الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: النظر في الملكوت:
لقد دعا الله تبارك وتعالى عباده إلى النظر وإعمال الفكر والعقل، لكي يتوصلوا إلى الحقائق العليا في هذه الحياة.
فالنظر والتأمل والفكر من وسائل المعرفة وطرائقها، "ألا وإن أعلى العلوم العقلية والمعارف الروحية في هذه الدنيا هو معرفة الله سبحانه وتعالى والعلم بمظاهر أسمائه وصفاته في خلقه والوقوف على سننه وأسراره فيها، وكشف الحجب عما أودع الله فيها من الجمال والجلال
…
" 1.
ولقد ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز، وهو آياته المنزلة، شيئاً كثيراً من آياته المخلوقة في الكون والإنسان، وبين ما فيها من سنن وآيات ترشد إلى معرفة الله تعالى بصفاته العليا، من قدرة وحكمة وعلم وإرادة..
" وما زال أصحاب الهمم العالية من العلماء والحكماء يستدلون بما ظهر لهم من تلك السنن والآيات على كمال مبدعها ومبدئها ومصرفها، وتتطلع عيون عقولهم إلى كيفية صدور الوجود الممكن الحادث (وهو مجموع هذه العلوم العلوية والسفلية) عن الوجود الأزلي الواجب.."2.
ولقد نعى الله تعالى على الذين لا يستخدمون حواسهم من سمع وبصر، في التأمل والتدبر، وفهم آيات الله الكونية والشرعية.
قال تعالى عن هؤلاء الغافلين: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3.
" أي لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آيات الله المنزلة على رسله.. فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم. {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} أي: عن آيات الله في الأنفس والآفاق التي تهدي إلى معرفة العبد نفسه وربه"4.
1 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (9/ 150)
2 المصدر نفسه.
3 سورة الأعراف: الآية (179)
4 تفسير المنار (9/ 426)
ولكن ما حقيقة النظر الذي يدعو إليه ربنا تبارك وتعالى، وما الفرق بينه وبين النظر الذي أوجبه المتكلمون، وقالوا: إنه الطريق الوحيد لمعرفة الله تعالى؟
تعريف الشيخ رشيد للنظر والفكر:
أما الفكر فيقول عنه:"وأكثر ما استعمله التنزيل في آيات الله ودلائل وجوده ووحدانيته، وحكمته ورحمته" 1، قال تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} 2.
وأيضاً فإن استعمال القرآن لكلمتي الفكر والتفكير يدل "على أنهما في العقليات المحضة أو في العقليات التي مبادئها حسيات"3.
أما عن النظر فيقول: ".. واستعمال القرآن يدل على أن النظر العقلي مبدأ من مبادئ الفكر والتفكير، كما أن مبدأه هو النظر الحسي في الغالب كقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 4. إلخ. وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} 5إلخ. ومنه النظر في عاقبة الأمم برؤية آثارها في عدة آيات.."6.
فالفكر يكون في العقليات المحضة أو التي مبدأها الحس، أما النظر فمبدأه هو النظر الحسي في الملكوت والآيات فهذا هو النظر وهذا هو محله، وليس القضايا الجدلية، والأقيسة المنطقية الجافة، والفروض الذهنية المجردة، والذين يذهبون إلى هذا النظر معتقدين أنه يؤدي إلى معرفة الله واهمون، يقول الشيخ رشيد واصفاً هؤلاء بأنهم "الواهمون أن معرفة الله
1 المصدر نفسه (9/ 460)
2 آل عمران، الآية (191)
3 المصدر نفسه.
4 سورة الغاشية: الآيات (17ـ 20)
5 سورة: ق الآية (6)
6 تفسير المنار (9/ 460ـ 461)
تقتبس من الجدليات النظرية، والأقيسة المنطقية دون الدلائل الوجودية الحقيقية، ولو كان زعمهم حقيقة لا وهماً لكان الله سبحانه قد استدل في كتابه بالأدلة النظرية الفكرية، وذكر الدور والتسلسل وغير ذلك من الاصطلاحات الكلامية، ولم يستدل بالسماء والأرض والليل والنهار والفلك والمطر وتأثيره في الحياة، وغير ذلك من المخلوقات التي ارشدا القرآن إلى النظر فيها.."1.
وهذا هو النظر الشرعي، فإنه إذا قيل: هل النظر واجب، قلنا النظر الواجب هو النظر الشرعي، أي الذي أمر به الشرع وليس النظر الاصطلاحي الذي اصطلح عليه المتكلمون 2.
