الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: الهدى والضلال:
هذه المسألة هي قلب أبواب القدر ومسائله، وقد اتفقت رسل الله من أولهم إلى آخرهم وكتبه المنزلة عليهم على أنه سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن الهدى والضلال بيده لا بيد العبد، وأن العبد هو الضال أو المهتدي، فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره والاهتداء والضلال فعل العبد وكسبه 1. والهداية مراتب: أولها: الهداية العامة، وهي: هداية كل نفس إلى مصالح معاشها وما يقيم حياتها، وهذه هي أعم المراتب. والثانية: هداية البيان والدلالة والتعليم والدعوة إلى مصالح العبد في معاده، وهذه المرتبة أخص من الأولى لأنها تتعلق بالمكلفين. والثالثة: الهداية المستلزمة للاهتداء، وهي هداية التوفيق، ومشيئة الله لعبده الهداية وخلقه دواعي الهدى 2. ويشير قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 3 وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 4 إلى المرتبة الأولى. وألى المرتبة الثانية يشير قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 5 وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ
1 انظر: ابن القيم: الشفاء (ص: 117)
2 المصدر نفسه.
3 سورة الأعلى، الآية (1ـ 3)
4 سورة السجدة، الآية (7)
5 سورة فصلت، الآية (17)
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 1، فقد هداهم تعالى هدى البيان والدلالة فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء، وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة فكفرها 2. وأما المرتبة الثالثة، فيشير إليها قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} 3 وقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 وهذه المرتبة هي التي أنكرتها المعتزلة 5.
ويقرر الشيخ رشيد رحمه الله كأهل السنة ـ وكما صرحت آيات الكتاب العزيز ـ أن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
قال الله تعالى:
{مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 6.
قال الشيخ رشيد: "أي من تعلقت مشيئة الله بإضلاله يضلله،
…
وإنما إضلاله إياهم اقتضاء سنته في عقول البشر وغرائزهم وأخلاقهم أن يعرض المستكبر عن دعوة من يراه دونه، واتباع من يراه مثله، وإن ظهر له أن الحق معه، وأن يعرض المقلد عن النظر في الآيات والدلائل التي تنصب لبيان بطلان تقاليده وإثبات خلافها
…
وليس معنى ذلك أن يخلق الله الضلال لمن شاء إضلاله خلقاً، ويجعله له غريزة وطبعاً، ولا أن يلجئه إليه إلجاءً، ويكرهه عليه إكراهاً
…
{وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي ومن يشأ هدايته واستقامته يجعله على طريق مستقيم، وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه ولا ينجو تاركه، بأن يوفقه لاستعمال سمعه وبصره وعقله في آيات الله المنزلة وآياته المكونة
…
" 7.
1 سورة التوبة، الآية (115)
2 ابن القيم: الشفاء (ص: 140)
3 سورة الإسراء، الآية (97)
4 سورة الأنعام، الآية (39)
5 انظر: عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة (ص: 357)، وانظر: ابن القيم: الشفاء (ص: 141)
6 سورة الأنعام، الآية (39)
7 تفسير المنار (7/ 402 ـ 403)
يعني أن الله تعالى يقدر الهدى والضلال، على وفق مبدأ السببية وارتباط الأسباب بالمسببات.
وقد نقل الشيخ رشيد رضا عن شيخه معنى الهداية ومراتبها، فقال:
"ذكر الأستاذ الإمام أولاً ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب
…
" 1.
ثم ذكر أنواعها ومراتبها، فقال نقلاً عنه: "ومنح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:
(أولاها) : هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون للأطفال منذ ولادتهم....
(الثانية) : هداية الحواس والمشاعر وهي متممة لهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيها الحيوان الأعجم، بل هو فيها أكمل من الإنسان....
(الهداية الثالثة) : العقل:
…
وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه....
(الهداية الرابعة) :
…
، أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 2 أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر. قال الأستاذ الإمام: وهذه تشتمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة وهداية العقل وهداية الدين. ومنها قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 3 أي دللناهم على طريقي الخير والشر، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى
…
" 4.
