الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: الحياة السياسية في الدولة العثمانية:
عندما استولت الدولة العثمانية على البلاد العربية كانت قد وصلت إلى أوج قوتها، وأقصى حدود اتساعها. وبلغت ذروة مجدها. فإن طور "الاستيلاء والتوسع" في هذه الدولة قد بلغ مداه في عهد السلطان العاشر:"سليمان القانوني" 1 أو كما يسميه الأوربيون: "سليمان العظيم"2. إذ كانت الدولة العلية في عهده قد شملت شبه جزيرة مورة مع جميع بلاد البلقان وسارابيا والقرم، كما ضمت معظم أقسام المجر ووصلت إلى أسوار فيينا 3.
ويبدو أن الدولة العثمانية، أو الدولة العلية كانت قد انقطعت أنفاسها عندما وصلت إلى أسوار فيينا، فلم تتوسع حدود الدولة بعد ذلك توسعاً يذكر، بل أخذت تتقلص وتتراجع شيئاً فشيئاً 4. وصارت الدولة تفقد البلاد العربية الواحدة بعد الأخرى وفي تواريخ مختلفة. فلقد استولت فرنسا على الجزائر سنة 1830م. واستولت انجلترا على عدن 1839م. وبعد نحو أربعين عاماً احتلت فرنسا تونس 1881م. واحتلت إنجلترا مصر سنة 1882م. 5 وبعد ثلاثة عقود استولت إيطاليا على طرابلس الغرب سنة 1912م. وفي الأخير خرجت بقية البلاد العربية من حوزة الدولة العثمانية
1 انظر ترجمته عند: إبراهيم حليم: تاريخ الدولة العثمانية (ص 87) ط. مؤسسة الكتب الثقافية، ط1. وانظر محمود شاكر: التاريخ الإسلامي، ط. المكتب الإسلامي (8/104)، وأحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي (5/ 658) . وبروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ط. دار العلم للملايين، الخامسة، سنة 1968م. (ص450) .
2 انظر: بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية (ص457) .
3 انظر: ساطع الحصري: الدول العربية والدولة العثمانية، ط. دار العلم للملايين، بيروت (ص11ـ 12) .
4 ساطع الحصري: المصدر نفسه (ص11) .
5 المصدر نفسه: الصفحة نفسها. وانظر تفاصيل احتلال مصر: عند: جورجي زيدان: تاريخ مصر الحديثة، ط. مطبعة الهلال، الثانية 1925م. (من ص236 إلى ص 274)، وبتفصيل أكبر: عبد الرحمن الرافعي: الثورة العرابية، ط. دار المعارف ـ مصر.
خلال الحرب العالمية الأولى التي امتدت من 1914م. ـ 1918م. 1.
وبدأت أحوال الدولة تسير في الانحطاط ـ كما ذكرت ـ وبدءاً من عهد سليمان القانوني في أواخر القرن السادس عشر فقد بدأ الاختلال في أمور الدولة، أول ما بدأ باختلال نظام الانكشارية 2 الذي تحول في آخر الأمر إلى آلة فوضى وفساد 3. وتبع ذلك فساد أمور الإدارة بوجه عام، وضعفت لذلك الحكومة المركزية 4. وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا النظام إلى نتائج سيئة لأنه يفسح المجال أمام الولاة ومطامعهم 5. فالحكومة المركزية تميل أحياناً إلى استرضاء الوالي وتبقيه في منصبه تحت بعض الشروط، وتجنح أحياناً إلى الشدة وتأمر ولاة الولايات المجاورة بإرسال حملات عسكرية لتأديبه وإخضاعه لأوامر السلطنة. والوالي الذي ينجح في الحركة التأديبية بناء على أوامر السلطة كثيراً ما يطلب مكافأة له على عمله، إما بإقطاعه بعض المقاطعات الغنية وإما بتولية أحد أبنائه أو أقربائه 6.
إن الوقائع التي حدثت في مصر في عهد محمد علي باشا كانت دليلاً على الحالة التي وصلت إليها "الدولة العلية"، ولا يمكن أن نفهم تلك الأحداث على حقيقتها ما لم تؤخذ بنظر الاعتبار حالة الدولة العلية يومئذ.
1 انظر: ساطع الحصري: مصدر سابق (ص9ـ 10)، وأحمد شلبي: مصدر سابق (5/ 697) وما = = بعدها.