فالنظر القرآني نظر عقلي يخاطب العقول السليمة المنتجة، وهو نظر شرعي لأن الشرع أرشد إليه وأمر به 3.
ومحل هذا النظر الشرعي هو الكون وما فيه من مخلوقات متنوعة برية ومائية وسماوية وأرضية، ليلية ونهارية، مما لا ينقضي العجب من تنوعها وتعددها، ولكل خلق منها نظام وقوانين وأعراف:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} 4.
فهذا هو محل النظر والاعتبار وليس القضايا المنطقية الجافة. "نعم إن هذا الكون هو كتاب الإبداع الإلهي المفصح عن وجود الله وكماله وجلاله وجماله، وإلى هذا الكتاب الإشارة بقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 5 وبقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
1 المصدر نفسه (2/ 64)
2 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص:70)
3 المصدر نفسه (من ص: 70ـ 73)
4 سورة الأنعام: الآية (38)
5 سورة الكهف: الآية (109)
أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 1.فكلمات الله في التكوين باعتبار آثارها ومصداقها هي آحاد المخلوقات والمبدعات الإلهية، فإنها تنطق بلسان أفصح من لسان المقال.. ألا إن لله كتابين: كتاباً مخلوقاً وهو الكون، وكتاباً منزلاً وهو القرآن، وإنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك.." 2. لذلك ـ وكما يقول رشيد رضا ـ " إن أجدر الناس بقوة الإيمان بالله تعالى علماء الطبيعة الواقفون على ما لا يعرفه غيرهم من علماء الدين بنظام الكون وآيات الله تعالى فيه. وهم العلماء المشار إليهم في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 3 فلا ريب أن المراد هنا العلماء بآياته تعالى وحكمه في نظام هذه الكائنات المذكورة في الآيات" 4. وكانت القسمة التي ذكرها رشيد رضا من أن لله كتابين أحدهما كتاب الكون المخلوق والآخر الكتاب المنزل غير المخلوق، تقتضي أن يدخل في هذه الآية أيضاً علماء الدين الذين يرشدون علماء الكون إلى آيات الله تعالى كما قال رشيد رضا: "إنما يرشدنا هذا إلى طريق العلم بذاك" 5.
وينتقل بنا القرآن الكريم من هذا الإجمال والأمر العام بالنظر والفكر، إلى تفصيلات وجزئيات في الخلق، مما نلمسه ونشاهده في حياتنا اليومية، من آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسنا، مما قد نغفل عنه لتكراره أمام عيوننا، فيدفعنا إلى النظر فيه ويلفت انتباهنا إلى ما أودع فيه من الآيات التي تُورث الناظر فيها اليقين التام والمعرفة الحق بالخالق ووحدانيته وربوبيته
1 سورة لقمان: الآية (27)
2 تفسير المنار (2/ 64) وقارن مع ابن الوزير: البرهان الساطع (ص: 70 وما بعدها)
3 سورة فاطر، الآية (27 و28)
4 مجلة المنار (13/ 914) وانظر أيضاً: مجلة المنار (2/ 404) وهذا الحصر غير مسلم، يدخل معهم العلماء بآيات الله المنزلة، وقد كان الصحابة أكمل الناس إيماناً ولم يكونوا من علماء الكون.
5 تفسير المنار (2/ 64)
ورحمته وحكمته وسائر صفاته، قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1 ويفسر لنا رشيد رضا هذه الآية قائلاً: "هذه آية قرآنية تشرح لنا بعض الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله تعالى ورحمته الواسعة إثباتاً لما ورد في الآية قبلها من هذين الوصفين له تعالى 2 على طريقة القرآن في قرن المسائل الاعتقادية بدلائلها وبراهينها.. وهذه الآيات أجناس:
(الأول والثاني) منها: خلق السماوات والأرض، ففيه آيات بينات كثيرة الأنواع يدهش المتأملين بعض ظواهرها، فكيف حال من اطلع على ما اكتشف العلماء من عجائبها.." 3.
ثم يفصل القول في السماء وحدها فيقول: "تتألف هذه الأجرام السماوية من طوائف يبعد بعضها عم بعض بما يقدر بالملايين وألوف الملايين من سني سرعة النور، ولكل طائفة منها نظام كامل محكم، ولا يبطل نظام بعضها نظام الآخر، لأن للمجموع نظاماً عاماً واحداً يدل على أنه صادر عن إله واحد لا شريك له في خلقه وتقديره وحكمته وتدبيره.."4.
