الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: إثبات الألوهية
المطلب الأول: تعريف الإله
…
المطلب الأول: تعريف الإله
لقد وقع خطأ كبير – وكان له أثر بعيد – في معنى الإله، وأقول – وبكل لأسى – إن هذا الخطأ لم يقع فيه عامة الناس فقط، بل وقع فيه النظار في علم العقائد على طريقة الفلسفة والكلام والجدل، ومنشأ هذا الخطأ هو الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن الكريم واستعمالها بلوازم معناها، وسبب آخر: هو امتلاء الرؤوس بالأفكار والنظريات والاصطلاحات الفلسفية الحادثة1.
لقد وقع الخلط بين معنى "الرب" و"الإله". هذا ما بينه الشيخ رشيد رحمه الله وبين معنى "الإله" الذي تدل عليه ألفاظ القرآن ولغة العرب، فقال مبينا منشأ هذا الخطأ:
"
…
ومنشأ هذا الخطأ هو الغفلة عن مدلول ألفاظ القرآن في اللغة العربية، واستعمالها بلوازم معناها العرفية كلفظ "الإله" فإن معناه في اللغة: المعبود مطلقا لا الخالق ولا المدبر لأمر العالم كله ولا بعضه، ولم يكن
1 محمد رشيد رضا: تفسر المنار (9/112-113) بتصرف.
أحد من العرب الذين سموا أصنامهم وغيرها من معبوداتهم آلهة يعتقدون أن اللات أو العزى أو هبلاً خلق شيئا من العالم أو يدبر أمرا من أموره، وإنما تدبير أمور العالم يدخل في معنى لفظ الرب،
…
ولذلك يحتج القرآن عليهم في مواضع بأن غير الخالق المدبر لا يصح أن يكون إلهاً يعبد مطلقا وهو معنى قول بعض المحققين إنه يحتج بما يعترفون به من توحيد الربوبية، على ما ينكرونه من توحيد الألوهية
…
فإن الإله في هذه اللغة هو المعبود بالذات أو بالواسطة وإن كان مصنوعاً
…
"1.
فيقرر الشيخ رشيد أن الإله هو المعبود مطلقا، أي بحق أم بغير حق، وكل معبود هو إله- وليس معناه الخالق. ~أو القادر على الاختراع. ويكرر الشيخ رشيد هذا المعنى كثيرا.
فعند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} 2.
قال: "الرب هو السيد والمالك والمدبر المربي، والإله هو المعبود، أي: الذي يتوجه إليه الإنسان عند الشعور بالحاجة إلى ما يعجز عنه بكسبه ومساعدة الأسباب له، فيدعوه لكشف الضر أو جلب النفع، ويتقرب إليه بالأقوال والأعمال التي يرجى أن ترضيه وبالنذر له والذبح باسمه أو لأجله، سواء كان الرجاء فيه خاصا به أو مشتركا بينه وبين معبود آخر هو فوقه أو دونه
…
"3.
وفي هذا النص أيضا يقرر الشيخ رشيد معنى الإله مفرقا بينه وبين معنى الرب، إذ أنه المعبود المتقرب إليه والملتجأ إليه، وحده أو مع غيره. فهذا هو معنى الإله مطلقا.
1 تفسير المنار (9/112-113) وقارن مع: ابن تيمية: درء التعارض (1/174)، وابن القيم: مدارج السالكين (3/19)، والمقريزي: تجريد التوحيد (ص:8)، ومحمد بن عبد الوهاب: كشف الشبهات (ص:219) ضمن الجامع الفريد.
2 سورة الأعراف، الآية (54) .
3 تفسير المنار (8/444-445) .
ويقول في موضع آخر: "ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ويتخذون الكواكب أرباباً آلهة، فالإله هو المعبود، فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلهاً
…
فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي
…
"1.
وإذا كان ذلك صحيحا فكيف يدخل الشرك في عبادة الله تعالى؟ هذا ما يبينه الشيخ محمد رشيد بقوله: "والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران:
أحدهما: أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه فتوهموا أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق.... ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة.
ثانيهما: اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الرب الإله الحق، تشفع عنده وتقرب إليه
…
"2.
