الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: عدد الرسل:
قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
…
} 1. وقوله تعالى: {قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} أي: من قبل هذه الآية في السور المكية وغيرها، وتسمية هؤلاء الأنبياء الذين نص عليهم في القرآن هي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً2. وآدم وإدريس وهود وصالح وشعيب ومحمد وذو الكفل 3 صلى الله تعالى عليهم. ويروى عن ابن عباس وابن مسعود أن إلياس هو إدريس 4. كما وقع خلاف في "ذو الكفل" فقيل: إنما هو رجل صالح، وتوقف في ذلك ابن جرير، وظاهر سياقه مع الأنبياء أنه منهم 5.
1 سورةالنساء، الآية (163)
2 ذكر أسماء هؤلاء الأنبياء مجتمعة في موضع واحد في نسق سورة الأنعام، الآية (83 ـ 86)
3 انظر: ابن كثير: التفسير (1/ 554)
4 انظر: البخاري: الصحيح: ك: أحاديث الأنبياء، باب:{وإن إلياس لمن المرسلين} (6/ 430)
5 انظر: ابن كثير: التفسير (3/ 185)، والطبري: التفسير (17/75) ط. الحلبي.
قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 1.
وأما السنة فقد ورد فيها ذكر أنبياء ليسوا في القرآن، منهم: شيث 2، ويوشع بن نون 3. ووقع في السنة ذكر عدد الأنبياء والرسل إجمالاً. ولم يرد ذكر أسمائهم كما قال تعالى:{وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} 4، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء فقال:"مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فقلت: يا رسول الله: كم الرسل منهم؟ فقال: ثلاثمائة وثلاثة عشرة جم غفير، وسأله: من أولهم؟ فقال: آدم"5. وعن أبي أمامة قال: قال أبو ذر قلت يا رسول الله: كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً" 6.
وقد عقد رشيد رضا فصلاً في تفسيره بحث فيه مسألة عدد الأنبياء صلى الله تعالى عليهم كما أنه أشار إلى هذه المسألة في عدة مناسبات.
1 سورة الأنبياء، الآية (85)
2 في الحديث الذي رواه ابن حبان عن أبي ذر. انظر: ابن حبان: (2/77 ـ الإحسان)، وانظر: ابن كثير: التفسير (1/ 554) فقد عزاه لابن مردويه. وانظر: له البداية والنهاية (1/ 99)
3 وهو الذي حبست له الشمس. انظر: انظر: أحمد: المسند: ح: 8298، ط. شاكر. و 8315 ط. الأرناؤوط، وإسناده صحيح على شرط البخاري، وانظر: مسلم: الصحيح: ك: الجهاد، ح: 32 (1747)[3/1366] وانظر: وابن كثير: البداية والنهاية (1/ 323) ،
4 سورة النساء، الآية (163)
5 رواه: ابن حبان مطولاً في صحيحه (الإحسان: 2/ 77)، وأحمد: المسند (5/ 178 و179)، والحاكم: المستدرك (2/ 282) . قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط بنحوه، وعند النسائي طرف منه، وفيه: المسعودي، وهو ثقة ولكنه اختلط. انظر: مجمع الزوائد (1/ 160) ، وانظر أيضاً (1/ 197 و8/ 198 و8/ 210)، وقال الألباني: صحيح. انظر: المشكاة (3/ 1599) ط. المكتب الإسلامي، الثالثة، 1405 هـ، بيروت. وعزاه ابن كثير في التفسير إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم. انظر: التفسير (1/ 554 ـ 555)
6 رواه أحمد: المسند (5/ 265)، والطبراني: في الكبير (8/ 127) ح: 7871، كلهم من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم، وقد ضعف ابن كثير الثلاثة، التفسير (1/ 554)، وقال الهيثمي: مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. مجمع الزوائد (1/ 159)، وانظر أيضاً (3/ 115) وصححه الألباني: المشكاة (3/ 1599)
فقرر رشيد رضا أن من أصول العقائد الإسلامية أنه يجب الإيمان بأن الله تعالى أرسل في كل الأمم رسلاً منهم من قص على رسولنا ومنهم من لم يقصص عليه، وأنه يجب الإيمان بمن ذكر منهم في القرآن إيماناً تفصيلياً، أي تجب معرفتهم بأسمائهم 1 وهؤلاء الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً ـ كما يقول رشيد رضا ـ هم المسرودة أسماؤهم في السور المكية وأجمعها آية سورة الأنعام، وآيات قصصهم في سورة هود 2 والشعراء 3، والرسل الذين لم يقصصهم الله تبارك وتعالى، ويجب الإيمانبهم إجمالاً أي دون معرفة أسمائهم وعددهم؛ هم الرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى الأمم المجهولة علمها وتاريخها. قال: " وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل في كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معين احتكرها لنفسه كما كان يزعم أهل الكتاب غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله، ولا ينطبق على سعة رحمته، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4
…
" 5.
