الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما اصطلاحاً، فقد عرفها معتمداً على مصدرين: أحدهما التعريفات للجرجاني 1، والثاني: المواقف للإيجي 2، والذي كان يعتبره ـ حتى المجلد الخامس ـ هو أعظم كتب الكلام 3. وشرح الشيخ رشيد قول الجرجاني "العصمة: ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها" 4، فقال: "أي أن المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشرع بزاجر منها يحول دون الوقوع فيه، فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس، وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون لغيرهم ـ بحسن التربية ـ من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظاً للتفرقة
…
" 5. يعني التفرقة بين الأنبياء وغيرهم.
1 هو علي بن محمد بن السيد الزين من كبار العلماء بالعربية، فيلسوف، توفي سنة 816هـ. وانظر: الزركلي: الأعلام (5/ 7)
2 سبقت ترجمته.
3 مجلة المنار (5/ 21)
4 التعريفات (ص: 131)
5 مجلة المنار (5/ 18)
المطلب الثاني: بعض مسائل العصمة:
يفصل رشيد رضا في بعض المسائل المتعلقة بالعصمة، ومنها:
أولاً: العصمة من الصغائر:
وقد وقع خلاف في جواز وقوع صغائر الذنوب من الأنبياء فذهب قوم إلى جوازه، إلا أنهم لا يقرون عليها، بل ينبهون فيتوبون ويستغفرون 6. وذهب آخرون إلى امتناع ذلك عليهم ـ صلى الله تعالى عليهم ـ لأننا مأمورون بالتأسي بهم، وأولوا ما ورد في ذلك مما ظاهره إثبات الذنوب للأنبياء واستغفارهم منها 7.
6 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 419 و320، و15/ 150)
7 انظر: القاضي عياض: الشفاء (ص: 136) وما بعدها.
واحتج الأولون بظواهر الآيات التي تدل على ما ذهبوا إليه،
كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 1.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2.
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 3.
وقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 4.
وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} 5. فهذا وغيره فيه إثبات الأوزار والذنوب والخطايا على الرسل ـ صلى الله تعالى عليهم ـ وأجيب عن كل ذلك بأجوبة منها أن ذلك كان من بعضهم قبل النبوة، وأنها ـ لعلو منزلتهم وشدة خوفهم من الله تعالى، ليست ذنوباً حقيقية وإنما هي أشياء خافوا منها، وقد وقعت منهم بناءً على اجتهاد لم يسبق فيه نص، أو هي: كانت ـ كما قيل ـ: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي أنهم يرونها بالنسبة إلى نبوتهم كالسيئات ـ لذلك استغفروا منها، وأخبروا أنها قد غفرت لهم 6.
وأما الشيخ رشيد فيقول ـ بعد إثباته للعصمة كما سبق ـ أنه ليس معناها أن الأنبياء "آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الضعف البشري من التقصير في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه الأكمل، ومن الخطأ في الاجتهاد في بعض المصالح والمنافع ودفع المضار
…
ولا يمكن أن يحيط بوجوه المصالح والمنافع ودرء المضار والمفاسد إلا من هو بكل شيء عليم، ومن ليس له هذه الإحاطة قد يخطئ في اجتهاده فيعمل العمل وهو يعتقد أنه الصواب والخير فيجيء بخلاف ذلك ومثل هذا يسمى ذنباً من الكامل والمقرب
…
فإذا وقع
1 سورة الفتح، الآية (2)
2 سورة محمد، الآية (19)
3 سورة التوبة، الآية (43)
4 سورة طه، الآية (121)
5 سورة الشعراء، الآية (82)
6 انظر: القاضي عياض، الشفاء (ص: 149 ـ 150)
هذا من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه ويغفره لهم ويأمرهم بتبليغ ذلك لأمتهم ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد، فلا يفضي بهم الغلو بتعظيم أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى
…
" 1.