فبين الشيخ هنا أن دخول الشرك في العبادة من هاتين الجهتين، التعظيم، والواسطة. وأن الأولى هي عبادة بعض المخلوقات نفسها كوثنية: من يعبد الكواكب أو النار لذاتها، وهي وثنية متأخرة سافلة، والثانية: وثنية من يعبدها أو يعبد الأنبياء أو الملائكة لتقربه إلى الله زلفى، وهي وثنية أرقى من تلك، ومثالها وثنية العرب زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي ذهب إليه الشيخ رشيد في معنى "الإله" من أنه "المعبود" هو الصحيح بإجماع أهل العلم. فمن عبد شيئاً فقد اتخذه إلهاًُ من دون الله3. فتوحيد الألوهية: هو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، كالدعاء والرجاء والخوف والخشية
…
إلخ4.
1 المصدر نفسه (7/568) .
2 تفسير المنار (7/568) .
3 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص:5)، ومحمد بن عبد الوهاب: الدرر السنية (2/103-104) .
4 محمد بن عبد الوهاب: المصدر السابق (2/67-68) .
فيقوم هذا التوحيد على صرف جميع العبادات لله تعالى والإخلاص له فيها، فتوحيد الله معناه: اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له والتوجه إليه وحده بالعبادة1. يقول الشيخ رشيد: "فالإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جداً، وهي غير آلهة في الحقيقة ولكن في الدعوة الباطلة التي يثيرها الوهم"2.
فمعنى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 3 – كما يقول الشيخ رشيد -: "
…
وإلهكم الحق الحقيق بالعبادة إله واحد لا إله مستحق لها إلا هو، فلا تشركوا به أحداً"4.
والشرك في الألوهية أو في العبادة -معناه- وكما يقول الشيخ رشيد: "عبادة غير الله تعالى بالدعاء ونحوه
…
"5.
وفي معنى قوله تعالى: {
…
إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 6: قال: "كائنين من دون الله
…
أو: حال كونهم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة
…
سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال – وهو نادر – أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه
…
"7.
ويقرر الشيخ رشيد أن هذا المعنى لتوحيد الألوهية هو المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 8، فيقول: "فالتوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية هو غاية ما يرتقي إليه عرفان البشر،
1 محمد خليل هراس: دعوة التوحيد (ص:11) .
2 تفسير المنار (3/23) .
3 سورة البقرة، الآية (163) .
4 تفسير المنار (2/55) .
5 مجلة المنار (11/943) .
6 سورة المائدة، الآية (116) .
7 تفسير المنار (7/261) .
8 سورة الذاريات، الآية (56) .
وهو المراد من قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} على القول بأن اللام للغاية، وهو لا يقتضي حصوله لكل فرد منهم
…
"1.
ويبين الشيخ رشيد أهمية هذا التوحيد، وأثره في النفس فيقول: "إن عقيدة التوحيد القرآني هي أعلى المعارف التي ترقي الإنسان إلى أعلى ما خلق مستعدا من الكمال الروحي والعقلي والمدني، وقد صرح كثير من العلماء الإفرنج بأن سهولة فهم هذه العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة هما السبب الأكبر لقبول الأمم لها
…
قد كان توحيد المسلمين الأولين لله ومعرفتهم به وحبهم له وتوكلهم عليه هو الذي أزكى أنفسهم وأعلى هممهم وكمّلهم بعزة النفس وشدة البأس وإقامة الحق والعدل، ومكنهم من فتح البلاد وسياسة الأمم
…
"2.
ولكن –ومع الأسى أيضا – إن وضوح هذه العقيدة وسهولتها قد طمسته فلسفة المتكلمين حتى في معاهد التعليم الكبرى، يقول الشيخ رشيد: "أليس من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى إخفاء عقيدة التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات علماء الكلام المعقدة؟
…
"3. ويضرب الشيخ رشيد مثالاً على ذلك بتفسير التوحيد بأنه نفي الكموم الخمس: الكم المتصل، والكم المنفصل في صفاته تعالى، والكم المنفصل في أفعاله
…
ثم يقول: "إن هذه الكموم الخمسة فلسفة كلامية ما أنزل الله بها في كتابه من سلطان
…
"4.
1 تفسير المنار (9/108) وقارن مع ابن تيمية: مجموع الفتاوى (6/40-41) وانظر: عبد الرحمن بن حسن: فتح المجيد (ص:19-20) ط. دار الكر، 1409هـ، ت: حامد الفقي.
2 الوحي المحمدي (ص:174) .
3 مجلة المنار (33/124) .
