الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: منهج رشيد رضا في إثبات الأسماء والصفات
تمهيد
…
تمهيد:
ومن الإيمان بالله تعالى الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا. إذ لا تخلو سورة من سور القرآن الكريم ولا صفحة من صفحاته بل ولا تكاد تخلو آية من آياته من ذكر اسم له تعالى أو صفة من صفاته، وفيه آيات بأسرها ليس فيها إلا ذكر أسماء الله وصفاته، تسردها سرداً وتفصلها تفصيلاً.
وجاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترة في صفات الله موافقة لكتاب الله، نقلها السلف على سبيل الإثبات والمعرفة والإيمان والتسليم. وآمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وكتابه وما فيه من آيات الأخبار والأحكام والأسماء والصفات. وقد نقل لنا الرواة خلافهم في التفسير وفي الأحكام، كما نقلوا لنا أسئلتهم لنبيهم عما أشكل عليهم من آيات الكتاب 1، ولكن لم ينقل عنهم خلاف في باب الأسماء والصفات، ولا استشكال ما ورد فيه من الآيات2.
وما زالت الكلمة زمن الصحابة والتابعين مجتمعة على ذلك حتى ظهرت بدعة نفي الأسماء والصفات، وكان بدء ظهورها آخر عصر التابعين
1 انظر مثلاً: البخاري: الصحيح: ك: الإيمان، باب: ظلم دون ظلم، ح: 32 [1/ 109] وك: التفسير، تفسير سورة البقرة، ب:"وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه.."، ح: 4545 [8/53 ـ 54]
2 انظر: ابن القيم/ الصواعق المنزلة 01/ 102) ، والمقريزي: الخطط (2/ 356) ط. مؤسسة الحلبي، مصر.
وأول من تكلم بهذا الجعد بن درهم 1.
وقد تأثر "الجعد بن درهم" في هذا بأهل بلدِه "حران" 2 وكانوا من الصابئة 3 الذين لا يصفون الرب إلا بالصفات السلبية أو الإضافية أو ما تركب منهما 4.
والجعد هو شيخ الجهم بن صفوان 5 الذي نسبت إليه "الجهمية" 6،وقد زاد الطين بلة تعريب الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية 7. وفي المائة الثالثة
1 هو مؤدب مروان الحمار، أول من ابتدع الكلام في الصفات، مات سنة نيف وعشرين ومائة، عداده في التابعين، مبتدع ضال ذبحه خالد القسري رحمه الله بسبب مقالته في الصفات. انظر: اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 425)، وابن تيمية: الفتوى الحموية (13ـ14) ط. السلفية، بمصر، وهي ضمن مجموع الفتاوى (5/ 121)، والذهبي: السير (5/ 433)، وابن كثير: البداية والنهاية (10/ 350)
2 هي مدينة على طريق الموصل والشام، موطن الصابئة. انظر: ياقوت: معجم البلدان (2/ 235) .
3 قيل لهم صابئة لأنهم زاغوا ومالوا عن نهج الأنبياء، من صبا الرجل إذا مال وزاغ، وهم كانوا على دين نوح ثم مالوا عنه، ويرى بعض العلماء أن الله تعالى أرسل إليهم إبراهيم عليه السلام. وانظر في تفسير هذا الاسم وعقائد هذه الديانة: الشهرستاني: الملل والنحل (2/ 289) وما بعدها. ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الثانية 1413هـ.
4 الصفات السلبية هي التي تدل على أمر مسلوب أي منفي، فصفة العلم مثلاً تدل عندهم على انتفاء الجهل لا ثبوت العلم، والإضافية تعني: أنها تدل على صفة مضافة للغير، فصفة الخلق مثلاً تعني وجود مخلوق له، لا ثبوت صفة الخلق لله. والتي تتركب منهما هي: ما كانت سلبية باعتبار وإضافية باعتبار آخر، مثل: الأول فمعناه السلبي الحدوث والإضافي وجود الأشياء بعده. انظر: ابن عثيمين: فتح رب البرية (ص:63)
5 هو الراسبي الترمذي، رأس البدعة نسب إليه نفي الصفات والقول بالجبر، وفناء النار وغير ذلك، قتل سنة 128هـ. انظر: الأشعري: المقالات (1/338)، والشهرستاني: الملل والنحل (1/ 73)، والذهبي: السير (6/26) والطبري: التاريخ (7/220) ط. دار المعارف، مصر، الثانية.
