الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: الجنة والنار
المبحث الأول: الجنة ونعيمها
…
المبحث الأول: الجنة ونعيمها:
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة وأنها حق لا ريب فيها. والجنة هي دار النعيم التي أعدها الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين المشتملة على أصناف النعيم والبهجة والسرور. وقد أكثر الله تعالى من ذكر الجنة ونعيمها في كتابه الكريم، قال تعالى:
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ. كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} 2.
وأما الأحاديث التي تدل على الجنة ونعيمها فكثيرة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"
1 سورة الدخان، الآيات (51 ـ 56)
2 سورة محمد، الآية (15)
قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 1.
وقد تحدث الشيخ رشيد رحمه الله عن الجنة ونعيمها عند كل موضع ذكرت فيه في الكتاب العزيز كما أنه أجاب عن أسئلة قرائه عنها في مجلة المنار، وأثبت الشيخ رشيد نعيم الجنة الروحي والجسمي، فقال في تعريف الجنة: "والجنة في اللغة البستان والجنات جمعها، وليس المراد بها مفهومها اللغوي فقط
…
فالجنة دار الأبرار والمتقين
…
" 2. وعن الإيمان بها يقول: "وإننا نؤمن بتلك الجنات والحدائق، وأنها أرقى مما نرى في هذه الدنيا وأنه ليس لنا أن نبحث عن كيفيتها لأنها من عالم الغيب
…
" 3، وهنا نرى امتداد المنهج الذي اختطه الشيخ رشيد في الإيمان بالغيب، وهو تفويض الكيفية مع إثبات الحقائق وهو امتداد لمنهجه السلفي في الإيمان بالصفات الإلهية، ولكنه ـ وكما رأينا من قبل ـ يخالفه أحياناً.
وأثبت الشيخ رشيد ـ رداً على سؤال ـ وجود الجنة والنار الآن، فقال: "ظواهر نصوص الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة المتفق عليها تدل على أن الجنة والنار داري الجزاء للأبرار والفجار، هما عالمان مخلوقان، ولا نرى ما يعارض هذه الظواهر من الدلائل العقلية ولا النقلية
…
" 4. وهذا الذي ذهب إليه متواتر متفق عليه 5.
وقسم الشيخ رشيد نعيم الجنة إلى روحاني وجسماني، فقال: "إن من أصول العقائد القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن نعيم الآخرة قسمان: روحاني وجسماني، لأن البشر لا تتقلب حقيقتهم في الآخرة بل
1 سورة السجدة، الآية (17)، والحديث أخرجه البخاري: ك: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ، ح: 7498 (13/ 473)
2 تفسير المنار (1/ 231)
3 المصدر نفسه (4/ 431)
4 مجلة المنار (19/ 281 ـ 282)
5 انظر: الكتاني: نظم المتناثر (ص: 148)، وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 614) ط. التركي.
يبقون بشراً أولي أرواح وأجساد، ولكن الروحانية تكون هي الغالبة على أهل الجنة، فيكون النعيم الروحاني عندهم هو أعلى من النعيم الجسماني
…
" 1.
ويقرر الشيخ رشيد أن أعلى نعيم أهل الجنة لقاء الله تعالى بتجليه عليهم تجلياً يحصل لهم به أعلى ما استعدت له أنفسهم وأرواحهم من المعرفة، كما أن أعظم عقاب لأهل النار حجبهم عن ربهم وحرمانهم من هذا التجلي والعرفان، الخاص بدار الكرامة والرضوان 2، ويقرر أن هذه هي الرؤية التي أثبتها أهل الأثر "لدلالة ظواهر القرآن ونصوص الأحاديث عليها، ومنعوا قياس رؤية الباري تعالى على رؤية المخلوقات بدعوى استلزامها التحيز والحدود وغير ذلك من صفات الأجسام، وقالوا: إننا لا نبحث في كيفية ذاته ولا صفاته تعالى، فإننا نجزم بأن له علماً وقدرة وسمعاً وبصراً، ولكن علمه ليس كعلمنا ناشئاً عن انطباع صور المعلومات في النفس ومكتسباً لها بالحواس أو الفكر، وكذلك قدرته وسائر صفاته، فنحن نجمع بين الإيمان بالنصوص في أسماء الله وصفاته، وأفعاله وسائر شؤونه، وبين تنزيهه عما لا يليق به من مشابهة خلقه الممنوعة بدلائل النقل والعقل كما قال عزوجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3 ثم أشار إلى أن الذين نفوا الرؤية هم: "أهل الكلام والفلسفة بناءً على قياس الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق ودعوة منافاة الرؤية للتنزيه 4.
وعلى خلاف مذهب الفلاسفة الذين يكذبون باليوم الآخر وبالجنة والنار ويدعون عدم حقيقة ذلك 5، وكذلك خلافاً لأهل الكتاب الذين
1 المصدر نفسه (19/ 282)
2 المصدر نفسه (19/ 283)
3 سورة الشورى، الآية (11)
4 مجلة المنار (19/ 283) وقد سبق بحث مسألة الرؤية في الباب الأول من هذا البحث، الفصل الثالث (ص:395) بشيء من التفصيل.
5 انظر: سليمان دنيا: مقدمة حاشية محمد عبده على الدواني (ص: 17 ـ 18)
يعتبرون ذلك مجرد نعيم روحي وعذاب روحي 1، يقول الشيخ رشيد بأن الجنة والنار حقيقتان، وإن كان لهما مدلول شرعي غير ما يدل عليه مجرد المعنى اللغوي 2.
ويقرر الشيخ رشيد وجود اللذات الحسية في الجنة لأن الإنسان "يبعث في الآخرة كما كان في الدنيا أي أن حقيقته لا تبدل فتخرج عن الإنسانية إلى حقيقة أخرى، بيد أنه يكون في الجنة أرقى مما كان في الدنيا فتكون حياته دائمة سليمة من العلل، ومتى كان الإنسان إنساناً فلا وجه لاستكثار أكله وشربه وغشيان أحد زوجيه للآخر حقيقة. وقد جاءت الآيات صريحة في ذلك فلا وجه لإخراجها عن ظاهرها وتحريفها عن معانيها اتباعاً للهوى والرأي"3.
وبناءً على ذلك يثبت الشيخ رشيد لذة الزوجية والمعاشرة في الجنة وما يترتب عليه من أسئلة عن المرأة ذات الزوجين وقسمة نساء الجنة على أهلها، وعن الولادة والتناسل في الآخرة 4.
خلود نعيم الجنة:
ويبقى هنا ـ بعد ذكر هذا النعيم ـ الكلام على دوامه وهل هو باقٍ إلى الأبد أو موقت بوقت يزول فيه. فيرى الشيخ رشيد أن نعيم الجنة باقٍ لا يزول ولا يفنى، فعند قوله تعالى:{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 5، قال: "الخلود في اللغة طول المكث، ومن كلامهم: خلدني السجن، كما في الأساس، وفي الشرع الدوام الأبدي، أي: لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها
…
" 6.
1 انظر: فرج الله عبد الباري: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام (ص: 276)
2 مجلة المنار (10/ 442)
3 المصدر نفسه (9/ 207 ـ209)
4 انظر: مجلة المنار (32/ 91 و9/ 261) وتفسير المنار (1/ 233 و3/ 248)
5 سورة البقرة، الآية (25)
6 تفسير المنار (1/ 234)
فالجنة عند الشيخ رشيد لا تزول ولا تفنى أبداً، وهذت المذهب هو مذهب أهل السنة وهو ما نص عليه أئمته المحققون 1.
1 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص: 613) ط. التركي.