الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: التوراة:
وتحدث رشيد رضا عن التوراة حديثاً كثيراً، ولكني أقتصر عل ما يناسب هذا الموضوع.
يفرق الشيخ رشيد بين التوراة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وأنه تبارك وتعالى أنزلها على موسى ـ وبين التوارة الحالية المقدسة عند اليهود والنصارى، فالتوراة المذكورة في القرآن هي ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى عليه الصلاة والسلام ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به، وقد بين تعالى أن قومه لم يحفظوه كله، كما قال تعالى:{وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} 1 كما أخبر عنهم في آيات أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وذلك فيما حفظوه واعتقدوه 2، فهذه التوراة القرآنية هي التي يجب أن نؤمن بها 3.
أما التوراة المتداولة الآن بين أهل الكتاب فيعرفها الشيخ رشيد لغة واصطلاحاً فيقول: "التوراة كلمة عبرانية معناها المراد: الشريعة أو الناموس. وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار، يقولون إن موسى كتبها،
1 سورة المائدة، الآية (14)
2 سورة النساء، الآية (46)
3 تفسير المنار (3/ 155)
وهي: سفر التكوين؛ وفيه الكلام عن بدء الخليقة، وأخبار بعض الأنبياء، وسفر الخروج، وسفر اللاويين أو الأخبار، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع، ويقال: التثنية فقط
…
" 1.
ويقرر الشيخ رشيد أن التوراة الحالية تشهد بما قرره القرآن من وقوع التحريف فيها، ويستدل على ذلك بأدلة منها:
أولاً: أنه لم يقم دليل على أن موسى هو الذي كتب هذه التوراة، بل قام الدليل عند الباحثين من الأوروبيين على أنها كتبت بعده بمئات السنين. قال الشيخ رشيد:"ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أول مرة، ولا دليل على أن موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنما كانت لغته مصرية، فأين التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنه؟ "2.
والحق ما قاله الشيخ رشيد، فمن المعقول جداً أن تكون التوراة التي نزلت على موسى المصري هي بلسان قومه كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 3 وإلا فكيف يخاطب موسى فرعون والمصريين بلغة عبرانية لا يفهمونها، والأقرب أن موسى كان هو وقومه من بني إسرائيل يتكلمون المصرية القديمة، من أن يتكلم المصريون، الذين كانوا يعدون بني إسرائيل عبيداً لهم، لغة هؤلاء العبيد. إلا أنني لم أجد أحداً أشار إلى هذه الملاحظة غير رشيد رضا، والجميع يقولون إن التوراة دونت باللغة العبرية لغة إسرائيل 4.
ثانياً: أن النسخة التي كتبها موسى فقدت، وكان عندهم قراطيس
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 تفسير المنار (3/ 266)
3 سورة إبراهيم، الآية (4)، وانظر: ابن كثير: التفسير (2/ 504)
4 انظر: صابر طعيمة: التراث الإسرائيلي ط. دار الجيل، بيروت، 1399هـ (ص: 328) وما بعدها. ومحمد علي البار: المدخل لدراسة التوراة ط. دار القلمن دمشق، الأولى، 1410هـ (ص: 126) ، ود. يحيى ربيع: الكتب المقدسة (ص: 102) ط. دار الوفاء، الأولى، 1415هـ.
متفرقة ـ يبدونها ويخفون كثيراً منها ـ فأرادوا أن يؤلفوا بين الموجود فجاء فيه ذلك الخلط، وقد وقعت هذه المحاولة بعد موسى بعدة مئات من السنين 1.
ثالثاً: أن الإلهام الذي ادعوا أن عزرا جمع تلك الكتب بناءً عليه ويحتجون بذلك على صدقها وسلامتها، لا سبيل إلى إقامة البرهان عليه. "وهو مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لا ثقة بنقلهم، ولو جمع عزرا بالإلهام الصحيح لكتب شريعة موسى مجردة عن الأخبار التاريخية، ومنها ذكر كتابته لها ووضعها في جانب التابوت وذكر موته وعدم مجيء مثله 2.
رابعاً: أن علماء أوروبا قد قرروا أن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة ولا يمكن أن تكون كتابة واحد 3.
خامساً: اشتمال التوراة الحالية على حوادث وقعت بعد موسى أي: أن موسى لا يمكنه كتابتها، ومنها خبر موته، وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله "فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وما هما في الحقيقة من الشريعة المنزلة على موسى"4.
غير أن الشيخ رشيد يقرر أن التوراة الحالية لا بد أن تكون مشتملة على بعض الحقائق "لأن القرآن يقول في اليهود: إنهم أوتوا نصيباً من الكتاب 5، كما يقول: إنهم نسوا حظاً مما ذكروا به 6 ولأنه يستحيل أن تنسى تلك الأمة بعد فقد كتاب شريعتها جميع أحكامها، فما كتبه عزرا
1 تفسير المنار (5/ 140 و3/ 266)
2 تفسير المنار (3/ 157 ـ 158)، وانظر: الكتاب المقدس: التثنية (34/ 10 ـ 12)
3 تفسير المنار: نفس الصفحة، وانظر: صابر طعيمة: التراث الإسرائيلي (ص: 310) وما بعدها.
4 محمد رشيد رضا: تفسير المنار (3/ 157)
5 سورة النساء، الآية (44)
6 سورة المائدة، الآية (14)
وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف في الاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة وللشهادة بأن فيها حكم الله كما في سورة المائدة 1، وبهذا يجمع بين الآيات الواردة في التوراة وبين المعقول والمعروف في تاريخ القوم" 2.
1 الآية (44 و45)
2 تفسير المنار (3/ 158)