الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في كتب أهل الكتاب التي نقلت هذه المعجزات، وهو الذي يحملنا على تصديقها. والثانية: أن وقوع الخوارق المذكورة فيها لا يدل على النبوة والرسالة، وأنها خوارق غير حقيقية 1.
أما آية القرآن "فهي باقية ببقائه إلى يوم القيامة، وكل واقف على تاريخ الإسلام يعلم علماً قطعياً أنه متواتر تواتراً متصلاً في كل عصر،
…
وإذ قد ثبت بذلك كونه وحياً من الله تعالى فقد وجب الإيمان بكل ما أثبته من آياته في خلقه
…
وكما يجب على كل مؤمن أن يؤمن بها، يجب أن يؤمن بانقطاع معجزات الرسل بعد ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم
…
" 2.
وهذه أيضاً من الفروق بين آية خاتم النبيين وآيات من سبقه من المرسلين ـ صلى الله تعالى عليهم ـ فهي باقية بقاء الدهر، ثابتة بنفسها مثبتة لما سبقها، لا يتطرق إليها احتمال الاشتباه بالخرافات والشعوذات والحيل، كما تطرق إلى ما سبقها من آيات الرسل الكونية، وكما تأولها من تأولها من الملحدين، وأخيراً فإن القرآن ـ وهو آية كونية أيضاً ـ كما يقرر الشيخ رشيد ـ فهو آية علمية عقلية، ويمتاز أيضاً بأنه يدل على صدق الرسالة كما يدل على موضوعها ومضمونها 3. وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 المصدر نفسه (ص: 230 ـ 231)
3 انظر: مجلة المنار (4/ 374)، والوحي المحمدي (ص: 71 و79) وما بعدها و (ص: 81 ـ 83)
المطلب الثالث: كرامات الأولياء:
ومما يناسب الحديث عن معجزات الأنبياء الحديث عن كرامات الأولياء، لأن كرامات الأولياء إنما حصلت ببركة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول 4.
4 انظر: ابن تيمية: الفرقان (ص: 65) ط. المعارف بالرياض.
ولقد أطال الشيخ رشيد الحديث في موضوع الكرامات وأعاد وكرر ذلك في مجلته وتفسيره وغيرها من مؤلفاته. وسوف أحاول أن اخلص من بين ذلك كله إلى تصوير رأيه ومنهجه في هذا البحث من خلال النقاط التالية:
أولاً: تعريف الولي:
عرف الشيخ رشيد كلمة "الولي" لغة وشرعاً، فقال: "الولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} 1، وقال:{وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 2، وقال {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3.وأولياء الله هم أنصار دينه، والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي، وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على التقوى ولا على الولاية. قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} 4
…
" 5.
ثم بين الشيخ رشيد أن هناك اصطلاحاً ـ جاء لاحقاً ـ هو: "أن الأولياء صنف من الناس تظهر على أيديهم الخوارق ويتصرفون في الكون بما وراء الأسباب، ولم يعرف الصحابة هذا المعنى
…
" 6.
وهذا المعنى هو الذي حاربه الشيخ رشيد، وبين الفرق بين أصحابه المدعين للولاية وبين أولياء الله الحقيقيين الذين وصفهم القرآن بالإيمان والتقوى وبين أن هذا المعنى الاصطلاحي الحادث للولاية لم يكن معروفاً في صدر الإسلام. فقال: "إن ما يعتقده عوام المسلمين في الولاية في هذه الأزمنة لم يكن معروفاً
1 سورة البقرة، الآية (257)
2 سورة الأعراف، الآية (3)
3 سورة الزمر: الآية (3)
4 سورة يونس، الآية (62ـ 63)
5 مجلة المنار (6/ 185)
6 تفسير المنار (1/ 22)
في صدر الإسلام بالمرة، فلم يكن الصحابة يدعون بعض عبادهم بالأولياء. والولي في اللغة الناصر والصديق والمتولي الأمر، وجاء في القرآن أن لله أولياء وللشيطان أولياء،
…
فولي الله من ينصر دينه ويقيم سنته وشريعته
…
" 1.
