الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر، منها: أن الناظر قد تشغله الصنعة الجميلة الدقيقة، فيذهب في مسالكها وطرقها حتى تأخذ به إلى مكان بعيد، فينسى صانعها سبحانه، ويذهل عن صفاته ووحدانيته.
لذلك فإن الله تعالى قرن في سورة آل عمران بين النظر والفكر والذكر، حتى تكمل الفائدة. وهو ما أشار إليه الشيخ رشيد 1.
ومنها أيضاً: الاشتغال بالانتفاع بها في هذه الحياة الدنيا من غير ملاحظة كونها آيات دالة على أن لها رباً خالقاً مدبراً عليماً حكيماً.. 2.
فهذه آفات قد تعرض للناظر، الذي تجاوز الغفلة، ولكن يقعد به الشيطان في بعض الطريق ليصده عن السبيل؟
هذا وقد قام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ ببيان حكمة الله تعالى في الخلق، في الأنفس والآفاق، وعجائب المخلوقات، وأسرارها، بياناً دقيقاً مستوعباً، فتناول أعضاء الإنسان عضواً عضواً، وأطوار خلقه، ثم عجائب خلق السماوات وما فيها من مخلوقات، وسائر آيات الله في الكون 3، وما لم نعلمه من ذلك أكثر {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} 4.
1 المصدر نفسه ((4/ 299)
2 المصدر السابق نفسه (9/ 428)
3 انظر: ابن القيم: مفتاح دار السعادة (1/243) وما بعدها
4 سورة الإسراء، من الآية (85)
المطلب الثالث: الرسل وآياتهم:
ومن أدلة معرفة الله تعالى، دليل "تصديق الأنبياء" أو دليل "المعجزة".
وهذا الدليل مما يفارق به أهل السنة المتكلمين في أدلة معرفة الله تعالى، فبينما يعتمده أهل السنة 5، يرفضه المتكلمون الفلاسفة، لأنه دليل
5 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (7/ 302) و (9/ 41ـ 45)، وابن القيم: مختصر الصواعق: (ص: 160) ، ط. دار الكتب العلمية، وابن الوزير: إيثار الحق (ص: 53 ـ 55)، والبرهان القاطع (ص: 36 ـ37) ط. المطبعة السلفية، مصر 1349هـ
سمعي 1 ولأن الله تعالى قبل معرفته يجوز أن يظهر المعجزة على يد الكاذب 2.
والحق أنه دليل صحيح، دل عليه الكتاب العزيز في مواضع، وعليه آمن أكثر البشر.
يقول ابن الوزير 3: "..فالنبوات وآياتها البينة ومعجزاتها الظاهرة وخوارقها الدامغة؛ أمر كبير وبرهان منير ما طرق العالم له معارض البتة، خصوصاً مع قدمه وتواتره،.."4.
ويُستدل لصحة هذا الدليل من الكتاب العزيز، بقصة موسى مع فرعون، فقد كان فرعون منكراً للرب تعالى، إما حقيقة، أو ادعاءً، وطلب آية من موسى، فأخرج له موسى آيته دليلاً على ربوبية الله تعالى وتصديقاً لرسالته جميعاً 5.
وأيضاً يستدل لصحة هذا الطريق، بقوله تعالى:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 6.
"فهؤلاء لم يتلبثوا بالإيمان الذي يدعوهم إليه الأنبياء.. بل بادروا وسارعوا إليه.. ويحتمل أن يكونوا سمعوا دعوة الرسول وآمنوا به ثم نظروا وتفكروا.."7.
1 انظر: ابن رشد: مناهج الأدلة (ص: 134)
2 انظر: ابن الوزير: البرهان القاطع (ص: 38)
3 هو: محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني، من المجتهدين من أعيان اليمن. الزركلي (5/ 301) وانظر: البدر الطالع (2/ 81 ـ93)
4 إيثار الحق (ص: 53)
5 ابن تيمية: درء التعارض (9/ 41) وابن الوزير: البرهان (ص: 37)
6 سورة آل عمران: الآية (193)
7 تفسير المنار (4/ 302)
وفي هذه الآية هذا الدليل بعد الإشارة، إلى النظر والفكر في ملكوت السموات والأرض، وأن خلقهما لا يكون باطلاً ولا عبثاً، فهذا ذكر للدليل السمعي بعد الدليل العقلي 1.
وتقرير هذا الدليل: أن تصديق الرسل بالمعجزات وغيرها من قرائن الأحوال وثبوت رسالتهم يتضمن إثبات المرسل لهم، وأنه أحدث هذه الآيات تصديقاُ لهم، وذلك أن هذه الآيات تدل على خالقها كدلالة سائر الآيات الكونية، فانقلاب العصا حية، والإتيان بكتاب خارج عن قدرة الجن والإنس على رجل أمي، أعظم من دلالة المشاهد المعتاد، كخلق الإنسان من نطفة 2.
ونقول: بالمعجزة وغيرها، لئلا يلزمنا ما اعترض به المتكلمون على هذا الدليل، فإن النبوة إنما تثبت بها وبغيرها 3.
ولقد اعتمد الشيخ رشيد رحمه الله هذا الدليل السمعي، وذهب إليه وقرره في عدة مواضع.
