الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
لقد عرض الباحث من خلال هذه الرسالة إلى منهج رشيد رضا في العقيدة فتناول موقفه من مصادر أهل السنة وقواعدهم في الاستدلال، وعرض آراء رشيد رضا في أبواب ومسائل العقيدة المختلفة، وقد توصل إلى النتائج والتوصيات الآتية:
أولاً: نتائج البحث:
بعد أن عرضت منهج رشيد رضا في العقيدة ومسائلها معتمداً في ذلك على كتابات رشيد رضا مباشرة وسبر مؤلفاته جميعاً، قد تبين لي ما يلي:
أولاً: أن رشيد رضا لم يكن مصرياً لا مولداً ولا نشأة ولا تعليماً، بل مهاجراً، وكانت كل نشأته العلمية في موطنه الأصلي وأتى مصر بعدما اكتملت نشأته العلمية هناك.
ثانياً: إن الحالة السياسية والعلمية والدينية في مصر ومقارنتها مع الشام، هي التي دفعت رشيد رضا إلى الهجرة من الشام إلى مصر، إذ كانت مصر مستقرة سياسياً بتولي محمد علي وأولاده عرشها، وانفرادهم به، واهتمامهم بنهضتها وقوتها بينما كانت الشام ما تزال خاضعة لنظام تعاقب الولاة الذين كانوا سبباً أساسياً في إرهاق أهل الشام. مضافاً إلى ذلك الضغط الزائد من السلطة العثمانية على بلاد الشام، خوفاً منها أو عليها، مما ضيق مجال العمل الإصلاحي الذي كان ينشده رشيد رضا وأمثاله، مقارنة بما كانت تنعم به مصر من الحرية.
ثالثاً: كانت النشأة العلمية لرشيد رضا ضعيفة بسبب الحالة العلمية التي مرت بها الشام آنذاك، إذ لم تكن هناك مدارس عربية لتعليم العلوم الدينية، مما دفع رشيد رضا وغيره إلى الاعتماد على العلماء في التلقي، ولم يكن هؤلاء جميعاً في درجة واحدة من العلم، على أنهم لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة، وكانت نتيجة ذلك وقوع رشيد رضا في أخطاء واضحة ولا سيما بعد خلافته لمحمد عبده في زعامة المدرسة الإصلاحية، ومواجهته لقضايا هامة ومسائل معقدة.
رابعاً: كانت مرحلة رشيد رضا في الشام مرحلة غلب عليه فيها التصوف، كما غلب عليه طابع المتكلمين، فرغم مشاركته في كثير من العلوم إلا أن السمة الغالبة عليه ـ كما على غيره من طلبة العلم على طريقة الأزهريين ـ هي طابع المتكلمين، وعندما هاجر إلى مصر ولقي محمد عبده وكان رجلاً متأثر بالفلسفة القديمة التي أشربها من كتاب الإشارات لابن سينا حيث شرحه له الأفغاني، والفلسفة الحديثة التي أخذها أثناء وجوده في فرنسا. كان رشيد رضا قد خرج من حفرة صغيرة فوقع في هوة سحيقة.
خامساً: لم يلبث رشيد رضا أن تعرف على منهج السلف بطريق الكتب السلفية التي كانت تطبع في مصر في مطبعة بولاق وغيرها، ومنها كتابات ابن تيمية وأئمة دعوة التوحيد بنجد الذين أتوا مصر واستقروا فيها قبل ذلك. ومن هنا تحول رشيد رضا واطمأن بمذهب السلف الصالح، وكان تحوله هذا تدريجياً وزادت درجته بعد وفاة محمد عبده واستقلال رشيد رضا بالعمل.
سادساً: اعتمد رشيد رضا على مصادر التلقي عند أهل السنة وهي الكتاب والسنة والإجماع، كما أنه اعتمد في فهمه هذه المصادر على تلك القواعد التي أقرها السلف الصالح، كما أنه ـ في مرحلته الأخيرة ـ قد وضع العقل في موضعه وأعطى الفطرة حقها. إلا أنني قد أخذت على رشيد رضا بعض المآخذ في مسألة نسخ التلاوة، كما أنني بينت موقفه السلبي من السنة الذي خالف فيه ما كان عليه السلف وأجبت هناك ـ قدر الإمكان ـ على ما
أثاره من شبهات. وقد كان لهذا الموقف من رشيد رضا أثره الكبير، والذي كان من ثمرته بعد ذلك كتاب أبي رية في الطعن في السنة النبوية معتمداً على رشيد رضا، كما أنني أخذت على رشيد رضا موقفه في دليل الإجماع الذي بدا لي أنه لم يعرف معناه الشرعي فأدخل فيه ما ليس منه وأخرج منه ما هو منه.