وأما الأولياء الجدد فإنهم لا تنطبق عليهم هذه الصفات الشرعية، يقول الشيخ رشيد: "إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم طلاب مال وطلاب جاه، وإنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق ومفاتح الغيب، أو الجمع بين الأمرين، حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم، كما قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم: إن لله عباداً إذا أرادوا أراد
…
" 2.
ويصف أحد هؤلاء الأولياء المدعين، بما يبين الحال التي وصل إليها مفهوم الهداية عند الناس: "في الجيزة 3 شيخ من الذين يعتقد الناس فيهم الولاية وينسبون لهم الكرامات، وهذا الشيخ متهتك مدمن خمر يجلس في الحانات التي في الشوارع العمومية ويشرب في مجلس واحد أكثر من ثلاثين كأساً، ونقل إلينا أن بعض الأغنياء الموصوفين بالصلاح يتقربون إلى الله ـ تعالى وتنزه عن تقربهم ـ بدفع ثمن الخمرة التي يشربها ويزعمون أن سؤره من الخمر فيه شفاء وبركة فيشربونه بهذه النية
…
وحزب ولي الجيزة يعتقدون أنه يشرب الخمر فينزل في جوفه خمراً، ولكنه من أحباب الله (حاشا لله) الذين لا يؤاخذهم ولا يؤاخذ من ينتمي إليهم ويتصل بهم، وهذا الاعتقاد كفر وخروج عن ملة الإسلام بلا خلاف بين الأئمة. وما أوقع
1 مجلة المنار (9/ 139)
2 المصدر نفسه (6/ 57 ـ 58) وقارن مع: الوكيل: هذه هي الصوفية (ص: 117 ـ 118)
3 الجيزة: إحدى محافظات مصر، جنوب القاهرة.
الناس فيه إلا الغلو في اعتقاد الكرامات وجعلها صناعة من الصناعات
…
" 1.
وهكذا تحول معنى الولي من الالتزام بالدين بدرجة كبيرة من الإيمان والتقوى، إلى أن أصبح الخروج من الدين إلى الكفر. لقد وصل الأمر بهؤلاء المدعين للكرامات إلى دعوى أنهم يتصرفون في الكون نيابة عن الله تعالى؛ فيسعدون ويشقون، ويحيون ويميتون، ويعزون ويذلون، يقول الشيخ رشيد في ذلك: "حتى قال بعضهم إنهم يخرجون من قبورهم بأجسادهم، ويتولون قضاء الحاجات، وكشف الكربات، ولو كانت كذلك لما كانت من خوارق العادات. وقال بعضهم في كتاب مطبوع: إن فلاناً من الأقطاب يميت ويحيي، ويسعد ويشقي، ويفقر ويغني، بل قالوا وكتبوا ما هو أبعد من ذلك عن نصوص الكتاب والسنة القطعية المحكمة والعقائد المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة في الأصل وما كان عليه مسلمو القرون الأولى، فصارت بانتشار الخرافات والجهل من الكرامات
…
" 2.
فليس وقوع الخوارق على يد بعضهم دليلاً على ولايتهم، وإنما يعرف ولي الله تعالى بالأوصاف التي وصفهم بها الله تعالى. يقول الشيخ رشيد: "وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل
…
" 3. ومذهب الأشعرية أن الخوارق تقع على يد الجميع حتى الكفار والفساق، فيقول الشيخ رشيد معلقاً "وفي كتب العقائد التي تقرأ في الأزهر وغيره
…
أن خوارق العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار
1 مجلة المنار (4/ 679) وقارن معك الوكيل: هذه هي الصوفية (ص: 109)
2 الوحي المحمدي (ص: 214)، وأشار الشيخ رشيد في موطن آخر إلى أن هذا الكتاب هو "ترياق المحبين" وكتاب "طبقات الوتري" والمدعي فيه ذلك هو "عبد الرحيم الرفاعي" انظر: مجلة المنار (6/ 111) وقارن مع: الوكيل: المصدر السابق (ص: 112)
3 مجلة المنار (5/ 57 ـ 58)
والفساق
…
وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه
…
" 1.