ويحدد رشيد رضا أسماء الرسل الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً وهم المذكورون في القرآن فقط، ولكنه يذكر أن العدد المتفق على رسالته منهم هو ثلاثة وعشرون فقط ـ إذا أن هؤلاء هم:"المجمع على وجوب الإيمان برسالتهم"6. قال: "فجملة هذه النقول
…
أن آدم مختلف في رسالته وأن إدريس مختلف في رسالته وفي كونه هو إلياس المذكور في آيات سورة الأنعام.." 7.
ومع أن رشيد رضا يقر بوجود رسل لم يقصصهم الله تعالى علينا إلا أنه لا يعترف بالعدد الوارد في الأحاديث المشار إليها أول هذا المبحث،
1 تفسير المنار (7/601)
2 انظر: سورة هود: الآيات (25، 50، 61، 69، 84)
3 انظر: سورة الشعراء: الآيات (105، 123، 142، 161، 178)
4 سورة النحل: الآية: (36)
5 تفسير المنار (6/70)
6 المصدر نفسه (7/605)
7 المصدر نفسه.
ومنها حديث أبي ذر لأنه ـ كما يقول ـ مختلف فيه بين الضعف والوضع 1.
والذي أريد أن أقف عنده هو مسألة نبوة إدريس وآدم. فالذي ورد فيما يتعلق بإدريس صلى الله عليه وسلم الخلاف في كونه هو إلياس أو غيره، ولم أر أحداً اختلف في كونه نبياً ولا في كون إلياس نبياً. فقد قال تعالى عن إلياس:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال عن إدريس:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} 3.
وقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 4، فإن كان رشيد رضا يقصد ـ بناءً على تعريفه للنبوة وأنها أعم من الرسالة ـ أن إدريس نبي وليس رسولاً فالخلاف يتجه على تعريفه هذا 5.
وأما آدم فرشيد رضا يرى أنه ليس نبياً ولا رسولاً، واحتج بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
…
} 6 وبحديث أنس في الشفاعة: "
…
ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله" 7.
وأما حديث أبي أمامة: أن رجلاً قال: "يا رسول الله أنبياً كان آدم؟ قال: نعم، معلم مكلم" 8 فرده لأنه أحادي 9 وتأول المعلم بالملهم
1 تفسير المنار (7/ 604 ـ 605)
2 سورة الصافات، الآية (123)
3 سورة مريم، الآية (56)
4 سورة الأنبياء، الآية (85)
5 انظر: النووي: شرح مسلم (3/ 55) ط. الريان.
6 سورة النساء، الآية (163)
7 البخاري: الصحيح: ك: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، ح: 6565 (11/ 425)، ومسلم: الصحيح: ك: الإيمان، ح: 322 (193)
8 رواه الطبراني: في الكبير (8/ 118 ـ 119) ح: 7545، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة. وقال ابن كثير: هذا على شرط مسلم ولم يخرجه. البداية والنهاية (1/ 101) ،، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط، وقال: الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد (1/ 196)، وروي هذا أيضاً عن أبي ذر: انظر: أحمد: المسند (5/ 265)، وقال الهيثمي: فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، مجمع الزوائد (1/ 160) ، وانظر أيضاً (1/ 197)
9 قد سبق بيان موقف رشيد رضا في مسألة أحاديث الآحاد، ولكنه يلجأ أحياناً إلى هذه القاعدة عند الحاجة فيبدو مضطرباً فيها. فهذا كلام متأخر له إذ أنه انتهى من تفسير هذا الجزء (السابع) في شعبان 1337هـ. انظر: تفسير المنار (7/ 673)
للخير والصواب 1.