سابعاً: وقد وقف رشيد رضا في تعريف الإيمان موقفاً صحيحاً لغة وشرعاً، فقد بين المعنى اللغوي للإيمان وأنه ليس مجرد التصديق فقط، كما بين التعريف الشرعي له وأنه قول وفعل. كما أنه قرر أن الإيمان يزيد وينقص كما يقول أهل السنة لا بحسب زيادة العمل اللازم له فقط، بل بحسب ما في نفس قلب المؤمن. وبين رشيد رضا العلاقة بين الإسلام والإيمان واختار الرأي الراجح عند أهل السنة في ذلك وهو أنه إذا اجتمع الإيمان والإسلام افترقا في المعنى وإذا افترقا اجتمعا.
ثامناً: في باب الإيمان بالله تعالى، قسم رشيد رضا التوحيد إلى أقسامه الثلاثة": الربوبية والألوهية والصفات، متابعة لأهل السنة، وفي فصل الربوبية قرر رشيد رضا المعنى الصحيح لها وبين الفرق بين اسم الرب واسم الإله، كما أنه قرر المعرفة الفطرية الضرورية التي رفضها المتكلمون. واستدل بالفطرة على وجود الله تعالى وربوبيته كما استدل بالنظر القرآني وهو النظر في كتاب الكون، لا النظر الفلسفي عند المتكلمين، واتخذ موقفاً صحيحاً من مسألة حدوث العالم.
وفي فصل الألوهية قرر رشيد رضا توحيد الله تعالى أتم تقرير فقد بين معنى اسم الإله ومعنى العبادة، وذكر صوراً منها وبين خطر الشرك فيها وأثره السيء في النفس والكون. كما ذكر صوراً من الشركيات التي وقع فيها المسلمون ومنها الواسطة والتوسل والشفاعة
…
إلخ. وكان رشيد رضا في ذلك متأثر بأئمة دعوة التوحيد في نجد، ناشراً لفتاواهم ورسائلهم.
وفي فصل الصفات قرر رشيد رضا منهج السلف في إثبات الصفات القائم على الإثبات والتنزيه وتفويض الكيفية، وقرر نفس القواعد التي اعتمد
عليها مثل: القول في الصفات كالقول في الذات، وقد اعتمد رشيد رضا في هذا على ما كتب السلف الصالح، والكتب التي تشرح وتصور منهجهم ككتب ابن تيمية ومدرسته.
وفي مفردات الصفات التي تكلم عنها وقسمها إلى ذاتية وفعلية، كان رشيد رضا ناجحاً في تطبيق المنهج العام الذي قرره، إلا أنه لم يكن واضحاً أحياناً، ونقصته الشجاعة والجرأة في أحيان أخرى، إلا أنه في العموم كان موفقاً لا سيما في إثباته الصفات الفعلية وتجددها وهي التي كانت مثار نقاش طويل وحاد بين السلفيين والمتكلمين جميعاً. كما أثبت صفات الفعل الخبرية كالمحبة والرحمة والرضا والغضب.
تاسعاً: في فصل القدر لم يستطع رشيد رضا أن يحدد بدقة الفرق بين تعريف السلف للقدر وبين تعريف القدرية، ولم يبين الفرق الهام بينهما، مع أنه قرر مراتب القدر التي فصلها أهل السنة وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق، إلا أنه غلبت عليه مسألة الأسباب فصرفته عن معرفة تعريف القدر الصحيح. وفي بقية المسائل كان رشيد رضا موفقاً فقد قرر مذهب السلف في مسائل: الحسن والقبح، والحكمة والتعليل، والصلاح والأصلح، والاحتجاج بالقدر وربط الأسباب بالمسببات، إلا أنه في مسألة العمر والرزق وإن كان قد اقترب من قول السلف إلا أنه لم يكن موفقاً في مسألة العمر التقديري الذي اعتمد فيع على غير معتمد وهو ما يقرره الأطباء افتراضياً بحسب الاستقراء. ويثبت هناك أن الواجب اتباع الشرع في ذلك، وأن الراجح هو قول السلف مع أن الزيادة في العمر والرزق بحسب ما في علم الملك.