6 نسبة إلى الجهم، إحدى الفرق الضالة. انظر: الأشعري: المقالات (1/338)، والشهرستاني: الملل والنحل (1/73)، والبغدادي: الفرق بين الفرق (ص:211) ، ط. محمد علي صبيح / مصر، ت: محيي الدين عبد الحميد.
7 انظر: ابن تيمية: الحموية (ص:22) ضمن مجموع الفتاوى (ج: 5)
انتشرت هذه المقالة بسبب "بشر بن غياث المريسي" 1 وطبقته وتوفي المريسي سنة 218هـ. إلا أن تأويلاته وشبهاته لم تمت بموته، بل بقيت حية في كتب المتكلمين من بعده.
وقد صنف الأئمة رحمهم الله في الرد على المريسي وطبقته وأشهر مصنف في ذلك ولا زال موجوداً إلى الآن هو ما صنفه: عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة 288هـ 2، ولقد حكم كثير من السلف بكفر المريسي 3.
لقد بقيت أكثر شبهات وتأويلات المريسي وتناولها المتكلمون في مؤلفاتهم، ويتضح ذلك بالمقارنة بين ما ذكره الدارمي منها مع ما هو موجود في كتب القوم اليوم 4، وما دام الأمر كذلك فلا بد أن تتواصل جهود العلماء في رد هذه الشبهات، وهو ما حدث فعلاً فقد قام العلماء من السلف فمن بعدهم بالتأليف للرد على أصحاب هذه التأويلات 5. إلى أن
1 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة مولى زيد بن الخطاب، أخذ الفقه عن أبي يوسف، وروى عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، مات سنة 218هـ. انظر: الذهبي: السير (10/199) وانظر اللالكائي: شرح الأصول (3/ 425)
2 هو عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد: الإمام العلامة الحافظ الناقد صاحب المسند والتصانيف، ولد قبل المائتين بقليل، صنف "الرد على المريسي"، وطبعه: محمد حامد الفقي تلميذ رشيد رضا، وصنف أيضاً "الرد على الجهمية"، كان لهجاً بالسنة بصيراً بالمناظرة، مات سنة 280هـ. انظر: الذهبي: السير (13/ 319ـ 327)
3 انظر: أسماء من حكم عليه بذلك عند اللالكائي: شرح أصول أهل السنة (3/ 426)
4 انظر: مثلاً: الدارمي: الرد على المريسي (ص: 19و 25و 59) وقارن مع الرازي: أساس التقديس (ص: 2و 102و 108و 109و 125) ط. كردستان العلمية بمصر. 1328هـ. وقارن أيضاً مع عبد الجبار شرح الأصول الخمسة (ص:226و 227و 232) ط. مكتبة وهبة بمصر، وانظر: عبد الجبار: "فصل الإعتزال"(ص: 346) ط. الدار التونسية وقارن مع: الدارمي: الرد على المريسي (ص:13)، وقد رد على أساس الرازي ابن تيمية في مؤلف حافل طبع بعضه باسم: نقض تأسيس الجهمية. ط. مطبعة الحكومة بمكة بأمر من الملك فيصل رحمه الله
5 انظر: بعض هذه المؤلفات عند: ابن تيمية: الحموية (ص: 24) ضمن مجموع الفتاوى جـ 5.
جاء عصر ابن تيمية، وكان صوت السنة قد خفت وعلت أصوات المتكلمين، فجاء ابن تيمية ونصر مذهب السلف وأعلنه بقوة وأتى من ذلك بشيء عجيب. وانتشرت أقواله ابن تيمية وفتاواه في كل مكان وظهر مذهب السلف بعد ما كاد أن يندثر، ولقد اطلع الشيخ رشيد رضا على كتب ابن تيمية وعرف منها مذهب السلف بعدما كان نشأ على كتب المتكلمين المشتملة على آراء المريسي، واقتنع رشيد رضا بمذهب السلف وتقريرات ابن تيمية وكان حريصاً على مطالعة كتب ابن تيمية ومدرسته، ويقول عن نفسه:"إنني لم يطمئن قلبي بمذهب السلف إلا بممارسة هذه الكتب"1.
وفيما يلي أصور المذهب الذي استقر عليه رشيد رضا مبيناً مدى تأثره بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي كان هو السبب في تعرف رشيد رضا واقتناعه بهذا المذهب، وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث: الأول: في الأسماء الحسنى، والثاني: في الصفات الإلهية، والثالث: في مفردات الصفات التي تكلم عنها رشيد رضا وتحت كل مبحث مطالب.
1 تفسير المنار (1/ 253)