2 هم جند أنشأه العثمانيون على شكل خاص وأكثرهم من أصل مسيحي، من غلمان البلاد المفتوحة الذين فقدوا آباءهم فربوهم تربية إسلامية وعسكرية، ليكونوا لهم جنداً ليس لهم عصبية جنسية ولا دينية. وكان لهذه الفرقة تقسيم وتنظيم خاص، ليس له مثيل. انظر: جورجي زيدان: مصر العثمانية (ص: 65ـ 66) ط. دار الهلال، ت: محمد حرب.
3 انظر: بروكلمان: مرجع سابق (ص 539) . ومحمود شاكر: مرجع سابق (8/112ـ 113)، وساطع الحصري: مرجع سابق (ص:47) .
4 ساطع الحصري: مرجع سابق (ص 48) .
5 نفس المصدر (ص49)، ومحمود شاكر: مصدر سابق (8/121) .
6 كما في حالة محمد علي: انظر: جورجي زيدان: تاريخ مصر (ص160)، وقطاوي:"محمد علي وأوروبا" ط. دار المعارف، مصر. (ص193وص:78) . ومحمد حرب: السلطان عبد الحميد الثاني (ص22ـ 23) دار القلم ـ دمشق. ط1، 1410هـ. =1990م.
ففي منتصف القرن الثاني عشر الهجري = بدايات القرن السابع عشر الميلادي كانت حالة الدولة العثمانية قد بلغت أشد حالات فسادها بينما كانت أوروبا تتقدم في كل النواحي المدنية،. لذلك قام بعض المفكرين العثمانيين بالقول بضرورة الاستفادة من التقدم الغربي الأوروبي، لضمان المحافظة على وحدة الدولة العثمانية وعلى دوامها واستمرارها. ومن ثم أصبحت البلاد أمام بداية حركة إصلاحية تستلهم الغرب. وأول حركة إصلاحية بهذا المفهوم كانت في عهد السلطان "أحمد الثالث"1. ويشكل هذا العهد ـ بحركته الإصلاحية ـ ابتداء نفوذ الثقافة الغربية في الدولة العثمانية. وأخذت الدول الأوروبية تكتسب في بلاد المسلمين ميادين للعلاقات الثقافية بجانب علاقاتها السياسية بالدولة 2.
لذلك أخذت الدولة بإرسال السفراء إلى باريس وفيينا بقصد التعرف على أوروبة 3. وتوالت محاولات السلاطين الإصلاحية في الدولة العثمانية، غير أن تشخيص المرض لم يكن صحيحاً، فلذلك لم يكن الدواء ناجعاً. لقد كان تشخيص رجال الدولة للفساد الحاصل على المستوى الثقافي والديني والسياسي، خاطئاً من الأساس، إن كل ما ساد تصوره وقتها إن الدولة العثمانية تهزم في الحروب، إذن فالوسيلة الوحيدة لإعادة البنيان تكمن ـ فقط ـ في إقامة جيش قوي 4. لقد قام هذا الجيش ـ نفسه ـ بالتمرد على السلطان نتيجة إنشائه " جيشاً قوياً جديداً على النظام الأوروبي" 5. وبقيت أحوال الدولة هكذا تتدهور من سيء إلى أسوأ، وحتى جاء عبد الحميد الثاني وحاول أن يصنع شيئاً، أخر به سقوط الدولة ثلاثين عاماً 6.
1 انظر: ترجمته عند: إبراهيم حليم: الدولة العثمانية (ص158) وما بعدها، وانظر حركته الإصلاحية، عند: محمد حرب: السلطان عبد الحميد الثاني (ص17) .
2 انظر: محمد حرب: مرجع سابق (ص17) .
3 المصدر السابق: نفس الصفحة.
4 انظر: محمد حرب: مرجع سابق (ص20) .
5 انظر: إبراهيم حليم: الدولة العثمانية (ص195) وما بعدها. ومحمد حرب: مرجع سابق (ص21) .
6 انظر تفاصيل عمل عبد الحميد: عبد الحميد: مذكراتي السياسية (ص5ـ 7) . مقدمة محمد حرب، ط. مؤسسة الرسالة، الخامسة، 1406هـ. وترجمته هناك (ص11)، ومحمد حرب: السلطان عبد الحميد (ص105) وما بعدها.