ثم أورد الشيخ رشيد أمثلة لذلك منها قصة الأعمى 2، ومسألة زيد وزينب 3، ومسألة أسرى بدر 4، كأمثلة على اجتهادات خالفت الأولى أو الصواب. ثم قال: "فهذه هي ذنوب الأنبياء وهم يستغفرون منها وهي مغفورة لهم بفضل الله تعالى
…
وإنما فيها فائدةمعرفة الناس أن النبي وإن جل قدره وعلت نفسه فهو بشر مثلهم ميزه الله تعالى بالوحي وجعله إماماً في الخير وأنه على هذه الخصوصية يعاتب وينسب إليه الذنب والتقصير ويمنحه الله المغفرة دلالة على أنه له أن يغفر له وله أن يعاقبه {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} 5
…
" 6.
إن الشيخ رشيد يثبت العصمة للأنبياء ولكن يثبت أيضاً ما يكون من مقتضى الجبلة البشرية والجنس الإنساني من جواز الخطأ في الاجتهاد واختيار الأقرب والأسهل إلى نفس الإنسان، لأن الأنبياء لا يتحولون بنبوتهم إلى آلهة وهذه هي الذنوب التي تقع منهم ويغفر لهم ولا يقرون عليها.
فالشيخ رشيد قد وافق أهل السنة في إثبات وقوع هذا النوع من الصغائر 7. إلا أنه أيضاً لم يخالف الفريق الآخر، لأنه لم يثبت ما أنكروه، وهو ما أراه راجحاً في المسألة، وأن الخلاف بين الفريقين لفظي، لأن الذنوب التي ينفيها هؤلاء غير الذنوب التي يثبتها هؤلاء، فإن الذي ينفيه
1 مجلة المنار (5/ 49)
2 انظر: سورة عبس، الآيات من (1 ـ12)
3 انظر: سورة الأحزاب، الآيات (37 ـ 39)
4 سورة الأنفال، الآيات (67ـ 69)
5 وانظر: مجلة المنار (5/ 49 ـ 50)
6 مجلة المنار (5/ 50 ـ 51)، وانظر أيضاً: الوحي المحمدي (ص: 53 ـ 54) ، وتفسير المنار (7/ 511 ـ 513)
7 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (4/ 319)
ليس كذنوب غيرهم ومعاصيهم، وإنما الذنوب التي لغيرهم هي ما يأخذ من اسمها وهو الشيء الدني الرذل، أما الأنبياء فإن أسوأ ما يكون منهم هو ما ذكر من خطأ في اجتهاد أو شيء دفعت إليه الجبلة الإنسانية، لولاه لكان الإنسان ملكاً 1.
وبناءً على ذلك لا يكون النسيان ـ مثلاً ـ منافياً للعصمة، وهو ما يقرره الشيخ رشيد 2.
ثانياً: العصمة في التبليغ:
قال الشيخ رشيد نقلاً عن الإيجي: "
…
إن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله تعالى، وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان بالوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزاً فأي ثقة بالوحي
…
" 3.
فالشيخ رشيد هنا يعتمد الدليل العقلي على عصمة الأنبياء بناءً على ثبوت نبوتهم حتى إن الدليل على العصمة في التبليغ هو نفس الدليل على النبوة نفسها 4.
العصمة من الكفر وكبائر الذنوب:
قال الشيخ رشيد: "وأجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها، وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه"5.
وأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر
1 انظر: القاضي عياض: الشفاء (ص: 150)، والوحي المحمدي (ص: 53 ـ 54ت)
2 تفسير المنار (7/ 508 ـ 509)
3 مجلة المنار (5/ 18)، وقارن مع الإيجي: المواقف (ص: 358)
4 المصدر نفسه والصفحة.
5 المصدر نفسه (5/ 19) وقارن مع: الرازي: عصمة الأنبياء (ص: 26) ط. دار الكتب العلمية، بيروت، 1409هـ.