هذه الحالة التي وصل إليها مفهوم الولاية والكرامة حتى وصلت للشرك بالله تعالى هو الذي جعل الشيخ رشيد يعلن الحرب على خوارق الدجالين المشعوذين، ويتخذ مع مبحث الكرامات عموماً موقفاً متشدداً. وهو ما نراه في المبحث التالي.
ثانياً: الكرامات:
لقد بحث الشيخ رشيد مسألة الكرامات ضمن المجلدين الثاني والسادس، وفي غيرهما من مؤلفاته. وقد حصر الكلام في هذه المسألة في النقاط التالية: حقيقتها، والحكمة فيها، حجج القائلين بجوازها ووقوعها، حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرته، وتمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات.
وقد يبدو من سياق حديث الشيخ في المجلد الثاني ـ بادئ الرأي ـ أنه ينكر الكرامات أو على الأقل يرجح أدلة المنكرين، ولكن يحسن بنا أن نتريث حتى نصل إلى النهاية.
أ) ـ تعريف الكرامة:
عرف الشيخ رشيد الكرامة، فقال: "بأنها الأمر الخارق للعادة يظهر على يد العبد الصالح وهو من يقوم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد. والأمر الخارق للعادة إما أن يكون خرقه لها بمجيئه على خلاف سنن الكون المعروفة ونقيض ما تقتضيه، أو بكونه لم تعرف له سنة طبيعية يندرج فيها، وإن كان في الواقع ونفس الأمر مندرجاً تحت ناموس طبيعي غير معروف عند كافة الناس. مثال الأول: العلم والتهذيب اللذين كان عليهما نبينا عليه
1 المصدر نفسه والصفحة، وقارن مع ابن تيمية: الفرقان (ص: 34) وما بعدها.
الصلاة والسلام مع كونه لم يتعلم ولم يتربَ
…
ومنه إحياء الموتى لسيدنا عيسى، وعصا سيدنا موسى عليهما السلام، ومثال الثاني: المكاشفات ومعرفة بعض الأمور قبل وقوعها، فإن للنفوس البشرية والأرواح الإنسانية استعداداً لهذا الأمر ولله تعالى فيه سنة روحية
…
ولكن هذه السنة لم تزل من الأمور الغامضة التي لم يهتد إليها أكثر الناس
…
" 1.
ثم أورد الشيخ رشيد حجج المثبتين للكرامات، ولخصها بأنها على ضربين:
الأول: ما جاء في الكتاب العزيز، وقد أول الشيخ رشيد هذه الآيات محاولاً صرفها عن دلالتها على وقوع الكرامات لغير الأنبياء.
الثاني: ما ورد عن السلف ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وتتبع الشيخ ما روي في ذلك، فأوّل بعضها وسلّم بعضها 2. قال الشيخ رشيد: "فتخلص مما تقدم أن قصارى ما يحتج به من الآيات الكريمة أن الله أكرم أم موسى بالإلهام الصحيح، وأكرم السيدة مريم بكلام الملائكة، وليس في هذين الأمرين مخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، وأن لله تعالى في خلقه آيات لا تنطبق على سنن الكون المعروفة كحبل مريم وولادتها من غير اقتران برجل، وكالضرب على آذان أهل الكهف سنين عدداً. فأما الإلهام فإنه لا يزال يقع في كل عصر لأصحاب النفوس العالية، فهو كرامة اختصوا بها من دون سائر الناس. وأما كلام الملائكة للناس فلم يثبت لغير الأنبياء بوجه قطعي إلا لمريم، فإن كانت غير نبية فهو كرامة قطعية لها تدل على جوازه لغيرها
…
" 3.
