الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر: الاحتجاج بالقدر:
وإذا كان الإيمان بالقدر واجباً، بل ركناً من أركان الإيمان، لا يقبل من العبد عمل حتى يؤمن به ويستكمله، فإنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك العمل المشروع أو عمل الممنوع. فأهل السنة يؤمنون بالقدر ولا يحتجون به.
وأول من احتج بالقدر إبليس 1. وحكى القرآن عن المشركين احتجاجهم بالقدر على شركهم، ورد تعالى عليهم ذلك، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 2.
والمعنى: "
…
لو شاء الله تعالى أن لا نشرك به من اتخذنا من الأولياء والشفعاء من الملائكة والبشر وأن لا نعظم ما عظمنا من تماثيلهم وصورهم أو قبورهم
…
وأن لا يشرك آباؤنا من قبلنا كذلك ما أشركوا ولا
1 انظر سورة الحجر، الآية (39) .
2 سورة الأنعام، الآيتان (148، 149)
أشركنا
…
ولكنه شاء أن نشرك
…
، وشاء أن نحرم ما حرمنا
…
فحرمناه
…
" 1.
وهذه الآية قد أتت برد قاطع وبرهان ساطع وأفحمت من أراد إبطال الشرائع.
قال الشيخ رشيد: "
…
ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2
…
" 3.
ووجه الرد عليهم في الآية، كما بينه الشيخ رشيد، أنه: "
…
لو كانت مشيئة الله لما كانوا عليه من الشرك والمعاصي إجباراً مخرجاً لذلك عن كونه من أعمالهم لما عاقبهم عليه
…
ولو كانت مشيئته لذلك متضمنة رضاه عن فاعله وأمره إياه به خلافاً لما قال الرسل ـ لما عاقبهم عليه تصديقاً للرسل" 4.
هذا هو الوجه الأول في رد احتجاجهم وهد تكذيبهم وإلزامهم الحجة وإفحامهم بذكر ما حدث لمن فعل مثل فعلهم واحتج بمثل حجتهم من الأمم التي أهلكها الله قبلهم.
والوجه الثاني من الرد في هذه الآية، هو بيان جهلهم واحتجاجهم بما لا علم لهم به، واعتمادهم في ذلك على الظن والتخمين دون العلم واليقين.
فما سبق في الوجه الأول كان بياناً للبرهان الفعلي الواقع، وهذا الوجه بيان لبرهان آخر، عقلي نظري.
1 تفسير المنار (8/ 176)
2 سورة يس، الآية (47)
3 مجلة المنار (2/ 130)
4 تفسير المنار (8/ 176 ـ 177)
يقول الشيخ رشيد في بيان هذا الوجه: "وبعد التذكير بهذا البرهان أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يطالب المشركين بدليل علمي على زعمهم فقال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} 1 أي: هل عندكم بما تقولون علم ما تعتمدون عليه وتحتجون به فتخرجوه لنا لنبحث معكم فيه ونعرضه على ما جئناكم به من الآيات العقلية والمحكية عن وقائع الأمم التي قبلكم، وننصب بينهما الميزان القسط ليظهر الراجح من المرجوح؟
…
" 2.
فالمحتج بالقدر ليس عالماً بالقدر فيبني علمه عليه، فكيف يصح الاحتجاج للعاصي بأن الله كتب عليه ذلك قبل صدوره منه، وقدر الله قبل وقوعه غيب لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى وقد ورد الجواب بذلك أيضاً في آية أخرى هي قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3.
يقول الشيخ رشيد: "
…
فهل الاعتقاد بعلم وإرادته يكون عذراً للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم فوقع في الرجز الأليم؟
…
كلا إن هذا هذيان لا يقول به عاقل
…
" 4.
والحاصل أن رأي الشيخ رشيد ـ وهو الحق ـ أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك العمل، أو عمل المعاصي. يقول الشيخ: "الاحتجاج على ترك العمل بالقدر من عقائد الملحدين، وقد جاء الكتاب الكريم لتشنيع اعتقادهم والنعي عليهم فيه
…
فلا يسوغ لأحد منا وهو يدعي أنه مؤمن بالقرآن أن يحتج بما يحتج به المشركون
…
" 5.
1 سورة الأنعام، الآية (148)
2 تفسير المنار (8/ 177)
3 سورة الأعراف، الآية (28)
4 مجلة المنار (2/ 129 ـ 130)
5 المصدر نفسه (6/ 782)