الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: التكفير:
التكفير بما دون الشرك من الذنوب هو مذهب الخوارج 3.
وقد لاحظ الشيخ رشيد أن المتأخرين قد تجرأوا على التكفير بما لا يكفر، وحتى بعض المصنفين قد زادوا من هذه الجرأة لدى الناس على تكفير من يخالف مذهبهم 4، ويقرر الشيخ رشيد أن ـ بدعة التكفير قد أحدثها غلاة المبتدعة بتكفيرهم من يخالف بدعتهم وأن مما امتاز به أهل
3 انظر: الأشعري: المقالات (1/168) ط. المكتبة العصرية، بيروت، 1411هـ ت: محيي الدين عبد الحميد.
4 انظر: مجلة المنار (34/ 357) والتفسير (1/ 139 ـ 140)
السنة عدم "تكفير أحد من اهل القبلة" وقد اشتهر أن العمدة عندهم في التكفير هو جحود شيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة ممن نشأ بين المسلمين ولم يكن حديث عهد بالإسلام، أي يجحده عالماً به أو جاهلاً غير معذور بجهله، واشترطوا أيضاً أن يكون غير متأول، فإن من جحد ذلك الشيء بتأويل ظهر له لا يكون كافراً.." 1.
ويفصل الشيخ رشيد هذه المسألة ويبين ما يُكفِّر وما لا يُكفِّر، فيقول: "فالمعنى العام الجامع لكل ما ينافي ملة الإسلام هو تكذيب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس أو تكذيب شيء مما علم المكذب أنه جاء من أمر الدين، وهو قسمان: الأول: المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، ككون القرآن كلام الله تعالى، وتوحيد الله وتنزيهه عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة كالدعاء والذبح والنذر له ألخ. وكون محمد هوخاتم النبيين.. فهذا لا يعذر أحد بجهله إلا من كان حديث العهد بالإسلام لم يمض عليه زمن كاف لتعلم هذه الضروريات منه، ومن كان في حكمه كرجل أسلم في مكان أو بلد ليس فيه من المسلمين من يعلمه ذلك كله وطال عليه الزمن، وهو لا يعلم أن عليه واجبات أخرى ولا أنه يجب عليه الهجرة مثلاً.
والقسم الثاني: ما كان غير مجمع عليه أو مجمعاً عليه غير معلوم من الدين بالضرورة كبعض محرمات النكاح وأحكام المواريث مثلاً مما لا يعرفه إلا العلماء فهذا يعذر من جهله، فإن علم شيئاً منه أنه من دين الله قطعاً صار حكمه حكم القسم الأول بالنسبة إليه.."2.
ومن هذا النص الطويل يظهر أن الشيخ رشيد يذهب إلى أن العذر بالجهل يكون لحديثي العهد بالإسلام، أما من يعيش بين المسلمين وولد لأبوين مسلمين فإنه لا يعذر لجهله بالتوحيد ووقوعه في الشرك إذ أن ذلك هو أصل دين الإسلام.
1 مجلة المنار (14/ 625) .
2 مجلة المنار (34/ 357)
ويرى الشيخ أيضاً العذر بالتأويل فهو كما يقول: لا يكفر "أحداً بخصوصه ما لم أر أو أسمع منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح بالتصريح الذي لا يحتمل التأويل.."1. وكما يظهر أيضاً من قوله: "فإن من جحد ذلك الشيء بتأويل ظهر له لا يكون كافراً" وكما أنه ليس كل جهل عذراً فليس كل تأويل عذراً كذلك.
والشيخ رشيد في موقفه هذا متأثر بعلماء الدعوة في نجد فإنه في ذهابه إلى الاحتياط في التكفير بما لا يكفر، مع تكفيره من أشرك بالله وهو في دار الإسلام، يتبع في الحقيقة علماء نجد الموحدين، وقد نشر رسائل لبعضهم وهو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إمام نجد في عصره، وقال:"ومنها يعلم ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها"2.
ومن هذا الاحتياط والتثبت ننتقل إلى فتوى الشيخ رشيد في نازلة حادثة، وهي: التجنس بجنسية غير إسلامية، وقد أفتى فيها الشيخ بالكفر والردة.