عاشراً: لم تكن تهمة إنكار الملائكة التي وجهها يوسف الدجوي لرشيد رضا صحيحة، إذ أن رشيد رضا قد قرر وجوب الإيمان بالملائكة وأنه ركن من أركان الإيمان، وتحدث عن بعض صفاتهم ووظائفهم. وكذلك أثبت وجود الجن والشياطين إلا أنه اتخذ موقفاً متشدداً ومحتاطاً في مسألة رؤيتهم وتلبسهم بالإنس، ولكنه على كل حال قرر في مسألة التلبس وإخراج
الجني أنه قد يكون معجزة لنبي أو كرامة لولي، وإنما كان يتشدد وينكر ما طرأ واحتف بهذه المسألة من الشركيات والخرافات التي شوهت حقيقة التوحيد.
حادي عشر: قرر رشيد رضا أن الإيمان بالكتب الإلهية ركن من أركان الإيمان، وتحدث بالتفصيل عن هذه الكتب وخص القرآن الكريم بعناية خاصة لأنه الكتاب السماوي الوحيد الباقي صحيحاً سليماً من التحريف والتبديل. كما أنه بين الفرق بين الكتب الأخرى والتي وردت في القرآن الكريم وبين الكتب المتداولة الآن بين أيدي أهل الكتاب وبين الأدلة على أنها حرفت و"طورت".
ثاني عشر: كما قرر رشيد رضا الإيمان بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى لهداية الخلق في كل زمان ومكان، وقرر الإيمان بأسمائهم التي وردت في الكتاب العزيز. إيماناً تفصيلياً وقرر الإيمان بمن لم يرد فيه من الرسل إيماناً إجمالياً مع توقفه في العدد الوارد في بعض الأحاديث. إلا أنه أنكر نبوة آدم بمعنى النبوة الاصطلاحية وقرر أنها نبوة نظرية تربوية ليست رسالة وحي وكتاب. وقد بينت أن الصحيح أن آدم كان نبياً معلماً مكلماً كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
وفي عصمة الأنبياء كان رشيد رضا موفقاً إذ أثبتها وبين معناها وقارن بين عصمة الأنبياء عند المسلمين وعصمتهم عند أهل الكتاب الذين نسبوا إليهم كل الجرائم والشرور، ولكنه امتد به الأمر في العصمة حتى أنكر سحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم مع ثبوته، بحجة أنه يطعن في العصمة وفي النبوة، وكان هذا الموقف منه دليلاً على بقاء بعض أثر لفلسفة شيخه محمد عبده في فكره. ودليل آخر على ذلك وجدته في معجزات الأنبياء، التي وإن كان رشيد رضا قد قررها وأحسن فيها، إلا أنه عدّ بعضها من قوى النفس ورد منها انشقاق القمر لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بناء على ما كان عليه الفلاسفة من الإيمان بالمعجزات التي هي من قبيل تأثير قوى النفس دون سواها، كانشقاق القمر.
ثالث عشر: تشدد رشيد رضا في مسالة الكرامات لنفس السبب الذي كان وراء موقفه من تلبس الجن، وهو الحال التي وصل إليها مدعو الكرامات، ولكنه على كل حال أثبت الكرامات الحقيقية، وأثبت الولاية الصحيحة، وفرق بين أولياء الله الصالحين وبين مدعي الولاية الكاذبين وبين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق الأشقياء.
رابع عشر: اتخذ رشيد رضا موقفاً صحيحاً في مسالة الصحابة وأقر بفضلهم جميعاً ووجوب الترضي عنهم وهاجم الرافضة الذين اتخذوهم غرضاً وطعنوا فيهم، إلا أن موقفه من معاوية رضي الله عنه كان غير مرضي إذ كان فيه قصور شديد استدعى مني أن أبين للقراء باختصار بعض ما ورد في مناقب هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه.
وفي مبحث الخلافة وافق رشيد رضا أهل السنة في تعريفها وفي شروطها وفي طرق التولي وفي طاعة أولي الأمر. إلا أنني لاحظت عليه التأثر بالأفكار التي انتشرت في عهده وكان مصدرها الفكر الغربي كمسألة سلطة الأمة وهي إحدى مبادئ النظام "الديمقراطي" وهو ما دفعه لاعتبار الشورى واجبة على الإمام، كما أنني أخذت عليه دعوته إلى تغيير الخليفة المتغلب وهو ما يعد دعوة للخروج ترفضها الشريعة.
خامس عشر: وقد أثبت رشيد رضا أن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وقرر مسائل هذا الباب كالموت والبرزخ وعذاب القبر والبعث ـ بالروح والجسد ـ وأكد رشيد رضا على أن الله تعالى قد استأثر بعلم "الساعة" ولكنه تجاوز ذلك إلى إنكار أشراط الساعة وكان في ذلك متأثراً بشيخه محمد عبده.