ولم يرضَ رشيد رضا بأوجه الجمع التي حاول بها العلماء التوفيق بين الثابت من نبوة آدم وبين ما دلت عليه الآية والحديث من أولية نوح عليهما السلام 2، واختار هو طريقاً للجمع فقال: "والذي يتجه في الجمع بغير تكلف هو التفرقة بين هداية من ولدوا على الفطرة وبين بعثة نوح ومن بعده من الرسل إلى من فسدت فطرتهم واختلفوا في الدين الفطري أو في الكتاب الإلهي
…
بأن تجعل هذه الهداية الأخيرة هي الرسالة الشرعية التي يسمى من جاءوا بها رسلاً دون الأولى، وبهذا يجمع بين عدة أجوبة مما نقل عن العلماء في رفع التعارض بتوضيح قليل كقول من قال: إنما كانت رسالة آدم إلى بنيه المؤمنين، ورسالة نوح ومن بعده إلى الكافرين، ومن قال: إنما كانت رسالة آدم إلى بنيه من قبيل تربية الوالد لأولاده، وفيهما أن تسميتها رسالة شرعية بالمعنى المراد من الآيات هو الذي يحقق التعارض، فكيف يجعل دافعاً له؟ وأما إذا أثبتنا ما ذكر لآدم ولم نسمه رسالة بالمعنى الشرعي المذكور فإن التعارض يندفع بغير تكلف
…
ويكون الخلاف أشبه باللفظي، فهو رسول بالمعنى المشهور عند المتكلمين دون المعنى المتبادر من القرآن والحديث" 3.
فيرى رشيد رضا ـ جمعاً بين ما هو مشهور من نبوة آدم وبين آية النساء وحديث أنس ـ أن آدم في هدايته كان على الفطرة التي خلقه الله عليها، فهي هداية فطرية نشأ عليها ونشأت عليها ذريته إلى زمن نوح، ثم فسدت الفطرة فأرسل الله نوحاً نبياً رسولاً بالمعنى الشرعي الاصطلاحي. فليس آدم نبياً رسولاً كنوح ومن بعده، لذا فإن الله تعالى لم يذكره معهم في سياقهم.
وهذا التحقيق يشكل عليه سبق شيث وإدريس، فهما قبل نوح. وقد
1 تفسير المنار (7/ 606)
2 انظر: تفسير المنار (7/ 606 ـ 607)
3 تفسير المنار (7/ 608 ـ 609) ، وانظر أيضاً (607)
يجاب بأن الثلاثة: آدم وشيث وإدريس، كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلاً، ولكن يشكل عليه حديث أبي ذر الذي صححه ابن حبان ففيه تصريح برسالة شيث، وإنزال الصحف عليه 1. وهو من علامات الإرسال. وأما إدريس فقد سبق القول بأنه قد يكون هو إلياس، وهو متأخر في بني إسرائيل فيندفع ـ لو صح ـ هذا الإشكال 2.
والذي دفع رشيد رضا إلى اتخاذ هذا الموقف من "نبوة آدم" أن أحد طلاب مدرسته "الدعوة والإرشاد" قد تعرض للحكم بالكفر من المحكمة الشرعية بسبب رأيه في نبوة آدم. وقد دافع عنه رشيد رضا في مجلته "المنار" وهاجم المدعين عليه. وإن كانت محكمة الاستئناف الشرعية قد ألغت هذا الحكم، إلا أن رشيد رضا أراد في تفسيره أن يقرر هذا المذهب على نحو ما رأينا ليقول إن طالبه لم يكن مخطئاً. ولأن هذه القضية شغلت مصر يومئذ بين أنصار "نبوة آدم" وأنصار "عدم نبوته بالأدلة القطعية"3.