المسألة الأولى: التجنس:
التجنس نازلة من النوازل أي من الحوادث التي لم تكن على عهد السلف، وقد وقع ما يشبه حكمها في الأندلس ثم في بلاد نجد ثم وقعت في العصر الحديث ودار حولها الجدل 3.
وأما معنى التجنس لغة: فالجنس هو كل ضرب من الشيء، فالبُر مثلاً جنس من أجناس الحبوب، ويجمع على أجناس وجنوس. والجنس أعم من
1 المصدر نفسه (2/ 462)
2 انظر: مجلة المنار (27/ 505 و 585 وأيضاً 32/ 545) والرسالة المشار إليها: في الدرر السنية (1/ 466) وما بعدها.
3 محمد بن عبد الله السبيل: مجلة المجمع الفقهي (2/ 4/103)، والشاذلي النيفر: المصدر نفسه (2/ 4/ 197)
النوع، فالحيوان جنس والإنسان نوع منه 1.
ويطلق الجنس في اصطلاح عصري على نوع بشري خاص يقابله نوع آخر لكل منهما مميزات خاصة عرقية أو اجتماعية تفرق بين صنف وصنف. وبناءً على ذلك: فالجنسية هي الصفة التي تلحق بالشخص من جهة انتسابه لشعب أو أمة.. مثل تونسي أو عربي.
فالجنسية هي هوية قانونية لكل دولة 2، وتكتسب هذه الهوية إما بالأصالة كالنسب والولادة، أو بالاكتساب الناشئ عن طلب التجنس 3، والتجنس هو: طلب انتساب إنسان إلى جنسية دولة من الدول، وموافقتها على قبوله في عداد رعاياها، وينشأ عن ذلك التجنس خضوع المتجنس لقوانين الدولة التي تجنس بجنسيتها وقبوله لها طوعاً أو كرهاً والتزام الدفاع عنها في حال الحرب، بما أنه أصبح أحد مواطنيها، ويترتب على تجنسه خضوعه لنظام هذه الدولة في المواريث وسائر الأحكام 4.
والتعريف القانوني للجنسية هو أنها "رابطة سياسية وقانونية تنشئها الدولة بقرار منها تجعل الفرد تابعاً لها أي: عضواً فيها" 5، والفرق ـ عند القانونيين ـ بين الجنسية ـ بمعناها الاصطلاحي ـ والجنس هو أن الجنسية تفيد انتساب الشخص إلى دولة معينة ـ وهو انتساب سياسي قانوني كما سبق ـ أما الجنس فيفيد انتساب الشخص إلى سلالة بشرية معينة 6.
والجنسية علاقة تعاقدية بين الدولة والفرد، فعلى الدولة واجب حماية
1 محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق والصفحة.
2 محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق (2/ 4/ 171)
3 أ. د. صوفي أبو طالب: الوجيز في القانون الدولي الخاص (ص: 161) ط. دار النهضة العربية، بيروت 1972م.
4 انظر: محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق (2/ 4/169) وصوفي أبو طالب: الوجيز (ص: 67)
5 د. صوفي أبو طالب: المصدر السابق (ص: 67)
6 المصدر نفسه (ص: 70)
الأفراد الداخلية تحت جنسيتها، وعلى الأفراد ـ في مقابل ذلك واجب الطاعة واحترام القوانين، والمساهمة في التكاليف العامة التي تفرضها الدولة، كالخدمة العسكرية ودفع الضرائب، ويكون تعبير الأفراد عن إرادتهم في هذا العقد صريحاً فيما إذا طلب الفرد جنسية دولة ما، وقد يكون ضمنياً في حالة سكوته عندما تعرض عليه الجنسية بخيار الرد "لأن السكوت في معرض الحاجة بيان" وقد يكون التعبير مفترضاً كما في حالة عديمي الإرادة كالطفل 1.
ولأن الجنسية بناءً على ما سبق تفرض على الفرد أن يلتزم أحكام دولة جنسيته فقد أفتى الشيخ رشيد وآخرون بأن الداخل تحت جنسية غير إسلامية كفرنسا وغيرها هو كافر كفر ردة، خارج عن الملة ولا يدفن في مقابر المسلمين 2. وزاد الشيخ رشيد على غيره من المتقدمين أنه بنى على ذلك أصلاً في مسألة استحلال الحرام، فإن الشيخ يرى أن من فَعَل الحرام فِعْل الحلال والمباح أي بغير حرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعاً ولو لم يكن مجمعاً عليه، فإن كان المستحل متأولاً بنص أو قاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعاً لم يحكم بردته وإلا كان مرتداً 3. وهذا التأصيل في الحقيقة هو أكبر من أصل المسألة ـ مسألة التجنس ـ لذا فإنني سأناقش المسألتين كلاًّ على حدة.
