الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: العمر، والرزق، والدعاء:
وهذه المسائل الثلاث فمن فروع عقيدة القدر. ولدينا في مسألة العمر أدلة ظاهرها التعارض، فتدل طائفة منها على أن الأجل لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص، ومنها قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} 1. وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} 2. وطائفة أخرى من الأدلة تشير إلى معنى زيادة العمر ونقصه؛ منها قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} 3، وقوله تعالى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} 4.
ومن السنة أحاديث: منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه"5.
1 سورة الأعراف، الآية (34) ، وسورة النحل، الآية (61)
2 سورة المنافقون، الآية (11)
3 سورة فاطر، الآية (11)
4 سورة الأنعام، الآية (2)
5 أخرجه البخاري: ك: الأدب، باب: من بسط له في الرزق بصلة الرحم، مف الفتح (1/ 429) برقم: 5986، ومسلم:: ك: البر، باب: في صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/ 1982) برقم: 2557، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (8 / 152 ـ 153)
فاختلفت أنظار العلماء في ذلك، وتباينت وجهاتهم في الجمع بين هذه النصوص على أقوال:
الأول: أن الزيادة ليس حقيقية بل هي كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة 1.
الثاني: أن الزيادة حقيقية، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر، أما الأجل الذي لا يتغير فهو ما في علمه تعالى.
الثالث: أن الزيادة هي عبارة عن دعاء ذريته الصالحة له بعد موته، وورد ذلك في بعض الروايات إلا أن إسنادها ضعيف 2. قال ابن تيمية:"والأجل أجلان "أجل مطلق" يعلمه الله، و "أجل مقيد"، وبهذا يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه" 3 فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً وقال: "إن وصل رحمه زدته كذا وكذا" والملك لا يعلم أيزداد أم لا؛ لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم ولا يتأخر"4.
أما رشيد رضا فالذي اختاره وأراد أن يبينه هو الفرق بين الأجل الحقيقي الذي هو في علم الله تعالى، وذهب إلى أن هذا ى يتغير، وإلا صار العلم جهلاً، وبين الأجل التقديري وذهب إلى أن هذا هو الذي تقع به الزيادة والنقصان بحسب الأسباب الشرعية والطبيعية، فالذي يزيد وينقص هو أجل آخر غير الذي في علم الله تعالى، والذي في علمه تعالى لا يتغير ولا يتبدل، ويعرف بالوقوع، فإذا مات الشخص علم أن ذلك أجله المحتوم في علم اله تعالى. وأشار رشيد رضا إلى أن الأجل يطلق ويراد بع معنيان: الأو: المدة التي يعيشها الإنسان بالواقع ونفس الأمر. قال رشيد رضا: "والأجل بهذا المعنى لا يعرف إلا بالوقوع، فمتى مات المرء يعلم أن هذه المدة التي قضاها
1 انظر: ابن حجر: فتح الباري (10/ 430)
2 المصدر نفسه، وانظر: الهيثمي: مجمع الزوائد (8/ 153)
3 سبق تخريجه.
4 مجموع الفتاوى (8/ 517)
هي أجله في الواقع ونفس الأمر، ولما كان الله وحده هو الذي يعلم ما سيعرض على الأحياء
…
أطلق الأجل على علم الله تعالى بالعمر؛ وبهذا المعنى قالوا: إن عمر الإنسان لا يزيد ولا ينقصن وهو صحيح إذ لو وقع في الوجود خلاف ما يعلم الله أنه سيقع لكان العلم جهلاً" 1. وأما المعنى الثاني للأجل فهو الذي يقع فيه الزيادة والنقصان، قال رشيد رضا: "وكل ما ورد في نقص العمر وإطالته والإنساء فيه بالأسباب العلمية، والنفسية كصلة الرحم والدعاء، فإنما هو بالنسبة إلى الأجلق التقديري أو الطبيعي، الذي هو عبارة عن مظهر سنن الله في الأسباب والمسببات" 2.
وبناءً على ذلك فزيادة العمر ونقصه جائز لكن لا باعتبار العلم الإلهي فهو لا يتغير، ولكن باعتبارات أخرى، وله أسباب شرعية وطبيعية. هذا ما يقرره رشيد رضا، ويقول: "كيف ينكر المسلم أن شيئاً من الأشياء يكون سبباً في بسطة الأجل وطول البقاء، وهو أمر ثابت في الفطرة، ودينه دين الفطرة، وثابت بالعقل ودينه دين العقل، وثابت بالنقل أيضاً
…
" 3.