اتفاق الأنبياء:
هؤلاء الأنبياء ـ صلى الله تعالى عليهم ـ على كثرة عددهم وتباعد أوطانهم وأزمانهم، متفقون في أصل دينهم، وإن اختلفت شرائعهم، إلا أنهم جميعاً متفقون في أصل الدين والدعوة إليه، وهو الإيمان بالله تعالى وتوحيده. وهذا ما قرره رشيد رضا، فقال: "فالرسل عليهم السلام كانوا متفقين في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما كانوا يختلفون في تفصيل الأعمال الصالحة والشرائع المصلحة، بحسب اختلاف استعداد أممهم
…
" 4.
1 انظر: ابن حبان (2/77 ـ الإحسان) ، وعزاه ابن كثير لابن مردويه، وللآجري: التفسير (1/ 554 ـ 555)
2 انظر: ابن حجر: فتح الباري (11/ 442)
3 انظر: مجلة المنار (21/ 49 ـ 54) وهذه القضية كانت في شهر ربيع سنة 1337هـ وهو نفس العام الذي فسر فيه رشيد رضا آية سورة الأنعام، وحقق فيها مسألة عدد الأنبياء ومن اختلف فيه منهم.
4 تفسير المنار (1: 216)
وعند قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 قال: "المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية، وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء، فقد كان إبراهيم موحداً صرفاً، وقد كان الأساس الأول لشريعة موسى قول الله له (أنا الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء من فوق ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن) 2، وعلى هذا درج جميع أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عليه السلام، وهم لا يزالون ينقلون عنه في إنجيل يوحنا قوله (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته)3. وغير ذلك من عبارات التوحيد، وكان يحتج على اليهود بعدم إقامتهم ناموس موسى (شريعته) وهو لم ينسخ من هذا الناموس إلا بعض الرسوم الظاهرة كالتشديدات في المعاملة، أمّا الوصايا العشر ـ ورأسها التوحيد والنهي عن الشرك ـ فلم ينسخ منها شيئاً
…
" 4.
والذي قرره رشيد رضا هو الصواب، وهو مما اتفقت عليه الأنبياء جميعاً5.
المفاضلة بين الأنبياء:
ولا يمنع اتفاق الأنبياء في الدعوة من كونهم متفاضلين في الدرجات. فهناك نصوص صريحة في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، وبعض الرسل على بعض. قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 6، وقال:
1 سورة آل عمران، الآية (64)
2 خروج (20/ 1ـ 5)
3 يوحنا (17: 3)
4 تفسير المنار (3/ 325)
5 انظر: الشوكاني: إرشاد الثقات (ص: 5) وما بعدها.
6 سورة البقرة، الآية (253)
{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 1 ولكن ما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوا بين أنبياء الله" 2 وقوله: "لا تخيروني على موسى" 3، وقوله:"لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى"4. ولقد قرر رشيد رضا المفاضلة بين الأنبياء، كما أجاب عن التعارض الظاهري بين النصوص في ذلك.
قال رشيد رضا مقرراً التفاضل بين الأنبياء: "
…
ومن المعلوم بنص القرآن أن بعض الأنبياء والرسل أفضل من بعض، بتخصيص الله تعالى وبما كان لكل نبي من عمل في نفع العباد وهدايتهم وهي متفاوتة جداً
…
" 5.
فالسبب في هذا التفاضل كما يشير رشيد رضا في النص السابق: أمران:
الأول: تخصيص الله تعالى لهؤلاء الأنبياء بهذا الفضل، كما قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} 6 وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} 7.
الثاني: الأثر والنفع الذي يتركه النبي في أمته، ومقدار هدايته لهم، وكثرة أتباعه منهم. وبناءً على هذين الأمرين نستطيع أن نقرر باطمئنان أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أرفع هؤلاء الأنبياء درجة ـ صلى الله تعالى عليهم ـ وهو ما يقرره رشيد رضا فيقول: "ومن المعلوم بالدلائل العقلية والنقلية أن محمداً
1 سورة الإسراء، الآية (55)
2 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 159 (2373)(15/ 130) بشرح النووي.