وإذا كان لله تعالى آيات خارجة عن سنن الكون فهذه هي التي نقول إنها: الكرامة. وهو ما سلمه الشيخ رشيد نفسه إذ يقول: "ونقول نحن في
1 مجلة المنار (2/ 417) وأكرر هنا ما علقت به في (ص:670) على مسألة "قوى النفس" عند الفلاسفة.
2 انظر: مجلة المنار (2/ 481 ـ 489 و 2/ 545 ـ 552)
3 المصدر نفسه (2/ 488)
هذا المقام إن لله تعالى في خلقه آيات تدل على أن قدرته تعالى حاكمة على سنن الكون لا محكومة بها. وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} 1، فحبلها على غير النحو المعهود في الخلق ليس لها فيه كسب ولا عمل بوجه ما، بل كانت كارهة له، فإن كان يعد مما نحن فيه فقصارى ما يدل عليه جواز وقوع مثله، وهذا هو مراد السبكي وغيره بالاستدلال به وبنحوه مما يأتي، أما الوقوع بالفعل، فلا يثبت إلا بدليل قطعي كالمشاهدة وكنص القرآن أو الخبر المتواتر تواتراً حقيقياً
…
" 2. ويقول في مسألة الثبوت: "على أنني إذا ثبت عندي أثر ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح فإني أعده كرامة أكرمه الله بها بإلهام الأسد التنحي عن الطريق، ولكن لا أقول إن فيه مخالفة لسننه تعالى في الخلق، فإن مثل هذه الإلهامات بخلاف ما تقتضيه العادات الطبيعية الغالبة معهود في العجموات وفي الإنسان أيضاً
…
" 3.
والذي أريده الآن هو ثبوت الكرامة بالسند الصحيح فيضاف إلى الطرق التي بينها الشيخ رشيد: القرآن والتواتر.
وأما مسألة مخالفة السنن فهي التي تحتاج إلى استفهام من الشيخ رشيد. إنه يقول: "إن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على سنن ثابتة مطردة
…
وقال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} 4، وهذا نص قطعي لا معارض له إلا بقطعي مثله من مشاهدة
…
أو تواتر صحيح
…
وإذا أمكن إثبات الكرامات بدليل قطعي كالتواتر الصحيح أو النص القرآني الصريح، فهناك حجة الإثبات ناهضة
…
" 5.
فهل يرى الشيخ رشيد أن الآية تدل على عدم جواز وقوع الكرامات
1 سورة المؤمنون، الآية (50)
2 مجلة المنار (2/ 481)
3 المصدر نفسه (2/ 661)
4 سورة فاطر، الآية (43)
5 مجلة المنار (2/ 445)
التي هي خرق للعادة والسنن الكونية، ولكن ما القول في معجزات الأنبياء، وهو يثبتها، وقد وقعت مخالفة لهذه السنن كما رأينا؟ وليس لأحد أن يفرق بين المعجزة والكرامة في أصل التبديل والتحويل لما هو معتاد في نظام الكون.
والحق أن الشيخ رشيد لا ينكر كرامات الأولياء إلا أنه يريد أن يضيق الباب أو يغلقه في وجه الدجالين والمشعوذين، كما أنه يريد أيضاً ـ وهو ما صرح به ـ رد حجة أهل الكتاب الذين لا يحتجون على صحة دينهم إلا بالعجائب ـ خوارق العادات ـ وليس لهم برهان على عقائدهم، ولا سند متواتر على صحة كتابهم، بل ويحتجون على المسلمين بأن القرآن لم يثبت لنبينا صلى الله عليه وسلم العجائب والخوارق، فهو إذن ليس نبياً، ولا يرون العلم الإلهي والشرائع الدينية والمدنية وتكوين الأمم وسياستها من رجل أمي تربى يتيماً في جاهلية جهلاء وأمه أمية، لا يرون هذا كله تأييداً إلهياً وبرهاناً على صدقه قطعياً، وإنما البرهان عندهم هو تلك الحكايات التي ينقلونها في عجائب مقدسيهم وينقل الوثنيون عن كهنتهم أعظم منها 1.