وقرر رشيد رضا أن الصراط حق وكذلك الميزان إلا أنه أنكر صفته الواردة في السنة، كما أثبت وجود الجنة والنار وخلقهما الآن وأنهما موجودتان، كما قرر أبدية الجنة ولكنه توقف في فناء النار مختاراً نفس الموقف الذي اتخذه ابن القيم في ظنه.
سادس عشر: لقد تبين لي من خلال عرض منهج وآراء رشيد رضا
في العقيدة أنه كان متأثراً بعدة مدارس مختلفة، منها مدرسة شيخه محمد عبده الفلسفية، ومدرسة ابن تيمية السلفية، وبناءً على ذلك تعددت الآراء فيه فعده بعضهم محسوباً على هؤلاء وعده آخرون على هؤلاء، وكلا نظر إلى جانب واحد، ولكني أقول إحقاقاً للحق أن الذي غلب على رشيد رضا ـ لا سيما في آخر حياته ـ هو المنهج السلفي المتأثر فيه بمؤلفات ابن تيمية ومدرسته.
سابع عشر: لقد بقيت أفكار وآراء رشيد رضا بعد وفاته ولم تمت بموته، بل بقيت في تلامذته وأشدهم تأثراً به "أنصار السنة" في مصر وغيرها، وذلك بسبب انتشار مجلة المنار في العالم الإسلامي وقوة تأثيرها الذي أخذته من قوة منشئها وبيانه وحجته وبلاغته، واعتماده على الدليل المباشر من الكتاب والسنة، كما ورثت مجلة الهدي النبوي مجلته المنار ورددت نفس آرائها وأفكارها. وإننا نرى أثر هذه الأفكار وهذا المنهج إلى يومنا هذا وتردد في آذاننا ـ مع الآراء الصحيحة التي اتخذها ـ الآراء الأخرى التي انتقدناها عليه.
ثانياً: توصيات:
أولاً: إنه رغم كل البحوث التي دارت موضوعاتها حول رشيد رضا من جوانب متعددة إلا أنه لا زال هناك بعض هذه الجوانب لم يدرس. منها جهود رشيد رضا الفقهية. إذ أنه ترك ثروة فقهية تستحق الدراسة والتقويم. ويجب أن يدخل في هذه الدراسة أو يستقل ببحث وحده: آراؤه الأصولية؛ كموقفه من الاجتهاد والتقليد وأثر ذلك على العمل الفقهي بعده.
كما أنه بقي من جوانب العقيدة باب الأديان والفرق وجهود رشيد رضا في ذلك. فيحسن أن يفرد ذلك الباب ـ الذي كان جزءاً من خطتي في هذا البحث، وحذفه مجلس الكلية مشكوراً ـ ببحث منفرد يبحث فيه: جهود رشيد رضا في الأديان وتاريخها ومقارنتها، لقد بذل الشيخ رشيد جهوداً كبيرة في هذا الباب وأتى فيه ببحوث قيمة ومادة وفيرة، معتمداً على مصادر أهل الكتاب بجوار مصادر التاريخ العام والاكتشافات الحديثة، وعرض ونقد
وقارن، مما كان له أقوى الأثر في هذه الفترة التي كانت مصر وكثير من بلاد المسلمين متعرضين لفتنة دينية بسبب سيطرة الغرب المسيحي على معظم بلاد المسلمين، ونشرهم لأفكارهم وآرائهم والتي كان مصدرها في الغالب العقائد الدينية المسيحية. وقد كان ذلك ظاهراً أتم الظهور في مصر والشام والمغرب العربي. لقد واجه رشيد رضا وبشدة محاولات تنصير المسلمين في أماكن متعددة في العالم الإسلامي الخاضع للاحتلال الغربي. والله تعالى ولي التوفيق.
ثانياً: في مسألة الرواية بالمعنى التي كانت إحدى الساقين التي وقفت عليها دعوى طرح الثقة بالأحاديث "القولية" لم أر من بحثها بحثاً كبحث مصطفى الأعظمي في مسألة الكتابة في "دراسات في الحديث النبوي" ونظراً لأهمية هذه المسألة ـ ولأنني أيضاً لم يكن لي بد من الاختصار والاقتصار على الأمثلة ـ فيجب أن يندب أحد زملائنا في كلية الحديث ببحث هذا الموضوع بحثاً علمياً يجيب فيه عن شبهة "الرواية بالمعنى" ويرد ما يقال حولها بالأدلة العلمية القائمة على الاستقراء التام، والله الموفق.
وفي النهاية أتقدم إليك بالشكر أيها القارئ الصبور