الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: البعث يكون بالجسد والروح:
وقرر الشيخ رشيد رحمه الله مذهب السلف في الإيمان بالبعث، فقد ذهب أهل السنة إلى أن المعاد يكون بالروح والجسد معاً، لما دلت عليه النصوص الكثيرة الثابتة في الكتاب والسنة. فمن القرآن، قوله تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 1، وفي الحديث:"ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، ومنه يركب الخلق" 2، فهذا كله إشارة إلى أن ذرات الإنسان لا تفنى أبداً، وإنما تتفرق أجزاؤه في الأرض، ويبقى منه جزء لا يفنى ولا يتفرق، وبذلك تكون الإعادة، وهي عبارة عن جمع المتفرق. فالبعث لا يتحقق إلا بقيام الموتى من قبورهم بأجسادهم التي أطاعوا بها أو عصوا في الدنيا حتى يتحقق العدل الإلهي بإثابة المطيعين وتعذيب العاصين.
ولقد قرر الشيخ رشيد هذا المذهب ـ البعث بالجسد والروح جميعاً ـ فقال: "ومما جاء به القرآن مخالفاً لما عند النصارى من عقيدة البعث والجزاء أن الإنسان في الحياة الآخرة يكون إنساناً كما كان في الدنيا، إلا أن أصحاب
1 سورة طه، الآية (55)
2 البخاري، الصحيح، ك: التفسير، باب: ونفخ في الصور، ح: 4814 (8/ 414) مع الفتح.
الأنفس الزكية والأرواح العالية، يكونون أكمل أرواحاً وأجساداً مما كانوا بتزكية أنفسهم في الدنيا.. ولو كان البعث للأرواح وحدها لنقص من ملكوت الله تعالى هذا النوع الكريم المكرم من الخلق المؤلف من روح وجسد، فهو يدرك اللذات الروحية والجسمية، ويتحقق بحِكَم الله (جمع حكمة) وأسرار صنعه فيها معاً، من حيث حرم النبات والحيوان من الأولى، والملائكة من الثانية
…
" 1.
ولكن الشيخ رشيد ـ مع قوله بحشر الروح والجسد جميعاً ـ يرى أن الجسد المبعوث لا يجب أن يكون هو الذي كانت الأعمال التكليفية به، فيقول: "ليس للكفار شبهة قوية على أصل البعث
…
ولكن للمتقدمين والمتأخرين شبهة على حشر الأجساد ترد على ظاهر قول جمهور المسلمين: أن كل أحد يحشر بجسده الذي كان عليه في الدنيا أو عند الموت لكي يقع الجزاء بعده على البدن الذي اقترف الأعمال. وتقرير هذا الإيراد أن هذه الأجساد مركبة من العناصر المؤلفة منها مادة الكون كله وهي مشتركة يعرض لها التحليل والتركيب فتدخل الطائفة منها في عدة أبدان على التعاقب فمن الإنسان والحيوان ما تأكله الحيتان أو الوحوش ومنها ما يحرق فيذهب بعض أجزائه في الهواء
…
وينحل ما يدفن في الأرض فيها ثم يتغذى بكل منهما النبات الذي يأكله بعض الناس والأنعام فيكون جزءاً من أجسادهم، ويأكل الناس من لحوم الحيتان والأنعام التي تغذت من أجساد الناس بالذات أو بالواسطة، فلا يخلص لشخص معين جسد خاص به
…
" 2. وبعد أو أورد الشيخ رشيد هذه الشبهة ذكر ما أجاب به عنها بعض العلماء بأن للجسد أجزاء أصلية وأجزاء فضلية والذي يعاد بعينه هو الأصلي دون الفضلي. ولكن الشيخ رشيد لم يرض بهذا الجواب لأنه لا يدفع الشبهة 3. والذي اختاره هو: "أن التزام القول بوجوب حشر الأجساد التي كانت لكل حي بأعيانها لأجل وقوع الجزاء عليها غير لازم لتحقيق العدل، فجميع قضاة العالم
1 الوحي المحمدي (ص: 179)
2 تفسير المنار (8/ 472)
3 المصدر نفسه (8/ 473 و746)
المدني في هذا العصر يعتقدون أن أبدان البشر تتجدد في سنين قليلة ولا يوجد أحد منهم ولا من غيرهم من العقلاء يقول إن العقاب يسقط على الجاني بانحلال أجزاء بدنه التي زاول بها الجناية وتبدل غيرها بها، فما لم يكن عندنا نص صريح من القرآن أو الحديث المتواتر على بعث الأجساد بأعيانها فما نحن بملزمين قبول الإيراد وتكلف دفعه، فإن حقيقة الإنسان لا تتغير بهذا التبدل فقد تبدلت أجسادنا مراراً ولم تتبدل بها حقيقتنا ولا مداركنا، ولا تأثير الأعمال التي زاولناها قبل التبدل في أنفسنا، بل لم يكن هذا التبدل إلا كتبدل الثياب
…
" 1.
هذا ما أجاب به الشيخ رشيد على هذه الشبهة، ولدينا جواب آخر وهو الصحيح، وخلاصته: أن قدرة الله تعالى لا يعجزها جمع ما تفرق في الأرض والسماء من أجساد الناس، كما قال تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} 2 أي: ما تأكل من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم 3، فالقدرة والعلم هما الحجة في هذه المسألة.
1 تفسير المنار (8/ 4473) وانظر أيضاً: مجلة المنار (7/ 413)
2 سورة ق، الآية (4)
3 انظر: ابن كثير: التفسير (4/ 223) وانظر: د. محمد علي ناصر فقيهي: منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان (ص: 297) وما بعدها.