وأما مسألة السنن ومخالفتها: فيفسر الشيخ رشيد ذلك بأن مراده السنن العامة لأن مخالفة آيات الأنبياء وكرامات الأولياء للسنن المادية مشاهد ومنقول بنص الكتاب العزيزـ هكذا يقول الشيخ رشيد 2 إلا أنه لم يقل لنا ماذا يقصد بالسنن العامة والسنن الأخرى الخاصة.
لقد اتخذ الشيخ رشيد موقفاً متشدداً من الكرامات لهذين السببين اللذين ذكرهما، أما معجزات الأنبياء، فكانت عنده مصونة من كل خطر، لا يتطرق إليها الشك 3 وأما هذا الموقف المتشدد من الكرامات فقد اتخذه ـ أيضاً ـ لما أوقع فيه مما يسميه:"ضرر الاعتقاد بها" وأكبر ذلك: أنها صارت صناعة من الصناعات وزلزلت قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله
1 مجلة المنار (11/ 913 ـ 917)
2 المصدر نفسه (11/ 917)
3 انظر: مجلة المنار (6/ 12 و11/ 914)
تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك الأصغر والأكبر 1، ومنها أيضاً: أنها أدت إلى إباحة الموبقات وتحريم الواجبات لأنه لا يجوز الإنكار على الأولياء لأن المعصية التي تشاهد منهم هي صورية لا حقيقية ولذا يجب تأويلها، فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنه انقلبت عينها كرامة له فصارت لبناً أو عسلاً، وإذا رأيته يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذاً من قول السيد البدوي في الرد على الذين اتهموه بذلك:
ولم يعلموا أني أصلي بمكة
مع السادة الأقطاب أهل الطريقة 2.
وفي ضندتا قالوا صلاتي تركتها
أصلي صلاة الخمس في البيت دائماً
هذا ـ وغيره ـ مما ذكره الشيخ رشيد من ضرر على اعتقاد المسلمين، بسبب ما آلت إليه مسألة الكرامات.
ويقول الشيخ رشيد: "إننا لا نقول بأن ما يعبر عنه بخوارق العادات غير جائز ولا غير واقع بل نقول الآن، كما قلنا من قبل إنه جائز وواقع وإن كانت الآيات التي أيد الله بها الأنبياء ليست محصورة في الخوارق الكونية
…
" 3. ويبين غرضه من موقفه فيقول: "ويعلم الله أن غرضي من فتح باب التأويل المحافظة على دين الله تعالى وإرشاد عباده إلى التمييز بين الحقائق والأوهام
…
" 4.
وخلاصة الأمر أن الشيخ رشيد يثبت الكرامات الصحيحة لأولياء الله الحقيقيين: حتى إنه نفسه من أصحاب الكرامات كما يحكي لنا ذلك في "المنار والأزهر" 5 ويقول: "وههنا نرجع إلى مذهب جمهور أهل السنة فنقول: إن الكرامة جائزة
…
" 6.
1 مجلة المنار (6/ 11 ـ 112)
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 مجلة المنار (11/ 913)
4 مجلة المنار (2/ 663)
5 المنار والأزهر (ص: 166)
6 مجلة المنار (6/ 112) وأيضاً (2/ 657 و2/ 482)
ب) ـ الحيلة في دعوى الكرامة:
ويبين الشيخ رشيد أن الكرامة صارت تقع بالحيل والكذب، فمن ذلك ما راج بين ألوف المصريين ـ ذلك الحين ـ أن أرواح الشهداء تطوف في أعلى قبة في إحدى القرى، وقد كشف تلك الحيلة بعض علماء الأزهر ـ فذهب غير واحد إلى هناك فتبين لهم أن هذه الكرامة مصنوعة للمرتزقين هناك من السدنة وأن الذي يرى في القبة إنما هو ظلال رجال يطوفون للمرتزقين وقت الأصيل حول القبة في مكان يحاذي الكوىمن أعلاها، فيوهم السدنة النساء والأطفال ومن في حكمهم من الرجال أنهم شخوص الشهداء وزاد بعضهم أنه اكتشف حيلة أخرى وهي أنهم يطلعون الناس في قبر هناك على رأس مكسو بشعر طويل يزعمون أنه رأس شهيد لم يتغير بمرور القرون عليه، ولكن الشيخ وصل إلى الرأس فإذا هو جمجمة قديمة بالية وإذا بالشعر قد ألصق عليها حديثاً بنحو صمغ أو غراء 1.