4 المصدر نفسه والصفحة. والكم هو المقدار، وهو ما قبل القياس. وقال: إنه عرض يقبل لذاته القسمة والمساواة واللامساواة والزيادة النقصان، وهو: إما متصل، وإما منفصل. فالمتصل هو: الذي يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحدد به كالنقطة للخط، والمنفصل هو: الذي لا يوجد لأجزائه بالقوة ولا بالفعل حد مشترك، كالعدد، فإنك إذا انتقلت من عدد إلى آخر يليه لم تجد بينهما حداً مشتركاً، بخلاف النقطة في الخط فإنها مشتركة بين قسميه. انظر: جميل صليبا: المعجم الفلسفي (ص:240/241) .
ويدل على أهمية هذا التوحيد أن مسائله أكثر المسائل تكراراً في القرآن الكريم، وأن ما يذكره الله تعالى فيه من دلائل ربوبيته إنما هو للاستدلال على ألوهيته.
يقول الشيخ رشيد: "لذلك كان أكثر المسائل تكراراً في القرآن مسألة توحيد الله عز وجل في ألوهيته بعبادته وحده، واعتقاد أن كل ما سواه من الموجودات سواء في كونهم ملكاً وعبيداً به، لا يملكون من دونه نفعاً ولا ضراً لأحد ولا لأنفسهم إلا فيما سخره الله من الأسباب المشتركة بين الخلق
…
"1.
ويقرر الشيخ رشيد أن توحيد الألوهية هو الأساس الأعظم للدين فيقول: "ثم ذكر الأساس الأعظم للدين وهو: توحيد الألوهية، بتخصيص الخالق سبحانه بالعبودية، وقوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 2 وقرن ذلك بالتذكير بآياته الكثيرة الدالة عليه في السماوات والأرض وما بينهما ثم ذكر ما يقابل هذا التوحيد مقابلة التضاد، وهو الشرك باتخاذ الأنداد والاعتماد فيه على تقليد الآباء والأجداد
…
"3.
ومما يدل على مكانة هذا التوحيد كذلك – أنه أول شيء دعا إليه الرسل جميعاً، فكانت دعوتهم دائماً تبدأ بقولهم: {
…
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4 يقول الشيخ رشيد: "وبدء الدعوة بالأمر بعبادة الله تعالى وحده هو سنة جميع المرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ
1 الوحي المحمدي (ص: 170) .
2 سورة البقرة، الآية (163) .
3 تفسير المنار (1/108) .
4 انظر: سورة هود، الآية (50 و61 و84) .
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 فكان كل رسول يبدأ دعوته بقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وذلك أن جميع تلك الأمم كانت تؤمن بأن الله خالق الخلق وهو ربهم ومدبر أمورهم، وإنما كان كفرهم الأعظم بعبادة غير الله تعالى بالدعاء الذي هو ركن العبادة الأعظم في وجدان جميع البشر، وبغير الدعاء والاستعانة من العبادات العرفية كالتقرب إلى المعبود بالنذور وذبح القرابين أو الطواف أو التمسح به
…
لما كانوا كذلك احتج على دعوتهم إلى توحيد الله تعالى بالتعبير بلفظ "رب" مضافا إليهم فقالوا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}
…
يعني: إذا كان ربكم هو الذي خلقكم وخلق من قبلكم
…
فيجب أن تعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحداً
…
"2.
ويقول أيضا: "وأما تكرار توحيد الربوبية –وهو انفراده تعالى بالخلق والتقدير والتدبير، فليس لإقناع المشركين بربوبيته تعالى فقط – بل أكثره لإقامة الحجة على بطلان شرك العبادة
…
"3.
وما ذهب إليه الشيخ هو الحق، فتوحيد الربوبية هو الذي اتفقت عليه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الألوهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين ولهذا كانت كلمة الإسلام "لا إله إلا الله" فتوحيد الإلهية هو المطلوب من العباد، وأما المشركون فكانوا مقرين بربوبية الله تعالى، لذلك احتج عليهم بها دائما كما في قوله تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 4.
وعموماً: فهو تعالى يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية5.
1 سورة النحل، الآية (36) .
2 تفسير المنار (1/184) .
3 الوحي المحمدي (ص: 170) .
4 سورة النمل، الآية (59-60) .
5 انظر: المقريزي: تجريد التوحيد (ص: 8 و9) .