي يصرع أصحابها لابسهم الشيطان فيها أم لا لتشفى بتأثير الاعتقاد وتأثير إرادة الأرواح القوية إذا توجهت إلى الله تعالى سائلة شفاءها، وما نحن بالذين يدارون الماديين أو يبالون بإنكارهم لكل ما لا يثبته الحس لهم، بل نرى أن جملة ما روي عن الأنبياء والعلماء وما اشتهر عند كل الأمم يفيد بمجموعه التواتر المعنوي في إثبات أصل المسألة، وما لنا لا نذكر أنه قد وقع لنا من ذلك ما يعده كثير من الناس أمراً عظيماً يستبعدون أن يكون من فلتات الاتفاق ونوادر المصادفات.." ثم ذكر بعض ما حدث له من ذلك. 1.
والدجالون الذين يشير إليهم الشيخ رشيد هم عبدة الجن الذين يقيمون الاحتفالات لإرضائهم وهو ما يعرف بالزار. يقول الشيخ رشيد في نفس السياق السابق: "إن مفاسد (الزار) 2 كثيرة مشهورة في هذه البلاد، وقد وصفناها من قبل في المنار. وسببها اعتقاد الكثيرات من النساء المريضات بأمراض عادية ولا سيما إذا كانت عصبية أن الشياطين قد دخلت في أجسادهن. وأن صانعات الزار يخرجنهم منها بإرضائهم والتقرب إليهم بالقرابين وغيرها. وهذا نوع من عبادة الجن التي كانت في الجاهلية فأزالها الإسلام بإصلاحه، ولما جهل الإسلام في كثير من البلاد وقبائل البدو عادت إلى أهلها
…
" 3.
والذي يريده رشيد رضا من هذا، هو ما أراده في المسألة السابقة، وهو قطع الطرق على الدجالين كما سبق بيانه، فهو لا ينكر دخول الجن في جسد الإنسان، بدليل ما يرويه هو عن نفسه وما حدث له مع أصحاب الصرع، ولكنه يتشدد في إثبات هذه الوقائع لسد باب الشر، فهو كما يقول بلسانه بعدما روى بعض هذه الوقائع: "إنني لم أذكر مثل هذا إلا لأمرين
1 تفسير المنار (8/369 ـ 370)
2 سبق تعريف الزار (ص:540)
3 تفسير المنار (8/ 369)، وانظر: الوحي المحمدي (ص/ 222ـ 223)
أحدهما: أن لا يظن ظان أني أميل في تشددي في كشف غش الدجالين إلى آراء الماديين، وثانيهما: أن لا يجعل أحد ما نقل عن مثل شيخ الإسلام من إرساله رسولاً إلى المصروع يخرج منه الشيطان حجة على من ينكر دجل هؤلاء الضالين من عباد الشياطين أو الدعاة إلىعبادتهم
…
" 1.
فيريد رشيد رضا إغلاق هذا الباب سداً للذريعة، على أنه لا ينكر أن يقع ذلك معجزة لنبي أو كرامة لولي ولكن: "أين دجل هؤلاء الفساق المحتالين من معجزة أو كرامة يكرم الله بها نبياً مرسلاً أو ولياً صالحاً فيشفي على يديه مصروعاً ألم به الشيطان
…
" 2.
والذي يدل على أن إخراج الجني من المصروع هو من باب "خوارق العادات، أو المعجزات والكرامات، صنيع المؤلفين من المحدثين وغيرهم، الذين يوردون هذه المسألة تحت باب معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم 3
1 تفسير المنار (8/ 371)
2 تفسير المنار (8/ 370)
3 ومن ذلك ما صنع: الدارمي: السنن (1/ 19)، والبيهقي: دلائل النبوة (2/ 21 و25) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الأولى، 1405هـ، ت: عبد المعطي قلعجي، والهيثمي: مجمع الزوائد (9/ 2)، وابن تيمية: الجواب الصحيح (6/ 188)