وروى الشيخ رشيد أيضاً حكايات تتعلق بالطعام والشراب مما عدّ من الكرامات، وما هو إلا حيل وكذب 2.
ونكتفي بذلك ـ عن الحديث عن الكرامات الكاذبة التي وقف الشيخ رشيد منها هذا الموقف، ونعود إلى الحديث عن الكرامات الصادقة ونرى تفريق الشيخ رشيد بينها وبين معجزات الأنبياء، وبين هذه وبين السحر والشعوذة.
جـ) ـ الفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق الأشقياء:
خوارق العادات على ثلاث مراتب: الأولى: آيات الأنبياء، والثاني: كرامات الأولياء، ثم خوارق الأشقياء كالسحرة والكهان 3.
والحق أن آيات الأنبياء وكرامات الأولياء من جنس واحد، فإنه ـ وكما
1 مجلة المنار (7/ 413 ـ 414)
2 انظر: تفسير المنار (7/ 253) وما بعدها.
3 انظر: ابن تيمية: النبوات (ص: 8)
ذكرت قبل ـ تعد كرامات الأولياء من معجزات الأنبياء، فإنهم يقولون: نحن إنما حصل لنا ذلك باتباع طريق الأنبياء. ومثل ذلك أيضاً ما تقدم من الإرهاص 1 ومع ذلك فإن كرامات الأولياء لا تبلغ قط إلى مثل معجزات الأنبياء والمرسلين، فالولي دون النبي والرسول فكما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب مبلغهم، فلا تبلغ كراماتهم مبلغ آياتهم 2.
وقد ذكر الشيخ رشيد فروقاً بين آيات الأنبياء وكرامات الأولياء ـ تبع فيها المتكلمين في تفرقتهم ـ والحق أن الفروق التي ذكروها فروق ضعيفة، كقولهم: الكرامة يخفيها صاحبها، أو لا يتحدى بها فلا تكون مقرونة بدعوى النبوة وأنها لا تتكرر 3، إلا أن الشيخ رشيد ذكر فرقاً صحيحاً وهو قوله: "إن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة كإحياء الموتى وإنما تكون فيما دون ذلك كشفاء مرض ومكاشفة خلافاً للقول المشهور (ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي)
…
" 4.
وعن هذه العبارة يقول الشيخ رشيد: "العبارة ليست حديثاً ولا أثراً عن الصحابة، وهذه الاصطلاحات من المعجزة والكرامة والولاية قد حدثت من بعدهم، وإنما هي كلمة لبعض المشايخ، وافقت هوى الناس فتلقوها بالقبول وصارت عندهم من قبيل القواعد الدينية وسارت بها الأمثال فيما بينهم، ونحمد الله أننا لم نعدم في شيوخ التصوف والعلم من أنكرها
…
" 5.
وهذا الفرق صحيح فلا تبلغ كرامات الأولياء آيات الأنبياء، كالفرق بين الأنبياء والأولياء، ومهما يكن من شيء، فإن كرامات الأولياء مؤيدة لمعجزات الأنبياء، بمنزلة ما تقدمهم من الإرهاصات ولكن الذي يحتاج إلى
1 المصدر نفسه والصفحة.
2 المصدر نفسه والصفحة.
3 انظر: الوحي المحمدي (ص: 211 ـ 214)، وانظر أيضاً: البغدادي: أصول الدين (ص: 174 ـ 175) والسبكي: طبقات الشافعية (2/ 318 ـ 321)
4 مجلة المنار (6/ 61 ـ 62)
5 المصدر نفسه (10/ 115)