الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوطانهم وأزمانهم، واتفاقهم على أمر واحد، يصدق فيه الآخر الأول والأول الآخر، يدل على صدق ما ادعوه وتواتره 1.
وهذا الدليل السمعي قد خالف فيه الشيخ رشيد المتكلمين والفلاسفة الذين لا يعتبرون إلا الدليل العقلي النظري 2، ويقولون بوجوبه، ونحن لا ننكر النظر الشرعي ولكن ننكر أنه الدليل الوحيد أو الواجب على معرفة الله تعالى.
1 انظر: ابن الوزير: إيثار الحق (ص:73)
2 انظر: ابن رشد: مناهج الأدلة (ص: 130)
المطلب الرابع: الاحتياط الواجب:
وهذا دليل آخر لا يوافق عليه المتكلمون 3، على أنه عقلي شرعي.
وتقريره:
" أن الإيمان بالله تعالى مأمون العاقبة ولا ضرر فيه، والكفر به تعالى مخوف أشد الخوف وضرره عظيم، فالمصير إلى الإيمان به واجب احتياطاً".
وهذه المسألة العقلية، نجد لها إشارات في القرآن الكريم:
يقول الله تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} 4.
والتحري: طلب الأحرى، أي: الأولى 5.
وقال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 6.
3 انظر: مصطفى صبري: موقف العقل (2/ 5)
4 سورة الحديد، الآية (14)
5 النسفي: مدارك التأويل (4: 300)
6 سورة النساء، الآية (39)
ففيه "تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى"1.
واستدل بهذه الآية على جواز إيمان المقلد، لأنها تشعر بأن الإيمان في غاية السهولة، ولو كان الاستدلال واجباً لكان في غاية الصعوبة 2.
والمعنى: "أي: كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ولا يبصر ولا يسمع ولا يقدر شيئاً.. والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله وهو الضار النافع الخالق الرازق. أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصاً ولا تحولاً.."4.
وتلك حجتنا: أي: وتلك الحجة الدامغة التي تضمنها البيان السالف المثبتة للحق المزيفة للباطل هي الحجة التي أرشدنا إليه إبراهيم وأعطيناه إياها ليلزم قومه ويقنعهم بها" 5.
ومن ذلك قول مؤمن آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} 6.فقد أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط 7.
1 أبو السعود: إرشاد العقل السليم (2/ 177)، الآلوسي: روح المعاني (15/ 31)
2 الرازي: مفاتح الغيب (10/ 100) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الثالثة
3 سورة الأنعام، الآيات (81ـ 83)
4 صديق حسن خان: فتح البيان (3/ 191)
5 المراغي: التفسير (7/ 179)
6 سورة غافر، الآية (28)
7 أبو السعود: إرشاد العقل السليم (7/ 274)
وفي معناه: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} "وهو بين في هذا المعنى لأن السلامة تتحقق في الإيمان والخطر مأمون فيه، والمهالك مخوفة في مخالفته"1.
ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} 2.
والمعنى: "كما أنكم قضيتم بأنه ليس من عند الله وليس ذلك معلوماً بالضرورة فكذلك كونه من عند الله فتعالوا فتأملوا في الدلائل.. فاستدعاهم الله إلى النظر بطريق تجويز أن يكون من عند الله فإنه إذا جاز ذلك وكانوا قد كفروا به دون تأمل كانوا قد قضوا على أنفسهم بالضلال الشديد.."4.
وأما دلالة العقل: فالعقل يتفق مع السمع على حسن السعي في دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز المستوي الطرفين، ووجوب السعي في دفع المضار المطلوبة ووجوب السعي في الاحتياط في ذلك 5.
ومن القياس: أيضاً قياساً على إيمان المقلد دون أن ينظر في الأدلة وكذلك من يقول: إن معرفة الله ضرورية دون استدلال ولهم أدلة في ذلك 6.
وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للعامة وقبول الشهادة منهم، وما اشتهر في أحاديث
1 ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 19)
2 سورة فصلت، الآية (52)
3 سورة الأحقاف، الآية (10)
4 ابن عاشور: التحرير والتنوير (20/ 16) ط. دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.
5 انظر: ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 18)
6 انظرها عند ابن الوزير: المصدر نفسه (ص: 19)
الشفاعة من تقرير إيمان المشفوع لهم بمثاقيل الذر وأدنى أدنى أدنى من ذلك 1.
ولقد اعتمد الشيخ رشيد رحمه الله هذا الدليل وأقره، فقال عند تفسيره لقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} 2. "..ولو نظروا في توقع قرب أجلهم لاحتاطوا لأنفسهم ورأوا أن من العقل والروية أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم لأن خبريته لهم في الدنيا ظاهرة لم يكونوا ينكرونها، وأما خيريته في الآخرة فهي أعظم إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء وهو صدق وحق وإن صح إنكارهم له وما هو بصحيح فلا ضرر عليهم من الاحتياط له، كما قال الشاعر:
قال المنجم والطبيب كلاهما
…
لا تبعث الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
…
أو صح قولي فالخسار عليكما
فالمجنون إذاً من يترك ما فيه سعادة الدنيا باعترافه وسعادة الآخرة ولو على احتمال ضرر تخلفه، لا من يدعو إلى السعادتين أو إلى شيئين يجزمون بأن أحدهما نافع قطعاً والآخر إما نافع وإما غير ضار.
هذا ما دعاهم إليه صاحبهم بكتاب ربهم مؤيداً بالبراهين العقلية العلمية، لعلهم يعقلون ويعلمون.. {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 3.
ومثل هذه الآية التي فسرها الشيخ رشيد على هذا الوجه: قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4.
1 المصدر نفسه.
2 سورة الأعراف، الآية (185)
3 تفسير المنار (9/ 457 ـ 458)
4 سورة البقرة، الآية (28)
فهذا تخويف بالموت الضروري والمعاد إليه النظري 1 فالعاقل إذا تأمل هذا رجح كفة الإيمان ولولم يكن لديه إلا هذا البرهان، كيف وقد قامت قبل ذلك براهين لا تدفع وحجج لا تمنع.
وفي نهاية كتاب الوحي المحمدي، وقد أورد فيه الشيخ رشيد كل ما استطاع من حجة، على ثبوت نبوة نبينا، صلى الله عليه وسلم، ودعا العالم أجمع إلى الإيمان به، ختمه بهذه الآية:
وهذا ذهاب منه إلى أن هذا الدليل هو الأخير بعد كل ما أورد من الأدلة وتقرير له. فهذا الدليل قد قامت عليه شواهد من العقل والشرع واعتبره الكتاب العزيز، وذهب إليه وقرره بعض أهل العلم وإن رفضه المتكلمون، فإننا نقبله ونعتبره دليلاً صحيحاً معتبراً في معرفة الله تعالى والإيمان به.
وقد تبين من خلال عرض آراء الشيخ رشيد في المعرفة أنه قد خالف المتكلمين في إيجابهم المعرفة النظرية الجدلية، وأنه أقر النظر الشرعي البسيط المستطاع للكافة وهو النظر القرآني.
وأنه خالفهم في عدم وجوب النظر العقلي المجرد، وخالفهم في إقراره للمعرفة الفطرية التي لا يقرها المتكلمون 4، وفي تعدد طرق المعرفة، مخالفة للمتكلمين الذين يوجبون طريقاً واحداً لمعرفة الله تعالى،
1 ابن الوزير: إيثار الحق (ص: 19)
2 سورة فصلت، الآيات (52 ـ 54)
3 الوحي المحمدي (ص: 356)
4 راجع عن موقف السلف والمتكلمين من هذه المسألة: "فطرية المعرفة وموقف المتكلمين منها" د. أحمد سعد حمدان.