مستند الشيخ رشيد في كفر المتجنس:
استند الشيخ رشيد في حكمه على المتجنس بالكفر إلى أن "قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام خروج من الإسلام فإنه ردّ له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته، ويكفي في هذا أن يكون عالماً بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام الإسلام
…
"4.
1 المصدر نفسه (ص: 84 ـ 85)
2 مجلة المنار (25/ 28) وأيضاً (33/ 224 و 34/ 357)
3 المصدر نفسه (25/24)
4 المصدر نفسه (25/ 27)
وأيضاً:"..إن المسلم الذي يقبل الانتظام في سلك جنسية يتبدل أحكامها بأحكام القرآن فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان، فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أو قبيلة وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا.."1.
واستدل الشيخ رشيد من القرآن بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 2. قال الشيخ رشيد: "الطاغوت مصدر الطغيان ومثاره، ويدخل فيه كل ما خالف ما أنزله الله، وما حكم به رسول صلى الله عليه وسلم فإنه جعل مقابلاً له هنا وفي آيات أخرى، ومنه بعض أحكام القانون الفرنسي كإباحة الزنا والربا، دع ما يستلزمه اتباع أي جنسية سياسية غير إسلامية من قتال المسلمين وسلب بلادهم منهم.." 3.
والشيخ رشيد لا يفرق هنا بين حالة وحالة مع أنه فرق في الحكم بغير ما أنزل الله، وعذر هناك بالإكراه والاضطرار، ولم ير أن الشخص في مسألة الجنسية يكون مضطراً ولا يكون مختاراً 4 وهذا لا يسلم له.
كما ذكرت ـ قبلاً ـ أن آخرين معاصرين للشيخ أفتوا بمثل ما أفتى به منهم الشيخ علي محفوظ 5، والشيخ يوسف الدجوي 6، واستندوا إلى مثل ما استند إليه الشيخ رشيد 7.
1 المصدر نفسه (25/ 29)
2 سورة النساء، الآية (60)
3 مجلة المنار (25/ 27)
4 المصدر نفسه (25/28)
5 من كبار علماء الأزهر: فقيه واعظ، له مؤلفات. الأعلام (4/323) ومعجم المؤلفين (7/175)
6 مدرس من علماء الأزهر: فقيه مالكي، مفتي مجلة الأزهر، له مؤلفات. الأعلام (8/216) ومعجم المؤلفين (13/272)
7 انظر: مجلة المجمع الفقهي (2/ 4/ 149و155)
وإذا كان "التجنس بجنسية دولة غير إسلامية" نازلة من النوازل، فإننا ـ مع ذلك ـ لا بدّ أن نجد لها حكماً في كتاب الله ـ وكما يقول الشافعي رحمه الله "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" 1. فيقول الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.
حكم التجنس:
في ضوء الآية السابقة لا نستطيع أن نعطي المتجنسين بجنسيات الكفر حكماً واحداً، لأن حال المكره أو المضطر غير حال الراضي أو المختار، فمن المسلمين من دخل في جنسيات الكفر مكرهاً غير راضٍ بها كحال المسلمين الذين دخلوا في حكم الاتحاد السوفياتي قسرياً، وكالذين يفرون من الموت في دار الخوف إلى دار الأمان فراراً بدينهم وأرواحهم، فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يختارون هذه الجنسية حباً لها ورضى بها، وتفضيلاً لقانونها على شريعة الإسلام 3.
ولقد سلك الشيخ رشيد هذا المسلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، ففرق بين حال الاختيار وحال الاضطرار، وهما من باب واحد أي الحكم بغير ما أنزل الله والتحاكم، فليكن الأمر هنا كذلك، طرداً للباب
1 الشافعي: الرسالة (ص:20) ط. دار الكتب العلمية. بيروت/ ت: أحمد شاكر.