1 تفسير المنار (1/ 62)
2 سورة البلد، الآية (10)
3 سورة فصلت، الآية (17)
4 تفسير المنار (1/ 64)
وإن كان الله تبارك وتعالى قد منح هذه الهدايات الأربع لكل فرد من أفراد الإنسان، إلا أن هناك هداية خامسة، هي هداية خاصة لم تمنح للكافة، بل اختص الله تعالى بها بعض خلقه.
وهذه الهداية الخاصة وهي هداية التوفيق، هي التي افترق الناس فيها، فأثبتها أهل السنة، وأنكرتها المعتزلة والقدرية، وأثبتها كذلك الشيخ رشيد رضا رحمه الله فيقول:
"بقي هنا هداية أخرى وهي المعبر عنها بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1 فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره، فالهداية في الآيات السابقة بمعنى الدلالة، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين؛ المهلك والمنجي، مع بيان ما يؤدي إليه كل منهما، وهي ما تفضل الله به على جميع أفراد البشر. أما هذه الهداية فهي أخص من تلك، والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل، وشرع الدين.
ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين، وفي استعمال الحواس والعقل
…
كان محتاجاً إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2 فمعنى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطأ
…
" 3.
ثم قال الشيخ رشيد: "هذا الفرق بين معنى الهداية معروف في اللغة، وبه يجاب عن التناقض الظاهري في قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 5 وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
1 سورة الأنعام، الآية (90)
2 سورة الفاتحة، الآية (6)
3 تفسير المنار (1/ 64 ـ 65)
4 سورة الشورى، الآية (52)
5 سورة القصص، الآية (56)
مَنْ يَشَاءُ} 1 فالهداية التي أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم هي الدلالة على الخير والحق، والتي نفاها عنه هي الثانية التي بمعنى الإعانة والتوفيق" 2.
وعند قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} 3 يقرر الشيخ رشيد نفس المعنى، مع زيادة بيان وتوضيح، فيقول: " أي ذلك الهدى إلى صراط مستقيم، وهو ما كان عليه أولئك الأخيار مما ذكر من الدين القويم، والفضل العظيم، هو هدى الله الخاص، الذي هو وراء جميع أنواع الهدى العام كهدى الحواس والعقل والوجدان، لأنه عبارة عن الإيصال بالفعل إلى الحق والخير، على الوجه الذي يؤدي إلى السعادة
…
" 4.
وبهذا البيان الواضح، يظهر لنا أن الشيخ رشيد، وكما هو مذهب السنة يثبت هذه المرتبة التي تفضل الله بها على عباده، وقد أنكرتها المعتزلة والقدرية.
وكما أن الله تعالى يهدي من يشاء، فإنه يضل من يشاء، ولكن هذا الإضلال ليس على سبيل الجبر، كما هو مذهب الجبرية، بل هو ـ وكما بين الشيخ رشيد ـ من باب ترتب المسببات على الأسباب والمقدمات على النتائج.
"وقد علم مما قررناه أن إسناد الضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجباراً، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان ضلالهم اضطراراً لا اختياراً، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى الحد العمه في الطغيان، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما
1 سورة البقرة، الآية (272)
2 تفسير المنار (1/ 64) هامش رقم (1)
3 سورة الأنعام، الآية (88)
4 تفسير المنار (7/ 590)
يضادها من الهدى والإيمان" 1. "والله تعالى يسند الأمور إلى أسبابها تارة وإليه تعالى تعالى تارة من حيث أنه خالق كل شيء وواضع سنن الأسباب والمسببات، ومن هذه الأسباب ما جعله من أفعال المخلوقات الاختيارية على علم، وما جعله بأسباب لا يعلم للخلق اختيار فيها ولا علم، وكل من القسمين يسند إلى سببه تارة وإلى رب الأسباب تارة، والجهة مختلفة معروفة
…
وجملة القول: أن من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله ويستمر على ذلك ويدمنه الزمن الطويل تضعف إرادته في هواه، حتى تذوب وتفنى فيه، فلا تعود تؤثر فيه المواعظ القولية، ولا العبر المبصرة ولا المعقولة، وهذه الحالة يعبر عنها بالختم والرين والطبع على القلب
…
وأمثال هذه الأمثال المضروبة لهذه الحالة قد ضل بها الجبرية غافلين عن كونها عاقبة طبيعية لإدمان تلك الأعمال الاختيارية
…
" 2.
1 المصدر نفسه (9/ 459)
2 تفسير المنار (9/ 636)