فبشكل عام يقرر الشيخ رشيد: " أن الله تعالى لم يؤيد رسله بما أيدهم به من معجزات إلا لتكون حجة لهم على أقوامهم يهتدي بها المستعدون للهداية، وتحق بها الكلمة على المعاندين"4. ثم ينتقل إلى تفصيل أكثر، وأصرح، فعند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} 5 يقرر أن الآيات هنا "بمعنى الدلائل والبينات من براهين عقلية نظرية كانت أو علمية أو كونية كآياته تعالى في الأنفس
1 انظر: أبو السعود: إرشاد العقل السليم (2/ 131ـ 132)
2 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (7/ 307) و (9/ 41ـ45) وابن الوزير: إيثار الحق على الخلق (ص: 53ـ 55) وابن القيم: مختصر الصواعق (ص:160)
3 انظر: ابن تيمية: درء التعارض (9/ 40)، وابن الوزير: البرهان الساطع (ص:51) وما بعدها.
4 الوحي المحمدي (ص: 211و 81)
5 سورة الأعراف، الآية (146)
والآفاق، ومنها معجزات الأنبياء عليهم السلام، وأظهرها وأقواها القرآن العظيم، من حيث هو دال على صدق النبي الأمي في دعوى الرسالة.." 1.
ويولي الشيخ رشيد نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أكبر قدر من العناية في هذه الناحية، وكما أنه يعتبر القرآن، الآية الكبرى الباقية على عين الدهر إذ يقول:
"وجملة القول: أن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت بنفسها، أي بالبرهان العلمي والعقلي الذي لا ريب فيه، وأن هذا البرهان قائم ماثل للعقول والحواس في كل زمان ومكان وأنه لا يمكن إثبات آيات النبيين السابقين إلا بثبوت نبوته وهذا القرآن الذي جاء به.."2.
والقرآن الكريم هو أعظم الآيات وأبقاها، وهو في حقيقة الأمر يشتمل على آيات كثيرة.
"فالقرآن في جملته آية علمية وفي تفصيله آيات كثيرة عقلية وكونية، وهي دائمة لا تزول كما زالت الآيات الكونية كعصا موسى مثلاً، عامة لا تختص ببعض من كان في عصر الرسول.. وهي أدل على الرسالة من الآيات الكونية.. فظهور أعلى علوم الهداية على لسان أميّ كان هو وقومه أبعد الناس عن كل علم، بعبارة أعجزت بلاغتها قومه كما أعجزت غيرهم.. أدل على كون ذلك موحى به من الله عزوجل من عصا موسى.."3.
والحق أن القرآن الكريم هو آية علمية، عقلية، كونية، خارق للعادة المألوفة من البشر، فإن هذا الكتاب المشتمل على هذه العلوم والمعارف والحقائق قد جاء به رجل أميّ لم يجلس إلى معلم، ولا اطلع على شيء من الكتب، هو ولا قومه من قبل هذا، بل كان لا يقرأ ولا يكتب، فالعقل
1 تفسير المنار (9/ 199)
2 الوحي المحمدي (ص: 83)
3 تفسير المنار (7/388) وقارن مع ابن القيم: مختصر الصواعق (ص: 161)
يجزم بأن هذا القرآن إنما كان بوحي من الله، لأنه خارق للعادة، يقول الشيخ رشيد بعد أن بسط هذه المقدمات:
"راجع هذا كله وتأمله جملة واحدة، تجد عقلك مضطراً إلى الجزم بأن هذا في جملته وتفصيله فوق استعداد بشر أميّ أو متعلم، وأنه لا يعقل إلا أن يكونوحياً من الله تعالى اختصه به.."1.
"فمن كان يؤمن بأن للعالم رباً عليماً حكيماً رحيماً مريداً فاعلَا مختاراً فلا مندوحة له ولا مناص عن الإيمان بأن هذا القرآن وحي من لدنه عزوجل.. ومن كان لا يؤمن بوجود هذا الرب الحكيم فهذا القرآن حجة ناهضة على وجوده الحق، بكونه ليس من المعهود في الخلق، وبما اشتمل عليه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق.."2.
فإن قيل:" دلائل النبوة ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن إنما نقلت إلينا من طريق الآحاد دون التواتر والحجة لا تقوم بنقل الآحاد
…
لجواز وقوع الغلط فيها واعتراض الآفات من الكذب وغيره عليها.." 3.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن القرآن الكريم وهو الآية الكبرى، الثابتة بنفسها المثبتة لغيرها، هو متواتر مشاهد فيدفع به هذا الاعتراض.
ثانياً: "أن خبر الواحد من عامة الناس إذا انضمت إليه قرائن قوية أفاد العلم وقام مقام التواتر، فهذا في خبر آحاد الناس فكيف بخبر أفضل الأولين والآخرين.."4.
ثالثاً: أن كثرة الرسل قد تواترت لأهل العلم بتواريخ العالم مع تفرق
1 الوحي المحمدي (ص: 343) وقارن مع ابن الوزير: ترجيح أساليب القرآن (ص: 81) ط. دار الكتب العلمية، الأولى 1404هـ
2 الوحي المحمدي (ص: 138 ـ 139)
3 انظر: درء التعارض (7/ 315)
4 انظر: ابن الوزير: البرهان (ص: 36 ـ 37)