ثم يتحول إلى الأرض وآياتها فيقول: "هذه هي السماوات نشير إلى آياتها عن بعد {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} 5 ومادتها وشكلها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان، فلكل منها نظام عجيب وسنن إلهية مطردة في تكوينها.."6.
1 سورة البقرة، الآية (164)
2 يعني قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} سورة البقرة، الآية (163)
3 تفسير المنار (2/ 57 ـ 58)
4 المصدر السابق والصفحة.
5 سورة الذاريات، الآية (20)
6 تفسير المنار (2/ 57 ـ 58)
ثم ينتقل إلى بقية الآيات، المذكورة في الآية، قائلاً: " (والجنس الثالث) قوله {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} وهو أن يجيء أحدهما فيذهب الآخر، ويطول هذا فيقصر ذاك.. وتفصيل ذلك مشروح في محله من العلم الخاص بهذه المسائل. وفي المشاهد من اختلاف الليل والنهار والفصول من آيات بينات على وحدة مبدع هذا النظام المفرد ورحمته بعباده يسهل على كل أحد أن يفهمها وإن لم يعرف أسباب ذلك الاختلاف وتقديره 1.
وفي اختلاف الليل والنهار من المنافع العامة ما ذكره الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} 2 وفي معناها آيات أخرى.
وإلى المنافع الدينية أشار قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 3.
(الجنس الرابع) قوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} .. وأما كون الفلك آية فلا يظهر بادي الرأي كما يظهر كونها رحمة من قوله {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} أي: في أسفارهم وتجاراتهم.. فكل ذلك يجري على سنن إلهية مطردة منتظمة تدل على أنها صادرة عن قوة واحدة هي مصدر الإبداع والنظام وهي قوة الإله الواحد الحكيم، الرحمن الرحيم.
(الجنس الخامس) قوله {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} .. ونزول المطر من الأمور المحسوسة التي لا تحتاج إلى نقل، ولا نظر عقل، وقد شرح كيفية تكوينه ونزوله العلماء الذين تكلموا في الكائنات، ووصفوا بالتدقيق الآيات المشاهدات، ولم يخرج شرحهم الطويل عن الكلمة الوجيزة في بعض الآيات التي ذكر فيها المطر وهي قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} .. وقد وصف الله
1 المصدر السابق والصفحة.
2 سورة الإسراء، الآية (12)
3 سورة الفرقان، الآية (62)
تعالى هذا الجنس من آياته بأعظم آثاره فقال: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي أوجد بسببه الحياة في الأرض الميتة.. فبالماء حدثت حياة الأرض بالنبات.. الظاهر والمراد أولاً بالذات الإحياء الأول المشار إليه بقوله تعالى في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1.
وأما الإحياء المستمر المشاهد في كل بقاع الأرض دائماً فهو المشار إليه بمثل قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} 2..فحياة الأحياء في الأرض إنما هي بالماء سواء في ذلك الإحياء الأول عند تكوين العوالم الحية وإيجاد أصل الأنواع، والإحياء المتجدد في أشخاص هذه الأنواع
…
هذا هو الماء في كونه مطراً وفي كونه سبباً للحياة وهو آية في كيفية وجوده وتكونه، فإنه يجري في ذلك على سنة إلهية حكيمة تدل على الوحدة والرحمة، ثم إنه آية في تأثيره في العوالم الحية أيضاً، فإن هذا النبات يسقى بماء واحد هو مصدر حياته، ثم هو مختلف في ألوانه وطعومه وروائحه، فتجد في الأرض الواحدة نبتة الحنظل مع نبتة البطيخ، متشابهتين في الصورة متفاوتتين في الطعم، وتجد النخلة وتمرها ما تذوق حلاوة ولذة، وتجد في جانبها شجرة الليمون الحامض والنارنج وثمرها ما تعرف حموضة وملوحة، وتجد بالقرب منها شجرة الورد لها من الرائحة ما ليس للنخلة.. فتلك السنن التي يتكون بها المطر وينزل جارية بنظام واحد دقيق، وكذلك طرق تغذي النبات بالماء هي جارية بنظام واحد، فوحدة النظام وعدم الخلل فيه تدل على أن مصدره واحد، فهو من هذه الجهة يدل على الوحدانية الكاملة، ومن جهة ما للخلق فيه من المنافع والمرافق يدل على الرحمة الإلهية الشاملة، وقل مثل هذا فيما بث الله تعالى في الأرض من كل دابة، فإنها آيات على الوحدة، ودلائل وجودية على عموم الرحمة.. هذه الأجناس كلها إن فيها {آيَاتٌ
1 سورة الأنبياء، الآية (30)
2 سورة الحج، الآية (5)
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنهم هم الذين ينظرون في أسبابها ويدركون حكمها وأسرارها، ويميزون بين منافعها ومضارها، ويستدلون بما فيها من الاتقان والإحكام، والسنن التي قام بها النظام، على قدرة مبدعها وحكته وفضله ورحمته، وعلى استحقاق العبادة دون غيره من بريته.. وإنما يشرك بالله أقل الناس عقلاً، وأكثرهم جهلاً.." 1.