3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح:160 (2373)[4/1844] والبخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، ح: 3408 (6/ 508) مع الفتح.
4 البخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، ح: 3412 (6/ 519) مع الفتح، ومسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 166 (2376)[4/1846] وانظر أيضاً: ح: 159 (2373)[4/1843]
5 الوحي المحمدي (ص: 204 ـ 205)
6 سورة القصص، الآية (68)
7 سورة الحج، الآية (75)
خاتم النبيين الذي أكمل الله به الدين وأرسله رحمة للعالمين، هو الذي رفعه الله عليهم كلهم درجات
…
" 1. ويشير رشيد رضا إلى وجه آخر لتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم وهو عموم بعثته للعالم أجمع فهو صاحب الدين الكامل والخاتم، والرحمة العامة 2. وأما الأدلة على هذا فهي من الكتاب والسنة. وإن كانت آيات الكتاب لا تنص صراحة على هذا المعنى إلا أنها تشير إليه إشارة لا تنطبق على غيره 3 منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 4 قال رشيد رضا: "ولم يجئ رسول يصدق عليه ما ذكر غير محمد صلى الله عليه وسلم ومن ثم اتفقوا على أنه هو" 5، ومن هذه الآيات كذلك: الآيات التي تشير إلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم النبيين 6.
وأما أدلة السنة فهي كثيرة وصريحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي: آدم فمن سواه إلا تحت لوائي"7. وكان ينبغي لرشيد رضا أن يستدل بهذا الحديث أيضاً على نبوة آدم.
ثم يجمع رشيد رضا بين هذه النصوص والنصوص التي تنهى عن المفاضلة، فيقول: إن هذه النصوص وردت على سبب والغرض منها: "منع المسلمين من تنقيص أحد من الأنبياء عليهم السلام ومن التعادي بين
1 الوحي المحمدي (ص: 205)
2 مجلة المنار (14/ 178)
3 المصدر نفسه (4/ 177)
4 سورة آل عمران، الآية (81)
5 مجلة المنار (14/ 178)
6 المصدر نفسه.
7 انظر: مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 3 (2278)، وانظر أيضاً: الترمذي: السنن، ك: القيامة، باب: ما جاء في الشفاعة، ح: 2434 (5/ 622) وك: التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، ح:3148 (4/ 308)
الناس لأجله، ومن الغلو فيه صلى الله عليه وسلم" 1. وكون بعض هذه النصوص ورد على سبب هو الصحيح 2.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى" 3 وقوله: "لا تفضلوني على يونس بن متى" 4 فالنهي عن التفضيل فيه ـ كما يقول رشيد رضا ـ " في أصل النبوة لأجل هفوته"5. وأيضاً: المراد منه عدم التفريق بين الرسل، والأنبياء، لا منع مطلق التفضيل 6. وهذا أدب عالٍ من آداب النبوة التي تأدب بها المسلمون، وهذا التشريع المحكم هو الذي ينزه الأنبياء عن تعدي السفهاء.
1 الوحي المحمدي (ص: 204 ـ 205)
2 انظر: البخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، باب: وفاة موسى، ح: 3408 (6/508) ومسلم: الصحيح، ك: المناقب، ح: 159 (2373)(4/1843)
3 رواه مسلم: الصحيح، ك: الفضائل، ح: 166 (2376)، وح: 167 (2377)، وانظر أيضاً: البخاري: الصحيح، ك: أحاديث الأنبياء، باب قوله الله تعالى:{وإن يونس لمن المرسلين} ، ح: 3412 و3413 و3414 (6/ 519 ـ 520)
4 روى نحوه البخاري، ك: أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وإن يونس لمن المرسلين} ، ح: 3416 [6/520]
5 تفسير المنار (7/ 597)
6 المصدر نفسه.