ويستدل رشيد رضا على زيادة العمر بالأسباب الشرعية، بأحاديث منها حديث أنس المشار إليه أول المبحث، ومنها حديث ثوبان مرفوعاً "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"4.
ويشير رشيد رضا إلى أن ذلك هو ما يعرف "بالقضاء المعلق" ومعناه كما يفسره: "أن المسببات معلقة في علم الله تعالى بأسبابها، فإذا وقعت الأسباب وقعت معها المسببات لا محالة وإلا فلا
…
" 5. قال: "ولا فرق
1 تفسير المنار (8/ 408)
2 المصدر نفسه.
3 مجلة المنار (12/ 560)
4 رواه الحاكم: المستدرك (1/ 493)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. والطبراني: في الكبير (2/ 100) وفي الدعاء (2/ 799) ت: سعيد البخاري، وانظر: الألباني: الصحيحة: رقم (154)
5 مجلة المنار (12/ 561)
فيه بين السبب الذي علم بالاختبار والوجود والسبب الذي علم بالشرع" 1. وتفرقة رشيد رضا بين ما في علم الله تعالى، وبين غيره صحيح، غير أني لاحظت عليه أنه في مسألة "العمر التقديري" يعتمد على ما يقرره الأطباء، بحسب الاستقراء، وهو لا يسلم لا له ولا لهم، لا سيما مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي بين ستين سنة وسبعين سنة" 2 فإذا كنا بحاجة إلى معرفة متوسط أعمال هذه الأمة فنرجع إلى الشرع. ولو صح في الجمع بين أدلة الشرع حديث لوجب المصير إليه دون غيره مما حاول به أهل العلم التوفيق بين الأدلة وإن لم تصح فالأولى ما ذهب إليه السلف في كون الزيادة والنقص تقع في علم الملك الموكل بالعمر.
ويسلك رشيد رضا في مسألة الرزق وزيادته وحرمانه نفس المسلك الذي سلكه في الأجل، يقول: "والبحث في زيادة الرزق كالبحث في طول العمر سواء لأن لكل منهما أسباب
…
" 3.
وعلى ذلك، فالرزق الذي في علم الله تعالى لا يتغير، ولكن الرزق "التقديري" الذي يعتبر بحسب سنن ارتباط الأسباب والمسببات أو "القضاء المعلق" فيزيد وينقص. وإن كان رشيد رضا لم يفسر لنا "الرزق التقديري" كما فسر العمر "العمر التقديري" وإن كان يظهر من كلامه قصده وهو ما يتوقف على الأسباب الشرعية والطبيعية.
الدعاء:
وأما في مسألة الدعاء، فقد سئل عنها الشيخ، ولكنه أجاب إجابة سريعة، مضطربة، أحال في أولها على تخريج العلماء لها بناءً على مسألة القضاء المعلق والمبرم أيضاً. ولكنه في آخر جوابه ذكر أن هناك أحاديث مشكلة لا يجاب عنها 4.
1 المصدر نفسه.
2 رواه الترمذي: ك: الزهد، باب: ما جاء في فناء أعمار هذه الأمة
…
،ح: 2321 (4/ 566)
3 مجلة المنار (12/ 561)
4 مجلة المنار (5/ 291)
والقول الحق في مسألة الدعاء، أنه من قضاء الله تعالى وقدره، كسائر الأسباب التي جعلها الله تعالى لازمة لمسبباتها، متى وجد السبب وجد المسبب بحسب سنة الله تعالى، وكل شيء بقدر الله تعالى.
ففي علم الله أن فلاناً يدعو فيرفع بدعائه كذا وكذا من البلاء، أو يحدث له كذا وكذا من الخير، بسبب دعائه، وكل في علم الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: "لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي تنال بها مغفرته ورحمته وهداه ورزقه، وإذا قدر للعبد خيراً يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات"1.
وأما ما هذب إليه الشيخ رشيد في مسألة العمر، والرزق، من أن ما في علمه تعالى لا يتغير، وأن الله تعالى عالم بالأجل الحقيقي المكتوب، وأن المتغير بالزيادة والنقصان هو أجل آخر باعتبار آخر، يسميه الشيخ رشيد بالأجل التقديري، والرزق التقديري، وما هو ثم إلا ما كتبته الملائكة فهو الذي يقع فيه ذلك. وهو الصواب 2.
1 مجموع الفتاوى (8/ 69 ـ 70)
2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (8/ 517، 540)، وابن حجر: فتح الباري: (11/ 497 و 4/ 353 ـ 354)، وابن سعدي: ك تيسير الكريم الرحمن (4/ 117)