2 سورة النحل، الآيات (106ـ 110)
3 انظر: محمد بن عبد الله السبيل: مجلة المجمع الفقهي (2/4/ 164) ومحمد الشاذلي النيفر: المصدر نفسه (2/4/237)
وعملاً بأدلة الكتاب والسنة التي تقرن بين الحالين وتجيز للمضطر والمكره ما لا تجيز للراضي المختار 1.
وفي كل حال هناك أمور لا تجوز بحال كقتال المسلمين في صفوف الجنسية الجديدة، فإن قتل المسلم لا مندوحة فيه بحال 2.
وعلى هذا تحمل فتاوى المتقدمين 3.
المسألة الثانية: الاستحلال:
بعد بيان حكم "التجنس" قعّد الشيخ رشيد رضا قاعدة بناها على حكم التجنس، وهي قاعدة "الاستحلال العملي" لقد أشار رشيد رضا إلى قاعدة أهل السنة وما أجمعوا عليه من عدم التكفير بالمعاصي العملية إذا لم تجحد أو تستحل وإن كانت مجمعاً عليها من الدين بالضرورة 4. وأشار في ذلك إلى قول صاحب الجوهرة: فلا نكفر مسلماً بالوزر 5.
كما أشار أيضاً إلى قوله:
" ومن لمعلوم ضرورة جحد من ديننا يقتل كفراً ليس حد" 6
ثم قال: "فإن هذه القاعدة وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي أحد فروعها وهو استحلال الحرام فإنه إذا كان من المجمع عليه من الدين بالضرورة كان ردة بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب الصلاة وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة
1 انظر: مجلة المنار (25/ 28) وأيضاً (7/ 577) والتفسير (6/ 405)
2 محمد الشاذلي النيفر: المصدر السابق (2/4/ 332ـ 333)
3 انظر: محمد بن عبد الله السبيل: المصدر السابق (2/4/135) والشاذلي النيفر: المصدر نفسه (2/ 4/ 197) .
4 انظر: مجلة المنار (25/ 23)
5 انظر: جوهرة التوحيد (مع شرح البيجوري)(ص: 228)
6 المصدر السابق (ص:242)
ولا الزنا حرام. وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإن فرض المسألة: أن الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علماً ضرورياً غير قابل للتأويل سواء كان فعلاً أو تركاً يكون به مرتداً عن الإسلام، والعلم: الاعتقاد القطعي، فكيف يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد، وهو جمع بين النقيضين" 1. ثم قال معرفاً الجحد:" إن حقيقة الجحد هو إنكار الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقداً له بالقلب.. قال الراغب في مفردات القرآن 2 الجحود: نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه، يقال: جحد جحوداً وجحداً، قال عزوجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 3، وحسبنا الآية نصاً في الموضوع.."4. ثم قال: " وكذلك الاستحلال أو الاستباحة أن يفعل الشيء فعل الحلال والمباح أي بغير حرج ولا مبالاة وهو يعتقد أنه حرام شرعاً ولو لم يكن مجمعاً عليه، فإن كان المستحل متأولاً لنص أو قاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعاًلم يحكم بردته، وإلا كان مرتداً، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعاً عليه معلوماً من الدين بالضرورة" 5.
ثم وجه رشيد رضا حكمه هذا بقوله:"والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في جملته هو الإيمان، إذا الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلماً ولا يكون الاعتقاد إيماناً حتى يكون نازعاً، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان عليه وإن اختلفا في المفهوم.."6.
هذا هو تصوير مذهب الشيخ رشيد رضا في هذه المسألة، وخلاصته: أنه يكفر من فعل المعاصي واستحلها عملاً بها وإن كان يعتقد أنها محرمة
1 مجلة المنار (25/23ـ 24)
2 المفردات (ص: 187)
3 سورة النحل: الآية (14)
4 مجلة المنار (25/24)
5 المصدر نفسه والصفحة.
6 المصدر نفسه والصفحة.
في الشرع، واحتج بآية سورة النحل وبمذهب من جعل الإيمان والإسلام يتواردان على حقيقة واحدة، وإن اختلف مفهومهما، أما الآية: فمعناها أنهم جحدوا بالآيات في ظاهر الأمر ظلماً من أنفسهم وعلواً واستكباراً عن اتباع الحق، ولم يقروا بها والحال أنهم تيقنوا أنها من عند الله 1. أي أنهم رفضوا الدخول في الإيمان أصلاً لهذا السبب.