وقد أطلت النقل هنا عن الشيخ رشيد رضا لشيئين: الأول: لتعرف الفرق بين النظر الذي أرشد إليه القرآن وبين نظر المتكلمين. والثاني: الوقوف على قدرة الشيخ رشيد في إيضاح ذلك، وبلاغته وحسن بيانه.
ولم يترك الشيخ رشيد الفرصة ههنا، فينعى على المسلمين، لا سيما علماء الدين منهم، تقصيرهم في دراسة العلوم المتصلة بهذه الآيات 2.
وكل ما ذكر في هذه الآية وتفصيل شرحها، وهو يتضمن نوعين من الدلالات، دلالة الاختراع أو الخلق، ودلالة العناية.3. ولا تنحصر طرق القرآن في هاتين الدلالتين كما زعم بعضهم 4.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} 5.قال الشيخ رشيد: "الملكوت الملك الأعظم.. والمراد بملكوت السماوات والأرض مجموع العالم، لأن الاستدلال به على قدرة الله وصفاته ووحدانيته أظهر، فإن العالم في جملته لا يمكن أن يكون قديماً أزلياً، ولا نزاع بين علماء الكون في إمكانه ولا في حدوث كل شيء منه وإنما يختلفون في مصدره
…
وهو لا يمكن أن يكون من عدم محض، لأن العدم المحض لا حقيقة له في الخارج بل هو أمر فرض فلا يعقل أن يصدر عنه وجود ـ ولا يمكن أن يكون بعضه قد أوجد البعض الآخر، وهذا
1 تفسير المنار (2/ 59 ـ 63)
2 المصدر نفسه (2/ 64) .
3 ابن رشد: مناهج الأدلة (ص: 150) الأنجلو مصرية، ت: د. محمد قاسم.
4 انظر: رد هذا القول عند ابن تيمية: درء التعارض (9/ 330)
5 سورة الأعراف، من الآية (185)
بديهي، ولذلك لم يقل به أحد، فلا بد إذاً من أن يكون صادراً عن وجود آخر غيره وهو اله واجب الوجود" 1.
وإذا كانت البعرة تدل على البعير، والأثر على المسير، أفلا يدل هذا الملكوت العظيم على أن "مصدره واحد وتدبيره راجع إلى علم عليم واحد وحكمة حكيم واحد، سبحانه وتعالى، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} 2 3.
وتكرر الأمر بالنظر أيضاً، مع توجيهه إلى آيات الكون، في سورة أخرى، هي سورة يونس، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
…
} 4 والمعنى، كما يشرحه رشيد رضا:"..انظروا بعيون أبصاركم وبصائركم ماذا في السماوات والأرض من آيات الله البينات والنظام الدقيق العجيب في شمسها وقمرها وكواكبها ونجومها وبروجها ومنازلها وليلها ونهارها وسحابها ومطرها وهوائها ومائها وبحارها وأنهارها وأشجارها وثمارها.. ففي كل من هذه الأشياء التي تبصرون آيات كثيرة تدل على خالقها وقدرته ومشيئته وحكمته، ووحدة نظامه في جملتها وكل نوع منها هو الآية الكبرى على وحدانيته في ربوبيته وألوهيته.."5.
هذه آيات الله فيما حولنا، من أجزاء الكون وظواهره، وأما أنفسنا التي بين جنوبنا، فلها شأن آخر، فيقول السيد رشيد بعد كلامه السابق مباشرة: ".. ثم انظرو ماذا في أنفسكم منها، كما قال تعالى:{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 6 7 وقد تعرض آفات للناظر في هذه الآيات، الآفاقية والنفسية، فتحول بينه وبين النتيجة المطلوبة من هذا
1 تفسير المنار (9/ 457)
2 سورة الطور، الآيتان (35 و36)
3 تفسير المنار (9/457)
4 سورة يونس، الآية (101)
5 تفسير المنار (11/ 486)
6 سورة الذاريات، الآية (20)
7 تفسير المنار (11/ 486)