وأما القياس الذي ذهب رشيد رضا من الاتفاق على كفر من جحد معلوماً من الدين بالضرورة، فهو كما قال: متفق عليه 2، ولكن قياسه ذلك غير صحيح فإنه قياس مع الفارق بين المستحل وغيره، فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تابعة لها، فمعنى "يستحله": لا بد أن يضمن معنى يعتقده أو نحو ذلك، والاعتقاد والاستحلال بهذا المعنى لا يعرف من الشخص بمجرد العمل، فإن العاملَين قد يكونا فعلا المعصية الواحدة ولكل واحد منهما حكم، باعتبار الاستحلال وعدمه. فمعتقد حل الزنا يكفر ولو لم يزنِ. والزاني لا يكفر بزناه وإن تكرر ما لم يستحله، والاستحلال لا يعرف بمجرد الفعل ولا بد في معرفته من أن يعرب عنه لسانه 3. ولا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً 4.
1 انظر: الزجاج: معاني القرآن (4/1114) ط. عالم الكتب، الأولى 1408هـ، وابن كثير: التفسير (3/345)، وأبو السعود: إرشاد العقل السليم (6/ 275) ط. دار إحياء التراث، بيروت. والجمل: الفتوحات الإلهية (3/ 301) ط. دار إحياء التراث، بيروت، وصديق حسن خان: فتح البيان (7/ 71)
2 انظر: ابن تيمية: مجموع الفتاوى (11/ 405)
3 استفدت هذا من مناقشة مع فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد وابنه وتلميذه أستاذي الدكتور عبد الرزاق العباد. وانظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:317)
4 انظر: ابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:316 ـ 317)
المسألة الثالثة: الحكم بغير ما أنزل الله:
لم يتبع رشيد رضا في هذه المسألة أسلوب التعميم كما فعل في مسألة "التجنس" بل إنه هنا فصل تفصيلاً. وقبل أن أبين مذهب رشيد رضا في هذه المسألة، أود أن أشير إلى ملاحظة تتعلق بمسألتنا، وبغيرها من مسائل هذا الباب، وهي مسألة الأسماء كالكفر والظلم والفسق وتحديد معانيها ومدلولاتها. يرى رشيد رضا أن هذه الأسماء الثلاثة تتوارد على حقيقة واحدة في كتاب الله كما أنها ترد بمعاني مختلفة. بينما اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة وما ينافي دين الله الحق، دون لفظي الظلم والفسق. وإن كان القرآن يطلق لفظ الكفر على ما ليس بكفر في اصطلاحهم كما أنه يطلق لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم 1. كما أنه يشير إلى أن لفظ الفسق هو أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس 2.
وفيما يتعلق بمسألتنا يتحدث رشيد رضا عن الآيات التي هي الأصل فيها، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3. فيقول إن هذا الكلمات الثلاث "وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملاً على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثراً لغيره عليه، فهو الكافر به، وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب
1 انظر: تفسير المنار (6/ 403)
2 نفس المصدر (6/ 405) ولقد فصل شيخ الإسلام هذا المعنى جداً. انظر: ابن تيمية: الإيمان (ص:55 وص: 58) وما بعدها.
3 سورة المائدة، الآيات (44 و45 و47)
إلى الله
…
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر. وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج عن محيط تأديب الشريعة
…
" 1.
وبناء على ذلك يخلص الشيخ رشيد رضا إلى الحكم الذي يراه صحيحاً في هذه المسألة، وهو تفصيل الأحوال، فيقول: "فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله: فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعاً. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذا الألفاظ
…
2 وهذا التفصيل في الحكم هو المذهب الموافق للسلف 3 فلا نستطيع أن نصدر حكماً واحداً على الجميع أو في جميع الأحوال.
1 تفسير المنار (6/ 404 ـ 405)
2 المصدر نفسه.
3 انظر: ابن القيم: مدارج السالكين (1/366 ـ 337) وابن أبي العز: شرح الطحاوية (ص:446) ط. مؤسسة الرسالة، بيروت، الثالثة، 1408هـ ومحمد بن إبراهيم: تحكيم القوانين (ص:9 ـ 10) ط. الجامعة الإسلامية، ومحمد الأمين الشنقيطي: أضواء البيان (2/104)